[ ص: 114 ] قوله تعالى :
كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين إن هذا إلا خلق الأولين وما نحن بمعذبين فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم .
قوله تعالى : كذبت عاد المرسلين التأنيث بمعنى القبيلة والجماعة . وتكذيبهم المرسلين كما تقدم .
إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين بين المعنى وقد تقدم .
قوله تعالى :
أتبنون بكل ريع آية تعبثون الريع ما ارتفع من الأرض في قول
ابن عباس وغيره ، جمع ريعة . وكم ريع أرضك أي كم ارتفاعها . وقال
قتادة : الريع الطريق . وهو قول
الضحاك والكلبي ومقاتل nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي . وقاله
ابن عباس أيضا . ومنه قول
المسيب بن علس :
في الآل يخفضها ويرفعها ريع يلوح كأنه سحل
شبه الطريق بثوب أبيض .
النحاس : ومعروف في اللغة أن يقال لما ارتفع من الأرض ريع وللطريق ريع . قال الشاعر [
nindex.php?page=showalam&ids=15871ذو الرمة ] :
طراق الخوافي مشرق فوق ريعة ندى ليله في ريشه يترقرق
وقال
عمارة : الريع : الجبل ، الواحد ريعة والجمع رياع . وقال
مجاهد : هو الفج بين الجبلين . وعنه : الثنية الصغيرة . وعنه : المنظرة . وقال
عكرمة ومقاتل : كانوا يهتدون بالنجوم إذا سافروا ، فبنوا على الطريق أمثالا طوالا ليهتدوا بها : يدل عليه قوله تعالى : ( آية ) أي علامة . وعن
مجاهد : الريع بنيان الحمام ، دليله ( تعبثون ) أي تلعبون ; أي تبنون بكل مكان مرتفع آية . علما تلعبون بها على معنى أبنية الحمام وبروجها . وقيل : تعبثون بمن يمر في
[ ص: 115 ] الطريق . أي تبنون بكل موضع مرتفع لتشرفوا على السابلة فتسخروا منهم . وقال
الكلبي : إنه عبث العشارين بأموال من يمر بهم ; ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=15151الماوردي . وقال
ابن الأعرابي : الريع الصومعة ، والريع البرج من الحمام يكون في الصحراء . والريع التل العالي . وفي الريع لغتان : كسر الراء وفتحها ، وجمعها : أرياع ، ذكره
الثعلبي .
قوله تعالى :
وتتخذون مصانع أي منازل ; قاله
الكلبي . وقيل : حصونا مشيدة ; قال
ابن عباس ومجاهد . ومنه قول الشاعر :
تركنا ديارهم منهم قفارا وهدمنا المصانع والبروجا
وقيل : قصورا مشيدة ; وقاله
مجاهد أيضا . وعنه : بروج الحمام ; وقاله
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي . قلت : وفيه بعد عن
مجاهد ; لأنه تقدم عنه في الريع أنه بنيان الحمام فيكون تكرارا في الكلام . وقال
قتادة : مآجل للماء تحت الأرض . وكذا قال
الزجاج : إنها مصانع الماء ، واحدتها مصنعة ومصنع . ومنه قول
لبيد :
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع وتبقى الجبال بعدنا والمصانع
الجوهري : المصنعة كالحوض يجتمع فيها ماء المطر ، وكذلك المصنعة بضم النون . والمصانع الحصون . وقال
أبو عبيدة : يقال لكل بناء مصنعة . حكاه
المهدوي . وقال
عبد الرزاق : المصانع عندنا بلغة
اليمن القصور العادية .
لعلكم تخلدون أي كي تخلدوا . وقيل : " لعل " استفهام بمعنى التوبيخ أي فهل تخلدون كقولك : لعلك تشتمني أي هل تشتمني . روي معناه
عن ابن زيد . وقال
الفراء : كيما تخلدون لا تتفكرون في الموت . وقال
ابن عباس وقتادة : كأنكم خالدون باقون فيها . وفي بعض القراءات ( كأنكم تخلدون ) ذكره
النحاس . وحكى
قتادة : أنها كانت في بعض القراءات ( كأنكم خالدون ) .
قوله تعالى :
وإذا بطشتم بطشتم جبارين البطش السطوة والأخذ بالعنف وقد بطش به يبطش ويبطش بطشا . وباطشه مباطشة . وقال
ابن عباس ومجاهد . : البطش العسف قتلا بالسيف وضربا بالسوط . ومعنى ذلك : فعلتم ذلك ظلما . وقال
مجاهد أيضا : هو ضرب بالسياط ; ورواه
مالك بن أنس عن
نافع عن
ابن عمر فيما ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي . وقيل : هو القتل بالسيف في غير حق . حكاه
يحيى بن سلام . وقال
الكلبي والحسن : هو القتل على الغضب من غير تثبت . وكله يرجع إلى قول
ابن عباس . وقيل : إنه المؤاخذة على العمد والخطأ من غير
[ ص: 116 ] عفو ولا إبقاء . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : ويؤيد ما قال
مالك قول الله تعالى عن
موسى :
فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وذلك أن
موسى عليه السلام لم يسل عليه سيفا ولا طعنه برمح ، وإنما وكزه وكانت منيته في وكزته . والبطش يكون باليد وأقله الوكز والدفع ، ويليه السوط والعصا ، ويليه الحديد ، والكل مذموم إلا بحق . والآية نزلت خبرا عمن تقدم من الأمم ، ووعظا من الله عز وجل لنا في مجانبة ذلك الفعل الذي ذمهم به وأنكره عليهم .
