[ ص: 114 ] قوله تعالى :
النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا .
فيه تسع مسائل :
الأولى :
قوله تعالى : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم هذه الآية أزال الله تعالى بها أحكاما كانت في صدر الإسلام ; منها : أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على ميت عليه دين ، فلما فتح الله عليه الفتوح قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832323أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ; فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه ، ومن ترك مالا فلورثته أخرجه الصحيحان . وفيهما أيضا
nindex.php?page=hadith&LINKID=832324فأيكم ترك دينا أو ضياعا فأنا مولاه . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : فانقلبت الآن الحال بالذنوب ، فإن تركوا مالا ضويق العصبة فيه ، وإن تركوا ضياعا أسلموا إليه ; فهذا تفسير الولاية المذكورة في هذه الآية بتفسير النبي صلى الله عليه وسلم وتنبيهه ;
ولا عطر بعد عروس . قال
ابن عطية : وقال بعض العلماء العارفين : هو أولى بهم من أنفسهم ; لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك ، وهو يدعوهم إلى النجاة . قال
ابن عطية : ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=864551أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها تقحم الفراش .
قلت : هذا قول حسن في معنى الآية وتفسيرها ، والحديث الذي ذكر أخرجه
مسلم في صحيحه عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832325إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه وأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقحمون فيه . وعن
جابر مثله ; وقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832326وأنتم تفلتون من يدي . قال العلماء : الحجزة للسراويل ، والمعقد للإزار ; فإذا أراد الرجل إمساك من يخاف سقوطه أخذ بذلك الموضع منه . وهذا مثل لاجتهاد نبينا عليه الصلاة والسلام في نجاتنا ، وحرصه على تخلصنا من الهلكات التي بين أيدينا ; فهو أولى بنا من أنفسنا ; ولجهلنا بقدر ذلك وغلبة شهواتنا علينا وظفر عدونا اللعين بنا صرنا أحقر من الفراش
[ ص: 115 ] وأذل من الفراش ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ! وقيل : أولى بهم أي أنه إذا أمر بشيء ودعت النفس إلى غيره كان أمر النبي صلى الله عليه وسلم أولى . وقيل أولى بهم أي هو أولى بأن يحكم على المؤمنين فينفذ حكمه في أنفسهم ; أي فيما يحكمون به لأنفسهم مما يخالف حكمه .
الثانية : قال بعض أهل العلم : يجب
على الإمام أن يقضي من بيت المال دين الفقراء اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ; فإنه قد صرح بوجوب ذلك عليه حيث قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832327فعلي قضاؤه . والضياع ( بفتح الضاد ) مصدر ضاع ، ثم جعل اسما لكل ما هو بصدد أن يضيع من عيال وبنين لا كافل لهم ، ومال لا قيم له . وسميت الأرض ضيعة لأنها معرضة للضياع ، وتجمع ضياعا بكسر الضاد .
الثالثة :
وأزواجه أمهاتهم شرف الله تعالى أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات المؤمنين ; أي في وجوب التعظيم والمبرة والإجلال وحرمة النكاح على الرجال ، وحجبهن رضي الله تعالى عنهن بخلاف الأمهات . وقيل : لما كانت شفقتهن عليهم كشفقة الأمهات أنزلن منزلة الأمهات ، ثم هذه الأمومة لا توجب ميراثا كأمومة التبني . وجاز تزويج بناتهن ، ولا يجعلن أخوات للناس . وسيأتي عدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آية التخيير إن شاء الله تعالى .
واختلف الناس هل هن أمهات الرجال والنساء أم أمهات الرجال خاصة ؟ على قولين : فروى
الشعبي عن
مسروق عن
عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت لها : يا أمه ; فقالت لها : لست لك بأم ، إنما أنا أم رجالكم . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : وهو الصحيح .
