قوله تعالى :
ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين .
فيه خمس مسائل :
الأولى :
قوله تعالى : ومن الناس من يشتري لهو الحديث من في موضع رفع بالابتداء . و ( لهو الحديث ) : الغناء ; في قول
ابن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس وغيرهما .
النحاس : وهو ممنوع بالكتاب والسنة ; والتقدير : من يشتري ذا لهو أو ذات لهو ; مثل :
واسأل القرية . أو يكون التقدير : لما كان إنما اشتراها يشتريها ويبالغ في ثمنها كأنه اشتراها للهو .
قلت : هذه إحدى الآيات الثلاث التي استدل بها العلماء على
كراهة الغناء والمنع منه . والآية الثانية قوله تعالى :
وأنتم سامدون . قال
ابن عباس : هو الغناء بالحميرية ; اسمدي لنا ; أي غني لنا .
والآية الثالثة قوله تعالى :
واستفزز من استطعت منهم بصوتك قال
مجاهد : الغناء والمزامير . وقد مضى في ( سبحان ) الكلام فيه . وروى
الترمذي عن
أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832298لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ، ولا خير في تجارة فيهن ، وثمنهن حرام في مثل هذا أنزلت هذه الآية :
ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله إلى آخر الآية . قال
أبو عيسى : هذا حديث غريب ، إنما يروى من حديث
القاسم عن
أبي أمامة ،
والقاسم ثقة
وعلي بن يزيد يضعف في الحديث ; قاله
nindex.php?page=showalam&ids=12070محمد بن إسماعيل . قال
ابن عطية : وبهذا فسر
ابن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=36وجابر بن عبد الله ومجاهد ، وذكره
nindex.php?page=showalam&ids=11890أبو الفرج الجوزي عن
الحسن nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير وقتادة والنخعي .
[ ص: 49 ] قلت : هذا أعلى ما قيل في هذه الآية ، وحلف على ذلك
ابن مسعود بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات إنه الغناء . روى
سعيد بن جبير عن
أبي الصهباء البكري قال : سئل
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود عن قوله تعالى :
ومن الناس من يشتري لهو الحديث فقال : الغناء والله الذي لا إله إلا هو ; يرددها ثلاث مرات . وعن
ابن عمر أنه الغناء ; وكذلك قال
عكرمة nindex.php?page=showalam&ids=17188وميمون بن مهران ومكحول . وروى
شعبة وسفيان عن
الحكم وحماد عن
إبراهيم قال : قال
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود :
الغناء ينبت النفاق في القلب ; وقاله
مجاهد ، وزاد : إن لهو الحديث في الآية الاستماع إلى الغناء وإلى مثله من الباطل . وقال
الحسن : لهو الحديث المعازف والغناء . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14946القاسم بن محمد : الغناء باطل والباطل في النار . وقال
ابن القاسم سألت
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالكا عنه فقال : قال الله تعالى :
فماذا بعد الحق إلا الضلال أفحق هو ؟ ! وترجم
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ( باب ) كل لهو باطل إذا شغل عن طاعة الله ، ومن قال لصاحبه تعالى أقامرك ، وقوله تعالى :
ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا فقوله : إذا شغل عن طاعة الله مأخوذ من قوله تعالى :
ليضل عن سبيل الله . وعن
الحسن أيضا : هو الكفر والشرك . وتأوله قوم على الأحاديث التي يتلهى بها أهل الباطل واللعب .
وقيل : نزلت في
النضر بن الحارث ; لأنه اشترى كتب الأعاجم :
رستم ،
وإسفنديار ; فكان يجلس
بمكة ، فإذا قالت
قريش إن
محمدا قال كذا ضحك منه ، وحدثهم بأحاديث ملوك
الفرس ويقول : حديثي هذا أحسن من حديث
محمد ; حكاه
الفراء والكلبي وغيرهما . وقيل : كان يشتري المغنيات فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول : أطعميه واسقيه وغنيه ; ويقول : هذا خير مما يدعوك إليه
محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه . وهذا القول والأول ظاهر في الشراء . وقالت طائفة : الشراء في هذه الآية مستعار ، وإنما نزلت الآية في أحاديث
قريش وتلهيهم بأمر الإسلام وخوضهم في الباطل . قال
ابن عطية : فكان ترك ما يجب فعله وامتثال هذه المنكرات شراء لها ; على حد قوله تعالى :
أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ; اشتروا الكفر بالإيمان ، أي استبدلوه منه واختاروه عليه . وقال
مطرف : شراء لهو الحديث استحبابه .
قتادة : ولعله لا ينفق فيه مالا ، ولكن سماعه شراؤه .