قلت : وهذه الأوصاف المذمومة قد صارت في كثير من هذه الأمة ، لا سيما
بالديار المصرية منذ وليتها البحرية ; فيبطشون بالناس بالسوط والعصا في غير حق . وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن ذلك يكون . كما في صحيح
مسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832198صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا . وخرج
أبو دواد من حديث
ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832199إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم . " جبارين " : قتالين . والجبار : القتال في غير حق . وكذلك قوله تعالى :
إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض قاله
الهروي . وقيل : الجبار المتسلط العاتي ; ومنه قوله تعالى :
وما أنت عليهم بجبار أي بمسلط . وقال الشاعر :
[ ص: 117 ] سلبنا من الجبار بالسيف ملكه عشيا وأطراف الرماح شوارع
قوله تعالى :
فاتقوا الله وأطيعون تقدم .
واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أي من الخيرات ; ثم فسرها بقوله :
أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون أمدكم بأنعام وبنين أي سخر ذلك لكم وتفضل بها عليكم ، فهو الذي يجب أن يعبد ويشكر ولا يكفر .
وجنات وعيون أي سخر ذلك لكم وتفضل بها عليكم ، فهو الذي يجب أن يعبد ويشكر ولا يكفر .
إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم إن كفرتم به وأصررتم على ذلك .
قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين كل ذلك عندنا سواء لا نسمع منك ولا نلوي على ما تقوله . وروى
العباس عن
أبي عمرو وبشر عن
الكسائي : ( أوعظت ) مدغمة الظاء في التاء وهو بعيد ; لأن الظاء حرف إطباق إنما يدغم فيما قرب منه جدا وكان مثله ومخرجه .
إن هذا إلا خلق الأولين أي دينهم ; عن
ابن عباس وغيره . وقال
الفراء : عادة الأولين . وقرأ
ابن كثير وأبو عمرو nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي : ( خلق الأولين ) الباقون " خلق " . قال
الهروي : وقوله عز وجل :
إن هذا إلا خلق الأولين أي اختلاقهم وكذبهم ، ومن قرأ :
خلق الأولين فمعناه عادتهم ، والعرب تقول : حدثنا فلان بأحاديث الخلق أي بالخرافات والأحاديث المفتعلة . وقال
ابن الأعرابي : الخلق الدين والخلق الطبع والخلق المروءة .
قال
النحاس : ( خلق الأولين ) عند
الفراء يعني عادة الأولين . وحكى لنا
محمد بن الوليد عن
محمد بن يزيد قال : ( خلق الأولين ) مذهبهم وما جرى عليه أمرهم ; قال
أبو جعفر : والقولان متقاربان ، ومنه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=hadith&LINKID=832200أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا أي أحسنهم مذهبا وعادة وما يجري عليه الأمر في طاعة الله عز وجل ، ولا يجوز أن يكون من كان حسن الخلق فاجرا ، فاضلا ولا أن يكون أكمل إيمانا من السيئ الخلق الذي ليس بفاجر . قال
أبو جعفر : حكي لنا عن
محمد بن يزيد أن معنى ( خلق الأولين ) تكذيبهم وتخرصهم غير أنه كان يميل إلى القراءة الأولى ; لأن فيها مدح آبائهم ، وأكثر ما جاء القرآن في صفتهم مدحهم لآبائهم ، وقولهم :
إنا وجدنا آباءنا على أمة . وعن
أبي قلابة : أنه قرأ : ( خلق ) بضم الخاء وإسكان اللام تخفيف " خلق " . ورواها
nindex.php?page=showalam&ids=13033ابن جبير عن أصحاب
نافع عن
نافع . وقد قيل : إن معنى
خلق الأولين دين الأولين . ومنه قوله تعالى :
فليغيرن خلق الله أي دين الله . و
خلق الأولين عادة الأولين : حياة ثم موت ولا بعث . وقيل : ما هذا الذي أنكرت علينا من البنيان والبطش إلا عادة من قبلنا فنحن نقتدي
[ ص: 118 ] بهم
وما نحن بمعذبين على ما نفعل . وقيل : المعنى خلق أجسام الأولين ; أي ما خلقنا إلا كخلق الأولين الذين خلقوا قبلنا وماتوا ، ولم ينزل بهم شيء مما تحذرنا به من العذاب .
فكذبوه فأهلكناهم أي بريح صرصر عاتية على ما يأتي في ( الحاقة ) .
إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين قال بعضهم : أسلم معه ثلاثمائة ألف ومئون وهلك باقيهم .
وإن ربك لهو العزيز الرحيم .