قوله تعالى :
والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما .
قوله تعالى : والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما اختلف المفسرون في تأويل هذه الآية . فقال
النحاس : ومن أحسن ما قيل في معناه أن
من أنفق في غير طاعة الله فهو الإسراف ، ومن أمسك عن طاعة الله عز وجل فهو الإقتار ، ومن أنفق في طاعة الله تعالى فهو القوام . وقال
ابن عباس : من أنفق مائة ألف في حق فليس بسرف ، ومن أنفق درهما في غير حقه فهو سرف ، ومن منع من حق عليه فقد قتر . وقاله
مجاهد وابن زيد وغيرهما . وقال
عون بن عبد الله : الإسراف أن تنفق مال غيرك . قال
ابن عطية : وهذا ونحوه غير مرتبط بالآية . والوجه أن يقال : إن النفقة في معصية أمر قد حظرت الشريعة قليله وكثيره وكذلك التعدي على مال الغير ، وهؤلاء الموصوفون منزهون عن ذلك ، وإنما التأديب في هذه الآية هو في نفقة الطاعات في المباحات ، فأدب الشرع فيها ألا يفرط الإنسان حتى يضيع حقا آخر أو عيالا ونحو هذا ، وألا يضيق أيضا ويقتر حتى يجيع العيال ويفرط في الشح ،
والحسن في ذلك هو القوام ، أي العدل ، والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله ، وخفة ظهره وصبره وجلده على الكسب ، أو ضد هذه الخصال ، وخير الأمور أوساطها ; ولهذا
ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق أن يتصدق بجميع ماله ; لأن ذلك وسط بنسبة جلده وصبره في الدين ، ومنع غيره من ذلك . ونعم ما قال
nindex.php?page=showalam&ids=12354إبراهيم النخعي : هو الذي لا يجيع ولا يعري ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف . وقال
يزيد بن أبي حبيب : هم الذين لا يلبسون الثياب لجمال ، ولا يأكلون طعاما للذة . وقال
يزيد [ ص: 71 ] أيضا في هذه الآية : أولئك أصحاب
محمد صلى الله عليه وسلم كانوا لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة ، ولا يلبسون ثيابا للجمال ، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع ويقويهم على عبادة ربهم ، ومن اللباس ما يستر عوراتهم ويكنهم من الحر والبرد . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16491عبد الملك بن مروان nindex.php?page=showalam&ids=16673لعمر بن عبد العزيز حين زوجه ابنته
فاطمة : ما نفقتك ؟ فقال له
عمر : الحسنة بين سيئتين ، ثم تلا هذه الآية . وقال
عمر بن الخطاب : كفى بالمرء سرفا ألا يشتهي شيئا إلا اشتراه فأكله . وفي سنن
ابن ماجه عن
أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832188إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت وقال
أبو عبيدة : لم يزيدوا على المعروف ولم يبخلوا . كقوله تعالى :
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط وقال الشاعر :
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقال آخر :
إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت ولم ينهها تاقت إلى كل باطل
وساقت إليه الإثم والعار بالذي دعته إليه من حلاوة عاجل
وقال
عمر لابنه
عاصم : يا بني ، كل في نصف بطنك ; ولا تطرح ثوبا حتى تستخلقه ، ولا تكن من قوم يجعلون ما رزقهم الله في بطونهم وعلى ظهورهم .
nindex.php?page=showalam&ids=76ولحاتم طيئ :
إذا أنت قد أعطيت بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
ولم يقتروا قرأ
حمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي nindex.php?page=showalam&ids=13726والأعمش وعاصم ويحيى بن وثاب على اختلاف عنهما
يقتروا بفتح الياء وضم التاء ، وهي قراءة حسنة ; من قتر يقتر . وهذا القياس في اللازم ، مثل قعد يقعد . وقرأ
أبو عمرو بن العلاء وابن كثير بفتح الياء وكسر التاء ، وهي لغة معروفة حسنة . وقرأ
أهل المدينة وابن عامر وأبو بكر عن
عاصم بضم الياء وكسر التاء . قال
الثعلبي : كلها لغات صحيحة .
النحاس : وتعجب
أبو حاتم من قراءة
أهل المدينة هذه ; لأن
أهل المدينة عنده لا يقع في قراءتهم الشاذ ، وإنما يقال : أقتر يقتر إذا افتقر ، كما قال عز وجل :
وعلى المقتر قدره وتأول
أبو حاتم لهم أن المسرف يفتقر سريعا . وهذا تأويل بعيد ،
[ ص: 72 ] ولكن التأويل لهم أن
nindex.php?page=showalam&ids=13996أبا عمر الجرمي حكى عن
الأصمعي أنه يقال للإنسان إذا ضيق : قتر يقتر ويقتر ، وأقتر يقتر . فعلى هذا تصح القراءة ، وإن كان فتح الياء أصح وأقرب متناولا ، وأشهر وأعرف . وقرأ
أبو عمرو والناس
قواما بفتح القاف ; يعني عدلا . وقرأ
حسان بن عبد الرحمن : " قواما " بكسر القاف ; أي مبلغا وسدادا وملاك حال . والقوام بكسر القاف ، ما يدوم عليه الأمر ويستقر . وقيل : هما لغتان بمعنى . و ( قواما ) خبر كان ، واسمها مقدر فيها ، أي كان الإنفاق بين الإسراف والقتر قواما ، قاله
الفراء . وله قول آخر يجعل " بين " اسم كان وينصبها ; لأن هذه الألفاظ كثير استعمالها فتركت على حالها في موضع الرفع . قال
النحاس : ما أدري ما وجه هذا ; لأن " بين " إذا كانت في موضع رفع رفعت ; كما يقال : بين عينيه أحمر .