[ ص: 50 ] قلت : القول الأول أولى ما قيل به في هذا الباب ; للحديث المرفوع فيه ، وقول الصحابة والتابعين فيه . وقد زاد
الثعلبي والواحدي في حديث
أبي أمامة : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=864490وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربان بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت ) . وروى
الترمذي وغيره من حديث
أنس وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=864491صوتان ملعونان فاجران أنهى عنهما : صوت مزمار ورنة شيطان عند نغمة ومرح ، ورنة عند مصيبة لطم خدود وشق جيوب . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=15639جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن
علي عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
بعثت بكسر المزامير ) خرجه
أبو طالب الغيلاني . وخرج
ابن بشران عن
عكرمة عن
ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (
بعثت بهدم المزامير والطبل ) . وروى
الترمذي من حديث
علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832299إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء - فذكر منها : إذا اتخذت القينات والمعازف . وفي حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة : وظهرت القيان والمعازف . وروى
ابن المبارك عن
مالك بن أنس عن
محمد بن المنكدر عن
أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
من جلس إلى قينة يسمع منها صب في أذنه الآنك يوم القيامة . وروى
أسد بن موسى عن
عبد العزيز بن أبي سلمة عن
محمد بن المنكدر قال : بلغنا أن الله تعالى يقول يوم القيامة : " أين
[ ص: 51 ] عبادي الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان أحلوهم رياض المسك وأخبروهم أني قد أحللت عليهم رضواني " . وروى
ابن وهب عن
مالك عن
محمد بن المنكدر مثله ، وزاد بعد قوله " المسك " : " ثم يقول للملائكة أسمعوهم حمدي وشكري وثنائي ، وأخبروهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون " . وقد روي مرفوعا هذا المعنى من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=110أبي موسى الأشعري أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن له أن يسمع الروحانيين . فقيل : ومن الروحانيون يا رسول الله ؟ قال : قراء أهل الجنة خرجه
الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول ، وقد ذكرنا في كتاب التذكرة مع نظائره :
nindex.php?page=hadith&LINKID=864496فمن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة ، ومن لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة . إلى غير ذلك . وكل ذلك صحيح المعنى على ما بيناه هناك . ومن رواية
مكحول عن
عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
من مات وعنده جارية مغنية فلا تصلوا عليه . ولهذه الآثار وغيرها قال العلماء بتحريم الغناء . وهي المسألة : -
الثانية : وهو
الغناء المعتاد عند المشتهرين به ، الذي يحرك النفوس ويبعثها على الهوى والغزل ، والمجون الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن ; فهذا النوع إذا كان في شعر يشبب فيه بذكر النساء ووصف محاسنهن وذكر الخمور والمحرمات لا يختلف في تحريمه ; لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق . فأما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح ; كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة ، كما كان في حفر الخندق وحدو
أنجشة nindex.php?page=showalam&ids=119وسلمة بن الأكوع . فأما
ما ابتدعته الصوفية اليوم من الإدمان على سماع المغاني بالآلات المطربة من الشبابات والطار والمعازف والأوتار فحرام . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : فأما
طبل الحرب فلا [ ص: 52 ] حرج فيه ; لأنه يقيم النفوس ويرهب العدو . وفي اليراعة تردد .
والدف مباح .
الجوهري : وربما سموا قصبة الراعي التي يزمر بها هيرعة ويراعة . قال
القشيري :
nindex.php?page=hadith&LINKID=864498ضرب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل المدينة ، فهم أبو بكر بالزجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعهن يا أبا بكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح ، فكن يضربن ويقلن :
نحن بنات النجار ، حبذا محمد من جار
. وقد قيل : إن
الطبل في النكاح كالدف ، وكذلك الآلات المشهرة للنكاح يجوز استعمالها فيه بما يحسن من الكلام ولم يكن فيه رفث .
الثالثة : الاشتغال بالغناء على الدوام سفه ترد به الشهادة ، فإن لم يدم لم ترد . وذكر
إسحاق بن عيسى الطباع قال : سألت
مالك بن أنس عما يرخص فيه أهل
المدينة من الغناء فقال : إنما يفعله عندنا الفساق . وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=11872أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري قال : أما
مالك بن أنس فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه ، وقال :
إذا اشترى جارية ووجدها مغنية كان له ردها بالعيب ; وهو مذهب سائر
أهل المدينة ; إلا
إبراهيم بن سعد فإنه حكى عنه
زكريا الساجي أنه كان لا يرى به بأسا . وقال
ابن خويز منداد : فأما
مالك فيقال عنه : إنه كان عالما بالصناعة وكان مذهبه تحريمها . وروي عنه أنه قال : تعلمت هذه الصناعة وأنا غلام شاب ، فقالت لي أمي : أي بني ! إن هذه الصناعة يصلح لها من كان صبيح الوجه ولست كذلك ، فطلب العلوم الدينية ; فصحبت
ربيعة فجعل الله في ذلك خيرا . قال
أبو الطيب الطبري : وأما مذهب
أبي حنيفة فإنه يكره الغناء مع إباحته شرب النبيذ ، ويجعل
سماع الغناء من الذنوب . وكذلك مذهب سائر
أهل الكوفة :
إبراهيم nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي وحماد nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري وغيرهم ، لا اختلاف بينهم في ذلك . وكذلك لا يعرف بين أهل
البصرة خلاف في كراهية ذلك والمنع منه ; إلا ما روي عن
عبيد الله بن الحسن العنبري أنه كان لا يرى به بأسا . قال : وأما مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي فقال : الغناء مكروه يشبه الباطل ، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته .
وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=11890أبو الفرج الجوزي عن إمامه
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل ثلاث روايات قال : وقد ذكر أصحابنا عن
nindex.php?page=showalam&ids=12706أبي بكر الخلال وصاحبه
عبد العزيز إباحة الغناء ، وإنما أشاروا إلى ما كان في زمانهما من القصائد الزهديات ; قال : وعلى هذا يحمل ما لم يكرهه
أحمد ; ويدل عليه أنه سئل عن رجل
مات وخلف ولدا وجارية مغنية فاحتاج الصبي إلى بيعها ، فقال :
[ ص: 53 ] تباع على أنها ساذجة لا على أنها مغنية . فقيل له : إنها تساوي ثلاثين ألفا ; ولعلها إن بيعت ساذجة تساوي عشرين ألفا ؟ فقال : لا تباع إلا على أنها ساذجة . قال
أبو الفرج : وإنما قال
أحمد هذا لأن هذه الجارية المغنية لا تغني بقصائد الزهد ، بل بالأشعار المطربة المثيرة إلى العشق .
وهذا دليل على أن الغناء محظور ; إذ لو لم يكن محظورا ما جاز تفويت المال على اليتيم . وصار هذا
nindex.php?page=hadith&LINKID=3500481كقول أبي طلحة للنبي صلى الله عليه وسلم : عندي خمر لأيتام ؟ فقال : أرقها . فلو جاز استصلاحها لما أمر بتضييع مال اليتامى . قال
الطبري : فقد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه . وإنما فارق الجماعة
إبراهيم بن سعد وعبيد الله العنبري ; وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=864499عليكم بالسواد الأعظم . ومن فارق الجماعة مات ميتة جاهلية . قال
أبو الفرج : وقال
القفال من أصحابنا : لا تقبل
شهادة المغني والرقاص .
قلت : وإذ قد ثبت أن هذا الأمر لا يجوز
فأخذ الأجرة عليه لا تجوز . وقد ادعى
أبو عمر بن عبد البر الإجماع على تحريم الأجرة على ذلك . وقد مضى في الأنعام عند قوله :
وعنده مفاتح الغيب وحسبك .
الرابعة : قال القاضي
nindex.php?page=showalam&ids=12815أبو بكر ابن العربي : وأما
سماع القينات فيجوز
للرجل أن يسمع غناء جاريته ; إذ ليس شيء منها عليه حراما لا من ظاهرها ولا من باطنها ، فكيف يمنع من التلذذ بصوتها . أما إنه لا يجوز انكشاف النساء للرجال ولا هتك الأستار ولا سماع الرفث ، فإذا خرج ذلك إلى ما لا يحل ولا يجوز منع من أوله واجتث من أصله . وقال
أبو الطيب الطبري : أما
سماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرم فإن أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي قالوا لا يجوز ، سواء كانت حرة أو مملوكة . قال : وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته ; ثم غلظ القول فيه فقال : فهي دياثة . وإنما جعل صاحبها سفيها لأنه دعا الناس إلى الباطل ، ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيها .
[ ص: 54 ] الخامسة : قوله تعالى :
ليضل عن سبيل الله قراءة العامة بضم الياء ; أي ليضل غيره عن طريق الهدى ، وإذا أضل غيره فقد ضل . وقرأ
ابن كثير وابن محيصن وحميد وأبو عمرو ورويس وابن أبي إسحاق ( بفتح الياء ) على اللازم ; أي ليضل هو نفسه .
ويتخذها هزوا قراءة
المدنيين وأبي عمرو وعاصم بالرفع عطفا على من يشتري ويجوز أن يكون مستأنفا . وقرأ
الأعمش وحمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي : ويتخذها بالنصب عطفا على ليضل . ومن الوجهين جميعا لا يحسن الوقف على قوله : بغير علم والوقف على قوله : هزوا ، والهاء في ويتخذها كناية عن الآيات . ويجوز أن يكون كناية عن السبيل ; لأن السبيل يؤنث ويذكر .
أولئك لهم عذاب مهين أي شديد يهينهم قال الشاعر [
جرير ] :
ولقد جزعت إلى النصارى بعد ما لقي الصليب من العذاب مهينا