[ ص: 122 ] قوله تعالى :
فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم .
فيه ثلاث مسائل : الأولى :
قوله تعالى : فإنكم وما تعبدون ما بمعنى الذي . وقيل : بمعنى المصدر ، أي : فإنكم وعبادتكم لهذه الأصنام . وقيل : أي : فإنكم مع ما تعبدون من دون الله ، يقال : جاء فلان وفلان . وجاء فلان مع فلان .
ما أنتم عليه أي على الله بفاتنين بمضلين .
النحاس . أهل التفسير مجمعون فيما علمت على أن المعنى : ما أنتم بمضلين أحدا إلا من قدر الله - عز وجل - عليه أن يضل . وقال الشاعر :
فرد بنعمته كيده عليه وكان لنا فاتنا
أي : مضلا .
الثانية : في هذه الآية رد على
القدرية . قال
عمرو بن ذر : قدمنا على
عمر بن عبد العزيز فذكر عنده القدر ، فقال
عمر : لو أراد الله ألا يعصى ما خلق إبليس ، وهو رأس الخطيئة ، وإن في ذلك لعلما في كتاب الله عز وجل ، عرفه من عرفه ، وجهله من جهله ، ثم قرأ :
فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من كتب الله - عز وجل - عليه أن يصلى الجحيم . وقال : فصلت هذه الآية بين الناس ، وفيها من المعاني أن الشياطين لا يصلون إلى إضلال أحد إلا من كتب الله عليه أنه لا يهتدي ، ولو علم الله - جل وعز - أنه يهتدي لحال بينه وبينهم ، وعلى هذا قوله تعالى :
وأجلب عليهم بخيلك ورجلك أي : لست تصل منهم إلى شيء إلا إلى ما في علمي . وقال
لبيد بن ربيعة في تثبيت القدر فأحسن :
إن تقوى ربنا خير نفل وبإذن الله ريثي وعجل
أحمد الله فلا ند له بيديه الخير ما شاء فعل
من هداه سبل الخير اهتدى ناعم البال ومن شاء أضل
قال
الفراء : أهل
الحجاز يقولون : فتنت الرجل ، وأهل
نجد يقولون : أفتنته .
الثالثة : روي عن
الحسن أنه قرأ : ( إلا من هو صال الجحيم ) بضم اللام .
النحاس :
[ ص: 123 ] وجماعة أهل التفسير يقولون إنه لحن ; لأنه لا يجوز هذا قاض المدينة . ومن أحسن ما قيل فيه ما سمعت
علي بن سليمان يقوله ، قال : هو محمول على المعنى ; لأن معنى من جماعة ، فالتقدير صالون ، فحذفت النون للإضافة ، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين . وقيل : أصله فاعل إلا أنه قلب من صال إلى صايل ، وحذفت الياء وبقيت اللام مضمومة ، فهو مثل شفا جرف هار ووجه ثالث : أن تحذف لام " صال " تخفيفا وتجري الإعراب على عينه ، كما حذف من قولهم : ما باليت به بالة . وأصلها بالية من بالي ، كعافية من عافي ، ونظيره قراءة من قرأ ، " وجنى الجنتين دان " " وله الجوار المنشآت " أجرى الإعراب على العين . والأصل في قراءة الجماعة صالي بالياء ، فحذفها الكاتب من الخط لسقوطها في اللفظ .
قوله تعالى : وما منا إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون .
هذا من قول الملائكة تعظيما لله عز وجل ، وإنكارا منهم عبادة من عبدهم .
وإنا لنحن الصافون . وإنا لنحن المسبحون قال
مقاتل : هذه الثلاث الآيات نزلت ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند سدرة المنتهى ، فتأخر
جبريل ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أهنا تفارقني فقال : ما أستطيع أن أتقدم عن مكاني . وأنزل الله تعالى حكاية عن قول الملائكة :
وما منا إلا له مقام معلوم الآيات . والتقدير عند الكوفيين : وما منا إلا من له مقام معلوم . فحذف الموصول . وتقديره عند البصريين : وما منا ملك إلا له مقام معلوم ، أي : مكان معلوم في العبادة ، قاله
ابن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=13033وابن جبير . وقال
ابن عباس : ما في السماوات موضع شبر إلا وعليه ملك يصلي ويسبح . وقالت
عائشة رضي الله عنها : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=831008ما في السماء موضع قدم إلا عليه ملك ساجد أو قائم . وعن
أبي ذر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=831009إني أرى ما لا ترون ، وأسمع ما لا تسمعون ، أطت السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله ، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ، ولبكيتم كثيرا ، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله ، لوددت أني كنت شجرة تعضد خرجه
أبو عيسى الترمذي وقال
[ ص: 124 ] فيه : حديث حسن غريب . ويروى من غير هذا الوجه أن
أبا ذر قال : لوددت أني كنت شجرة تعضد . ويروى عن
أبي ذر موقوفا . وقال
قتادة : كان يصلي الرجال والنساء جميعا حتى نزلت هذه الآية :
وما منا إلا له مقام معلوم . قال : فتقدم الرجال وتأخر النساء .
وإنا لنحن الصافون قال
الكلبي : صفوفهم كصفوف أهل الدنيا في الأرض . وفي صحيح
مسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=98جابر بن سمرة قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=831010خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في المسجد ، فقال : ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها ؟ فقلنا : يا رسول الله كيف تصف الملائكة عند ربها ؟ قال : يتمون الصفوف الأول ، ويتراصون في الصف وكان
عمر يقول إذا قام للصلاة : أقيموا صفوفكم واستووا ، إنما يريد الله بكم هدي الملائكة عند ربها ، ويقرأ :
وإنا لنحن الصافون تأخر يا فلان ، تقدم يا فلان ، ثم يتقدم فيكبر . وقد مضى في سورة [ الحجر ] بيانه . وقال
أبو مالك :
كان الناس يصلون متبددين ، فأنزل الله تعالى : وإنا لنحن الصافون فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصطفوا . وقال
الشعبي . جاء
جبريل أو ملك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه ، إن الملائكة لتصلي وتسبح ، ما في السماء ملك فارغ . وقيل : أي : لنحن الصافون أجنحتنا في الهواء وقوفا ننتظر ما نؤمر به . وقيل : أي : نحن الصافون حول العرش .
وإنا لنحن المسبحون أي المصلون ، قاله
قتادة . وقيل : أي : المنزهون الله عما أضافه إليه المشركون . والمراد أنهم يخبرون أنهم يعبدون الله بالتسبيح والصلاة وليسوا معبودين ولا بنات الله .
وقيل :
وما منا إلا له مقام معلوم من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين للمشركين ، أي : لكل واحد منا ومنكم في الآخرة مقام معلوم وهو مقام الحساب . وقيل : أي : منا من له مقام الخوف ، ومنا من له مقام الرجاء ، ومنا من له مقام الإخلاص ، ومنا من له مقام الشكر . إلى غيرها من المقامات .
قلت : والأظهر أن ذلك راجع إلى قول الملائكة :
وما منا إلا له مقام معلوم والله أعلم .