قوله تعالى :
وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون .
فيه ست مسائل :
الأولى :
قوله تعالى : وإني مرسلة إليهم بهدية هذا من حسن نظرها وتدبيرها ; أي إني أجرب هذا الرجل بهدية ، وأعطيه فيها نفائس من الأموال ، وأغرب عليه بأمور المملكة : فإن كان ملكا دنياويا أرضاه المال وعملنا معه بحسب ذلك ، وإن كان نبيا لم يرضه المال ولازمنا
[ ص: 183 ] في أمر الدين ، فينبغي لنا أن نؤمن به ونتبعه على دينه ، فبعثت إليه بهدية عظيمة أكثر الناس في تفصيلها ، فقال
سعيد بن جبير عن
ابن عباس : أرسلت إليه بلبنة من ذهب ، فرأت الرسل الحيطان من ذهب فصغر عندهم ما جاءوا به . وقال
مجاهد : أرسلت إليه بمائتي غلام ومائتي جارية . وروي عن
ابن عباس : باثنتي عشرة وصيفة مذكرين قد ألبستهم زي الغلمان ، واثني عشر غلاما مؤنثين قد ألبستهم زي النساء ، وعلى يد الوصائف أطباق مسك وعنبر ، وباثنتي عشرة نجيبة تحمل لبن الذهب ، وبخرزتين إحداهما غير مثقوبة ، والأخرى مثقوبة ثقبا معوجا ، وبقدح لا شيء فيه ، وبعصا كان يتوارثها ملوك حمير ، وأنفذت الهدية مع جماعة من قومها . وقيل : كان الرسول واحدا ولكن كان في صحبته أتباع وخدم . وقيل : أرسلت رجلا من أشراف قومها يقال له
المنذر بن عمرو ، وضمت إليه رجالا ذوي رأي وعقل ، والهدية مائة وصيف ومائة وصيفة ، وقد خولف بينهم في اللباس ، وقالت للغلمان : إذا كلمكم
سليمان فكلموه بكلام فيه تأنيث يشبه كلام النساء ، وقالت للجواري : كلمنه بكلام فيه غلظ يشبه كلام الرجال ; فيقال : إن الهدهد جاء وأخبر
سليمان بذلك كله .
وقيل : إن الله أخبر
سليمان بذلك ، فأمر
سليمان عليه السلام أن يبسط من موضعه إلى تسع فراسخ بلبنات الذهب والفضة ، ثم قال : أي الدواب رأيتم أحسن في البر والبحر ؟ قالوا : يا نبي الله رأينا في بحر كذا دواب منقطة مختلفة ألوانها ، لها أجنحة وأعراف ونواصي ; فأمر بها فجاءت فشدت على يمين الميدان وعلى يساره ، وعلى لبنات الذهب والفضة ، وألقوا لها علوفاتها ; ثم قال : للجن علي بأولادكم ; فأقامهم - أحسن ما يكون من الشباب - عن يمين الميدان ويساره . ثم قعد
سليمان عليه السلام على كرسيه في مجلسه ، ووضع له أربعة آلاف كرسي من ذهب عن يمينه ومثلها عن يساره ، وأجلس عليها الأنبياء والعلماء ، وأمر الشياطين والجن والإنس أن يصطفوا صفوفا فراسخ ، وأمر السباع والوحوش والهوام والطير فاصطفوا فراسخ عن يمينه وشماله ، فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك
سليمان ، ورأوا الدواب التي لم تر أعينهم أحسن منها تروث على لبنات الذهب والفضة ، تقاصرت إليهم أنفسهم ، ورموا ما معهم من الهدايا . وفي بعض الروايات : إن