قلت : لا فائدة في اختصاص الحصر في الإباحة للرجال دون النساء ، والذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء ; تعظيما لحقهن على الرجال والنساء . يدل عليه صدر الآية :
النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة . ويدل على ذلك حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة وجابر ; فيكون قوله :
وأزواجه أمهاتهم عائدا إلى الجميع . ثم إن في مصحف
أبي بن كعب ( وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم ) . وقرأ
ابن عباس : ( من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم ) . وهذا كله يوهن ما رواه
مسروق إن صح من جهة الترجيح ، وإن لم يصح فيسقط الاستدلال به في التخصيص ، وبقينا على الأصل الذي هو العموم الذي يسبق إلى الفهوم . والله أعلم .
[ ص: 116 ] الرابعة :
وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين قيل : إنه أراد بالمؤمنين الأنصار ، وبالمهاجرين
قريشا . وفيه قولان : أحدهما : أنه ناسخ للتوارث بالهجرة . حكى
سعيد عن
قتادة قال : كان نزل في سورة الأنفال
والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا فتوارث المسلمون بالهجرة ; فكان لا يرث الأعرابي المسلم من قريبه المسلم المهاجر شيئا حتى يهاجر ، ثم نسخ ذلك في هذه السورة بقوله :
وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض . الثاني : أن ذلك ناسخ للتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين ; روى
nindex.php?page=showalam&ids=17245هشام بن عروة عن أبيه عن
الزبير :
وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله وذلك أنا معشر
قريش لما قدمنا
المدينة قدمنا ولا أموال لنا ، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فآخيناهم فأورثونا وأورثناهم ; فآخى
أبو بكر nindex.php?page=showalam&ids=15786خارجة بن زيد ، وآخيت أنا
nindex.php?page=showalam&ids=331كعب بن مالك ، فجئت فوجدت السلاح قد أثقله ; فوالله لقد مات عن الدنيا ما ورثه غيري ، حتى أنزل الله تعالى هذه الآية فرجعنا إلى موارثنا . وثبت عن
عروة nindex.php?page=hadith&LINKID=864555أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين الزبير وبين nindex.php?page=showalam&ids=331كعب بن مالك ، فارتث
كعب يوم
أحد فجاء
الزبير يقوده بزمام راحلته ; فلو مات يومئذ
كعب عن الضح والريح لورثه
الزبير ، فأنزل الله تعالى :
وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله . فبين الله تعالى أن القرابة أولى من الحلف ، فتركت الوراثة بالحلف وورثوا بالقرابة . وقد مضى في ( الأنفال ) الكلام في توريث ذوي الأرحام . وقوله :
في كتاب الله يحتمل أن يريد القرآن ، ويحتمل أن يريد اللوح المحفوظ الذي قضى فيه أحوال خلقه . و
من المؤمنين متعلق ب ( أولو ) لا بقوله [ تعالى ] :
وأولو الأرحام بالإجماع ; لأن ذلك كان يوجب تخصيصا ببعض المؤمنين ، ولا خلاف في عمومها ، وهذا حل إشكالها ; قاله
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي .
النحاس :
وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين يجوز أن يتعلق
من المؤمنين ب ( أولو ) فيكون التقدير : وأولو الأرحام من المؤمنين والمهاجرين . ويجوز أن يكون المعنى أولى من المؤمنين . وقال
المهدوي : وقيل إن معناه : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إلا ما يجوز لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعين أمهات المؤمنين . والله تعالى أعلم .
