قوله تعالى :
وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا .
قوله تعالى : وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : ( وقرن ) قرأ الجمهور ( وقرن ) بكسر القاف . وقرأ
عاصم ونافع بفتحها . فأما القراءة الأولى فتحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون من الوقار ، تقول : وقر يقر وقارا أي سكن ، والأمر قر ، وللنساء قرن ، مثل عدن وزن . والوجه الثاني : وهو قول
المبرد ، أن يكون من القرار ، تقول : قررت بالمكان ( بفتح الراء ) أقر ، والأصل أقررن ، بكسر الراء ، فحذفت الراء الأولى تخفيفا ، كما قالوا في ظللت : ظلت ، ومسست : مست ، ونقلوا حركتها إلى القاف ، واستغني عن ألف الوصل لتحرك القاف . قال
أبو علي : بل على أن أبدلت الراء ياء كراهة التضعيف ، كما أبدلت في قيراط ودينار ، ويصير للياء حركة الحرف المبدل منه ، فالتقدير : إقيرن ، ثم تلقى حركة الياء على القاف كراهة تحرك الياء بالكسر ، فتسقط الياء لاجتماع الساكنين ، وتسقط همزة الوصل لتحرك ما بعدها فيصير ( قرن ) . وأما قراءة
أهل المدينة وعاصم ، فعلى لغة العرب : قررت في المكان إذا أقمت فيه ( بكسر الراء ) أقر ( بفتح القاف ) ، من باب حمد يحمد ، وهي لغة
أهل الحجاز ذكرها
أبو عبيد في ( الغريب المصنف ) عن
الكسائي ، وهو من أجل مشايخه ، وذكرها
الزجاج وغيره ، والأصل ( إقررن ) حذفت الراء الأولى لثقل التضعيف ، وألقيت حركتها على القاف فتقول : قرن . قال
الفراء : هو كما تقول : أحست صاحبك ؟ أي هل أحسست ؟ وقال
أبو عثمان المازني : قررت به عينا ( بالكسر لا غير ) ، من قرة العين . ولا يجوز قررت في المكان ( بالكسر ) وإنما هو قررت ( بفتح الراء ) ، وما أنكره من هذا لا يقدح في القراءة إذا ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فيستدل بما ثبت عنه من القراءة على صحة اللغة . وذهب
أبو حاتم أيضا أن قرن لا مذهب له في كلام العرب . قال
النحاس : وأما قول
أبي حاتم : لا مذهب له فقد خولف فيه ، وفيه مذهبان : أحدهما ما حكاه
الكسائي ، والآخر ما
[ ص: 163 ] سمعت
علي بن سليمان يقول ، قال : وهو من قررت به عينا أقر ، والمعنى : واقررن به عينا في بيوتكن . وهو وجه حسن ، إلا أن الحديث يدل على أنه من الأول . كما روي أن
عمارا قال
nindex.php?page=showalam&ids=25لعائشة رضي الله عنها : إن الله قد أمرك أن تقري في منزلك ، فقالت : يا
أبا اليقظان ، ما زلت قوالا بالحق ! فقال : الحمد لله الذي جعلني كذلك على لسانك . وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=12356ابن أبي عبلة ( واقررن ) بألف وصل وراءين ، الأولى مكسورة .
الثانية : معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت ، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى . هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء ، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن ، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة ، على ما تقدم في غير موضع . فأمر الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم بملازمة بيوتهن ، وخاطبهن بذلك تشريفا لهن ، ونهاهن عن التبرج ، وأعلم أنه فعل الجاهلية الأولى فقال :
ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى . وقد تقدم
معنى التبرج في ( النور ) . وحقيقته إظهار ما ستره أحسن ، وهو مأخوذ من السعة ، يقال : في أسنانه برج إذا كانت متفرقة ، قاله
المبرد . واختلف الناس في
الجاهلية الأولى فقيل : هي الزمن الذي ولد فيه
إبراهيم عليه السلام ، كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ ، فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال . وقال
الحكم بن عيينة : ما بين
آدم ونوح ، وهي ثمانمائة سنة ، وحكيت لهم سير ذميمة . وقال
ابن عباس : ما بين
نوح وإدريس .
الكلبي : ما بين
نوح وإبراهيم . قيل : إن المرأة كانت تلبس الدرع من اللؤلؤ غير مخيط الجانبين ، وتلبس الثياب الرقاق ولا تواري بدنها . وقالت فرقة : ما بين
موسى وعيسى .
الشعبي : ما بين
عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم
أبو العالية : هي زمان
داود وسليمان ، كان فيه للمرأة قميص من الدر غير مخيط الجانبين .
وقال
أبو العباس المبرد : والجاهلية الأولى كما تقول الجاهلية الجهلاء ، قال : وكان النساء في الجاهلية الجهلاء يظهرن ما يقبح إظهاره ، حتى كانت المرأة تجلس مع زوجها وخلها ، فينفرد خلها بما فوق الإزار إلى الأعلى ، وينفرد زوجها بما دون الإزار إلى الأسفل ، وربما سأل أحدهما صاحبه البدل . وقال
مجاهد : كان النساء يتمشين بين الرجال ، فذلك التبرج . قال
ابن عطية : والذي يظهر عندي أنه أشار للجاهلية التي لحقنها ، فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها ، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة ، لأنهم كانوا لا غيرة عندهم وكان أمر النساء دون حجاب ، وجعلها أولى بالنسبة إلى ما كن عليه ، وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى وقد أوقع اسم الجاهلية على تلك المدة التي قبل الإسلام ، فقالوا : جاهلي في الشعراء وقال
ابن عباس في
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري : سمعت أبي في الجاهلية يقول ؛ إلى غير هذا .