سليمان لما أمرهم بفرش الميدان بلبنات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعا على قدر موضع بساط من الأرض غير مفروش ، فلما مروا به خافوا أن يتهموا بذلك فطرحوا ما معهم في ذلك المكان ، فلما رأوا الشياطين رأوا منظرا هائلا فظيعا ففزعوا وخافوا ، فقالت لهم الشياطين : جوزوا لا بأس عليكم ; فكانوا يمرون على كردوس كردوس من الجن والإنس والبهائم والطير والسباع والوحوش حتى وقفوا بين يدي
سليمان ، فنظر إليهم
سليمان نظرا حسنا بوجه طلق ، وكانت قالت لرسولها : إن نظر إليك نظر مغضب فاعلم أنه ملك فلا يهولنك منظره
[ ص: 184 ] فأنا أعز منه ، وإن رأيت الرجل بشا لطيفا فاعلم أنه نبي مرسل فتفهم قوله ورد الجواب ، فأخبر الهدهد
سليمان بذلك على ما تقدم . وكانت عمدت إلى حقة من ذهب فجعلت فيها درة يتيمة غير مثقوبة ، وخرزة معوجة الثقب ، وكتبت كتابا مع رسولها تقول فيه : إن كنت نبيا فميز بين الوصفاء والوصائف ، وأخبر بما في الحقة ، وعرفني رأس العصا من أسفلها ، واثقب الدرة ثقبا مستويا ، وأدخل خيط الخرزة ، واملأ القدح ماء من ندى ليس من الأرض ولا من السماء ; فلما وصل الرسول ووقف بين يدي
سليمان أعطاه كتاب الملكة فنظر فيه ، وقال : أين الحقة ؟ فأتى بها فحركها ; فأخبره
جبريل بما فيها ، ثم أخبرهم
سليمان . فقال له الرسول : صدقت ; فاثقب الدرة ، وأدخل الخيط في الخرزة ; فسأل
سليمان الجن والإنس عن ثقبها فعجزوا ; فقال للشياطين : ما الرأي فيها ؟ فقالوا : ترسل إلى الأرضة ، فجاءت الأرضة فأخذت شعرة في فيها حتى خرجت من الجانب الآخر ; فقال لها
سليمان : ما حاجتك ؟ قالت : تصير رزقي في الشجرة ; فقال لها : لك ذلك . ثم قال
سليمان : من لهذه الخرزة يسلكها الخيط ؟ فقالت دودة بيضاء : أنا لها يا نبي الله ; فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر ; فقال لها
سليمان : ما حاجتك ؟ قالت تجعل رزقي في الفواكه ; قال : ذلك لك . ثم ميز بين الغلمان والجواري . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : أمرهم بالوضوء ، فجعل الرجل يحدر الماء على اليد والرجل حدرا ، وجعل الجواري يصببن من اليد اليسرى على اليد اليمنى ، ومن اليمنى على اليسرى ، فميز بينهم بهذا . وقيل : كانت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ، ثم تحمله على الأخرى ، ثم تضرب به على الوجه ; والغلام كان يأخذ الماء من الآنية يضرب به في الوجه ، والجارية تصب على بطن ساعدها ، والغلام على ظهر الساعد ، والجارية تصب الماء صبا ، والغلام يحدر على يديه ; فميز بينهم بهذا . وروى
يعلى بن مسلم عن
سعيد بن جبير قال : أرسلت
بلقيس بمائتي وصيفة ووصيف ، وقالت : إن كان نبيا فسيعلم الذكور من الإناث ، فأمرهم فتوضئوا ; فمن توضأ منهم فبدأ بمرفقه قبل كفه قال هو من الإناث ، ومن بدأ بكفه قبل مرفقه قال هو من الذكور ; ثم أرسل العصا إلى الهواء فقال : أي الرأسين سبق إلى الأرض فهو أصلها ، وأمر بالخيل فأجريت حتى عرقت وملأ القدح من عرقها ، ثم رد
سليمان الهدية ; فروي أنه لما صرف الهدية إليها وأخبرها رسولها بما شاهد ; قالت لقومها : هذا أمر من السماء .