[ ص: 117 ] الخامسة : واختلف في كونهن كالأمهات في المحرم وإباحة النظر ; على وجهين : أحدهما : هن محرم ، لا يحرم النظر إليهن . الثاني : أن النظر إليهن محرم ؛ لأن تحريم نكاحهن إنما كان حفظا لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهن ، وكان من حفظ حقه تحريم النظر إليهن ; ولأن
عائشة رضي الله عنها كانت إذا أرادت دخول رجل عليها أمرت أختها أسماء أن ترضعه ليصير ابنا لأختها من الرضاعة ، فيصير محرما يستبيح النظر . وأما اللاتي طلقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فقد اختلف في ثبوت هذه الحرمة لهن على ثلاثة أوجه : أحدها : ثبتت لهن هذه الحرمة تغليبا لحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم . الثاني : لا يثبت لهن ذلك ، بل هن كسائر النساء ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت عصمتهن ، وقال :
أزواجي في الدنيا هن أزواجي في الآخرة . الثالث :
من دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم منهن ثبتت حرمتها وحرم نكاحها وإن طلقها ; حفظا لحرمته وحراسة لخلوته . ومن لم يدخل بها لم تثبت لها هذه الحرمة ; وقد هم
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه برجم امرأة فارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوجت فقالت : لم هذا ! وما ضرب علي رسول الله صلى الله عليه وسلم حجابا ولا سميت أم المؤمنين ؟ ! فكف عنها
عمر رضي الله عنه .
السادسة : قال قوم : لا يجوز أن يسمى النبي صلى الله عليه وسلم أبا لقوله تعالى :
ما كان محمد أبا أحد من رجالكم . ولكن يقال : مثل الأب للمؤمنين ; كما قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832328إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم . . الحديث . خرجه
أبو داود . والصحيح أنه يجوز أن يقال : إنه أب للمؤمنين ، أي في الحرمة ،
وقوله تعالى : ما كان محمد أبا أحد من رجالكم أي في النسب . وسيأتي . وقرأ
ابن عباس : ( من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه ) . وسمع
عمر هذه القراءة فأنكرها
[ ص: 118 ] وقال : حكمها يا غلام ؟ فقال : إنها في مصحف
أبي ; فذهب إليه فسأله فقال له
أبي : إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق بالأسواق ؟ وأغلظ
لعمر . وقد قيل في قول
لوط عليه السلام
هؤلاء بناتي : إنما أراد المؤمنات ; أي تزوجوهن . وقد تقدم .
السابعة : قال قوم : لا يقال بناته أخوات المؤمنين ، ولا أخوالهن أخوال المؤمنين وخالاتهم . قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رضي الله عنه : تزوج
الزبير nindex.php?page=showalam&ids=64أسماء بنت أبي بكر الصديق وهي أخت
عائشة ، ولم يقل هي خالة المؤمنين . وأطلق قوم هذا وقالوا :
معاوية خال المؤمنين ; يعني في الحرمة لا في النسب .
الثامنة : قوله تعالى :
إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا يريد الإحسان في الحياة ، والوصية عند الموت ; أي أن ذلك جائز ; قاله
قتادة والحسن nindex.php?page=showalam&ids=16568وعطاء . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12691محمد بن الحنفية ، نزلت في إجازة
الوصية لليهودي والنصراني ; أي يفعل هذا مع الولي والقريب وإن كان كافرا ; فالمشرك ولي في النسب لا في الدين فيوصى له بوصية . واختلف العلماء
هل يجعل الكافر وصيا ; فجوز بعض ومنع بعض . ورد النظر إلى السلطان في ذلك بعض ; منهم
مالك رحمه الله تعالى . وذهب
مجاهد وابن زيد والرماني إلى أن المعنى : إلى أوليائكم من المؤمنين . ولفظ الآية يعضد هذا المذهب ، وتعميم الولي أيضا حسن . وولاية النسب لا تدفع الكافر ، وإنما تدفع أن يلقى إليه بالمودة كولي الإسلام .
التاسعة : قوله تعالى :
كان ذلك في الكتاب مسطورا ( الكتاب ) يحتمل الوجهين المذكورين المتقدمين في ( كتاب الله ) . و ( مسطورا ) من قولك سطرت الكتاب إذا أثبته أسطارا . وقال
قتادة : أي مكتوبا عند الله عز وجل ألا يرث كافر مسلما . قال
قتادة : وفي بعض القراءة كان ذلك عند الله مكتوبا . وقال
القرظي : كان ذلك في التوراة .