[ ص: 87 ] قوله تعالى : قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون .
فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى :
قل يتوفاكم ملك الموت لما ذكر استبعادهم للبعث ذكر توفيهم وأنه يعيدهم . يتوفاكم من توفى العدد والشيء إذا استوفاه وقبضه جميعا . يقال : توفاه الله أي استوفى روحه ثم قبضه . وتوفيت مالي من فلان أي استوفيته . ملك الموت واسمه
عزرائيل ومعناه عبد الله ; كما تقدم في ( البقرة ) . وتصرفه كله بأمر الله تعالى وبخلقه واختراعه . وروي في الحديث أن
البهائم كلها يتوفى الله أرواحها دون ملك الموت كأنه يعدم حياتها ; ذكره
ابن عطية .
قلت : وقد روي خلافه ، وأن
ملك الموت يتوفى أرواح جميع الخلائق حتى البرغوث والبعوضة . روى
nindex.php?page=showalam&ids=15639جعفر بن محمد عن أبيه قال :
نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك الموت عند رأس رجل من الأنصار ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ارفق بصاحبي فإنه مؤمن فقال ملك الموت عليه السلام : " يا محمد ، طب نفسا وقر عينا فإني بكل مؤمن رفيق . واعلم أن ما من أهل بيت مدر ولا شعر في بر ولا بحر إلا وأنا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات حتى لأنا أعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم . والله يا محمد لو أني أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت على ذلك حتى يكون الله هو الآمر بقبضها " . قال
جعفر بن علي : بلغني أنه يتصفحهم عند مواقيت الصلوات ; ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=15151الماوردي . وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=14231الخطيب أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي قال : حدثني
أبو محمد الحسن بن محمد الخلال قال : حدثنا
أبو محمد عبد الله بن عثمان الصفار قال حدثنا
أبو بكر حامد المصري قال حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=14810يحيى بن أيوب العلاف قال حدثنا
سليمان بن مهير الكلابي قال : حضرت
مالك بن أنس رضي الله عنه فأتاه رجل فسأله :
أبا عبد الله ، البراغيث
أملك الموت يقبض أرواحها ؟ قال : فأطرق
مالك طويلا ثم قال : ألها أنفس ؟ قال :
[ ص: 88 ] نعم . قال :
ملك الموت يقبض أرواحها ;
الله يتوفى الأنفس حين موتها . قال
ابن عطية بعد ذكره الحديث وكذلك الأمر في بني آدم ، إلا أنه نوع شرف بتصرف ملك وملائكة معه في قبض أرواحهم . فخلق الله تعالى
ملك الموت وخلق على يديه قبض الأرواح ، واستلالها من الأجسام وإخراجها منها . وخلق الله تعالى جندا يكونون معه يعملون عمله بأمره ; فقال تعالى :
ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة وقال تعالى : ( توفته رسلنا ) ، وقد مضى هذا المعنى في ( الأنعام ) . والبارئ خالق الكل ، الفاعل حقيقة لكل فعل ; قال الله تعالى :
الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها .
الذي خلق الموت والحياة . يحيي ويميت .
فملك الموت يقبض والأعوان يعالجون والله تعالى يزهق الروح . وهذا هو الجمع بين الآي والأحاديث ; لكنه لما كان
ملك الموت متولي ذلك بالوساطة والمباشرة أضيف التوفي إليه كما أضيف الخلق للملك ; كما تقدم في ( الحج ) . وروي عن
مجاهد أن الدنيا بين يدي
ملك الموت كالطست بين يدي الإنسان يأخذ من حيث شاء . وقد روي هذا المعنى مرفوعا ، وقد ذكرناه في ( كتاب التذكرة ) .
وروي أن ملك الموت لما وكله الله تعالى بقبض الأرواح قال : رب جعلتني أذكر بسوء ويشتمني بنو آدم . فقال الله تعالى له : ( إني أجعل للموت عللا وأسبابا من الأمراض والأسقام ينسبون الموت إليها فلا يذكرك أحد إلا بخير ) . وقد ذكرناه في التذكرة مستوفى - وقد ذكرنا أنه يدعو الأرواح فتجيئه ويقبضها ، ثم يسلمها إلى ملائكة الرحمة أو العذاب - بما فيه شفاء لمن أراد الوقوف على ذلك .
الثانية : استدل بهذه الآية بعض العلماء على
جواز الوكالة من قوله : ( وكل بكم ) ؛ أي بقبض الأرواح . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : وهذا أخذ من لفظه لا من معناه ، ولو اطرد ذلك لقلنا في قوله تعالى :
قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا : إنها نيابة عن الله تبارك وتعالى ووكالة في تبليغ رسالته ، ولقلنا أيضا في قوله تبارك وتعالى : وآتوا الزكاة إنه وكالة ; فإن الله تعالى ضمن الرزق لكل دابة وخص الأغنياء بالأغذية وأوعز إليهم بأن رزق الفقراء عندهم ،
[ ص: 89 ] وأمر بتسليمه إليهم مقدارا معلوما في وقت معلوم ، دبره بعلمه ، وأنفذه من حكمه ، وقدره بحكمته . والأحكام لا تتعلق بالألفاظ إلا أن ترد على موضوعاتها الأصلية في مقاصدها المطلوبة ، فإن ظهرت في غير مقصدها لم تعلق عليها . ألا ترى أن البيع والشراء معلوم اللفظ والمعنى ، وقد قال تعالى :
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ولا يقال : هذه الآية دليل على جواز
مبايعة السيد لعبده ; لأن المقصدين مختلفان . أما إنه إذا لم يكن بد من المعاني فيقال : إن هذه الآية دليل على أن
للقاضي أن يستنيب من يأخذ الحق ممن هو عليه قسرا دون أن يكون له في ذلك فعل ، أو يرتبط به رضا إذا وجد ذلك .