[ ص: 185 ] الثانية : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها ولا يقبل الصدقة ، وكذلك كان
سليمان عليه السلام وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين . وإنما جعلت
بلقيس قبول الهدية أو ردها علامة على ما في نفسها ; على ما ذكرناه من كون
سليمان ملكا أو نبيا ; لأنه قال لها في كتابه :
ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين وهذا لا تقبل فيه فدية ، ولا يؤخذ عنه هدية ، وليس هذا من الباب الذي تقرر في الشريعة عن
قبول الهدية بسبيل ، وإنما هي رشوة وبيع الحق بالباطل ، وهي الرشوة التي لا تحل . وأما
الهدية المطلقة للتحبب والتواصل فإنها جائزة من كل أحد وعلى كل حال ، وهذا ما لم يكن من مشرك .
الثالثة : فإن كانت من مشرك ففي الحديث
nindex.php?page=hadith&LINKID=832229نهيت عن زبد المشركين يعني رفدهم وعطاياهم . وروي عنه عليه السلام أنه قبلها كما في حديث
مالك عن
ثور بن زيد الدبلي وغيره ، فقال جماعة من العلماء بالنسخ فيهما ، وقال آخرون : ليس فيها ناسخ ولا منسوخ ، والمعنى فيها : أنه كان لا يقبل هدية من يطمع بالظهور عليه وأخذ بلده ودخوله في الإسلام ، وبهذه الصفة كانت حالة
سليمان عليه السلام ، فعن مثل هذا نهى أن تقبل هديته حملا على الكف عنه ; وهذا أحسن تأويل للعلماء في هذا ; فإنه جمع بين الأحاديث . وقيل غير هذا .
الرابعة : الهدية مندوب إليها ، وهي مما تورث المودة وتذهب العداوة ; روى
مالك عن
عطاء بن عبد الله الخراساني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832230تصافحوا يذهب الغل وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء . وروى
معاوية بن الحكم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=864376تهادوا فإنه يضعف الود ويذهب بغوائل الصدر . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني : تفرد به
ابن بجير عن أبيه
[ ص: 186 ] عن
مالك ، ولم يكن بالرضي ، ولا يصح عن
مالك ولا عن
الزهري . وعن
ابن شهاب قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
تهادوا بينكم فإن الهدية تذهب السخيمة قال
ابن وهب : سألت
يونس عن السخيمة ما هي فقال : الغل . وهذا الحديث وصله
nindex.php?page=showalam&ids=16551الوقاصي عثمان عن
الزهري وهو ضعيف . وعلى الجملة : فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ، وفيه الأسوة الحسنة . ومن
فضل الهدية مع اتباع السنة أنها تزيل حزازات النفوس ، وتكسب المهدي والمهدى إليه رنة في اللقاء والجلوس . ولقد أحسن من قال :
هدايا الناس بعضهم لبعض تولد في قلوبهم الوصالا وتزرع في الضمير هوى وودا
وتكسبهم إذا حضروا جمالا
آخر :
إن الهدايا لها حظ إذا وردت أحظى من الابن عند الوالد الحدب
الخامسة : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
جلساؤكم شركاؤكم في الهدية واختلف في معناه ; فقيل : هو محمول على ظاهره . وقيل : يشاركهم على وجه الكرم والمروءة ، فإن لم يفعل فلا يجبر عليه . وقال
أبو يوسف : ذلك في الفواكه ونحوها . وقال بعضهم : هم شركاؤه في السرور لا في الهدية . والخبر محمول في أمثال أصحاب الصفة والخوانق والرباطات ; أما إذا كان فقيها من الفقهاء اختص بها فلا شركة فيها لأصحابه ، فإن أشركهم فذلك كرم وجود منه .
السادسة : قوله تعالى :
فناظرة أي منتظرة
بم يرجع المرسلون قال
قتادة : يرحمها الله إن كانت لعاقلة في إسلامها وشركها ; قد علمت أن الهدية تقع موقعا من الناس . وسقطت الألف في ( بم ) للفرق بين ( ما ) الخبرية . وقد يجوز إثباتها ; قال [
حسان بن المنذر ] :
على ما قام يشتمني لئيم كخنزير تمرغ في رماد