قلت : وهذا قول حسن . ويعترض بأن العرب كانت أهل قشف وضنك في الغالب ، وأن
[ ص: 164 ] التنعم وإظهار الزينة إنما جرى في الأزمان السابقة ، وهي المراد بالجاهلية الأولى ، وأن المقصود من الآية مخالفة من قبلهن من المشية على تغنيج وتكسير وإظهار المحاسن للرجال ، إلى غير ذلك مما لا يجوز شرعا . وذلك يشمل الأقوال كلها ويعمها فيلزمن البيوت ، فإن مست الحاجة إلى الخروج فليكن على تبذل وتستر تام . والله الموفق .
الثالثة : ذكر
الثعلبي وغيره : أن
عائشة - رضي الله عنها - كانت إذا قرأت هذه الآية تبكي حتى تبل خمارها . وذكر أن
سودة قيل لها : لم لا تحجين ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك ؟ فقالت : قد حججت واعتمرت ، وأمرني الله أن أقر في بيتي . قال الراوي : فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها . رضوان الله عليها قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : لقد دخلت نيفا على ألف قرية فما رأيت نساء أصون عيالا ولا أعف نساء من نساء
نابلس ، التي رمي بها
الخليل صلى الله عليه وسلم بالنار ، فإني أقمت فيها فما رأيت امرأة في طريق نهارا إلا يوم الجمعة فإنهن يخرجن إليها حتى يمتلئ المسجد منهن ، فإذا قضيت الصلاة وانقلبن إلى منازلهن لم تقع عيني على واحدة منهن إلى الجمعة الأخرى . وقد رأيت
بالمسجد الأقصى عفائف ما خرجن من معتكفهن حتى استشهدن فيه .
الرابعة : قال
ابن عطية : بكاء
عائشة رضي الله عنها إنما كان بسبب سفرها أيام الجمل ، وحينئذ قال لها
عمار : إن الله قد أمرك أن تقري في بيتك . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : تعلق الرافضة - لعنهم الله - بهذه الآية على أم المؤمنين
عائشة رضي الله عنها إذ قالوا : إنها خالفت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجت تقود الجيوش ، وتباشر الحروب ، وتقتحم مأزق الطعن والضرب فيما لم يفرض عليها ولا يجوز لها . قالوا : ولقد حصر
عثمان ، فلما رأت ذلك أمرت برواحلها فقربت لتخرج إلى
مكة ، فقال لها
مروان : أقيمي هنا يا أم المؤمنين ، وردي هؤلاء الرعاع ، فإن الإصلاح بين الناس خير من حجك . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : إن
عائشة رضي الله عنها ، نذرت الحج قبل الفتنة ، فلم تر التخلف عن نذرها ، ولو خرجت في تلك الثائرة لكان ذلك صوابا لها . وأما
خروجها إلى حرب الجمل فما خرجت لحرب ، ولكن تعلق الناس بها ، وشكوا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة وتهارج الناس ، ورجوا بركتها ، وطمعوا في الاستحياء منها إذا وقفت إلى الخلق ، وظنت هي ذلك فخرجت مقتدية بالله في قوله :
لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ، وقوله :
[ ص: 165 ] وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما والأمر بالإصلاح مخاطب به جميع الناس من ذكر وأنثى ; حر أو عبد فلم يرد الله تعالى بسابق قضائه ونافذ حكمه أن يقع إصلاح ، ولكن جرت مطاعنات وجراحات حتى كاد يفنى الفريقان ، فعمد بعضهم إلى الجمل فعرقبه ، فلما سقط الجمل لجنبه أدرك
محمد بن أبي بكر عائشة رضي الله تعالى عنها ، فاحتملها إلى
البصرة ، وخرجت في ثلاثين امرأة ، قرنهن
علي بها حتى أوصلوها إلى
المدينة برة تقية مجتهدة ، مصيبة مثابة فيما تأولت ، مأجورة فيما فعلت ؛ إذ كل مجتهد في الأحكام مصيب . وقد تقدم في ( النحل ) اسم هذا الجمل ، وبه يعرف ذلك اليوم .
قوله تعالى : وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله أي فيما أمر ونهى
إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا قال
الزجاج : قيل يراد به نساء النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : يراد به نساؤه وأهله الذين هم أهل بيته ، على ما يأتي بيانه بعد ، و ( أهل البيت ) نصب على المدح . قال : وإن شئت على البدل . قال : ويجوز الرفع والخفض . قال
النحاس : إن خفض على أنه بدل من الكاف والميم لم يجز عند
nindex.php?page=showalam&ids=15153أبي العباس محمد بن يزيد ، قال لا يبدل من المخاطبة ولا من المخاطب ، لأنهما لا يحتاجان إلى تبيين . ( ويطهركم تطهيرا ) مصدر فيه معنى التوكيد .