[ ص: 162 ] السادسة عشرة : قيل : لما
قضى داود بينهما في المسجد ، نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك فلم يفطن
داود ، فأحبا أن يعرفهما ، فصعدا إلى السماء حيال وجهه ، فعلم
داود - عليه السلام - أن الله تعالى ابتلاه بذلك ، ونبهه على ما ابتلاه .
قلت : وليس في القران ما يدل على القضاء في المسجد إلا هذه الآية ، وبها استدل من قال بجواز
القضاء في المسجد ، ولو كان ذلك لا يجوز كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي لما أقرهم
داود على ذلك . ويقول : انصرفا إلى موضع القضاء .
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء يقضون في المسجد ، وقد قال
مالك : القضاء في المسجد من الأمر القديم . يعني في أكثر الأمور . ولا بأس أن يجلس في رحبته ، ليصل إليه الضعيف والمشرك والحائض ، ولا يقيم فيه الحدود ، ولا بأس بخفيف الأدب . وقد قال
أشهب : يقضي في منزله وأين أحب .
السابعة عشرة : قال
مالك رحمه الله : وكان الخلفاء يقضون بأنفسهم ، وأول من استقضى
معاوية . قال
مالك :
وينبغي للقضاة مشاورة العلماء . وقال
عمر بن عبد العزيز : لا يستقضي حتى يكون عالما بآثار من مضى ، مستشيرا لذوي الرأي ، حليما نزها . قال : ويكون ورعا . قال
مالك :
وينبغي أن يكون متيقظا كثير التحذر من الحيل ،
وأن يكون عالما بالشروط ، عارفا بما لا بد له منه من العربية ، فإن الأحكام تختلف باختلاف العبارات والدعاوى والإقرارات والشهادات والشروط التي تتضمن حقوق المحكوم له .
وينبغي له أن يقول قبل إنجاز الحكم للمطلوب : أبقيت لك حجة ؟ فإن قال لا ، حكم عليه ، ولا يقبل منه حجة بعد إنفاذ حكمه إلا أن يأتي بما له وجه أو بينة . وأحكام القضاء والقضاة فيما لهم وعليهم مذكورة في غير هذا الموضع .
الثامنة عشرة : قوله تعالى :
فاستغفر ربه اختلف المفسرون في
الذنب الذي استغفر منه على أقوال ستة :
[ الأول ] أنه نظر إلى المرأة حتى شبع منها . قال
سعيد بن جبير : إنما كانت فتنته النظرة . قال
أبو إسحاق : ولم يتعمد
داود النظر إلى المرأة لكنه عاود النظر إليها ، فصارت الأولى له والثانية عليه .
[ الثاني ] أنه أغزى زوجها في حملة التابوت .
[ الثالث ] أنه نوى إن مات زوجها أن يتزوجها .
[ الرابع ] أن
أوريا كان خطب تلك المرأة ، فلما غاب خطبها
داود فزوجت منه لجلالته ، فاغتم لذلك
أوريا . فعتب الله على
داود إذ لم يتركها لخاطبها . وقد كان عنده تسع وتسعون امرأة .
[ الخامس ] أنه لم يجزع على قتل
أوريا ، كما كان يجزع على من هلك من الجند ، ثم تزوج امرأته ، فعاتبه الله تعالى على ذلك ; لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي
[ ص: 163 ] عظيمة عند الله .
[ السادس ] أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815القاضي ابن العربي : أما قول من قال : إنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر فلا يجوز على الأنبياء ، وكذلك تعريض زوجها للقتل . وأما من قال : إنه نظر إليها حتى شبع فلا يجوز ذلك عندي بحال ; لأن طموح النظر لا يليق بالأولياء المتجردين للعبادة ، فكيف بالأنبياء الذين هم وسائط الله المكاشفون بالغيب! وحكى
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي عن
علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : لو سمعت رجلا يذكر أن
داود - عليه السلام - قارف من تلك المرأة محرما لجلدته ستين ومائة ; لأن حد قاذف الناس ثمانون ، وحد قاذف الأنبياء ستون ومائة . ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=15151الماوردي والثعلبي أيضا . قال
الثعلبي : وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14057الحارث الأعور عن
علي : من حدث بحديث
داود على ما ترويه القصاص معتقدا جلدته حدين ، لعظم ما ارتكب برمي من قد رفع الله محله ، وارتضاه من خلقه رحمة للعالمين ، وحجة للمجتهدين . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : وهذا مما لم يصح عن
علي . فإن قيل : فما حكمه عندكم ؟ قلنا : أما من قال إن نبيا زنى فإنه يقتل ، وأما من نسب إليه ما دون ذلك من النظر والملامسة ، فقد اختلف نقل الناس في ذلك ، فإن صمم أحد على ذلك فيه ونسبه إليه قتلته ، فإنه يناقض التعزير المأمور به ، فأما قولهم : إنه وقع بصره على امرأة تغتسل عريانة ، فلما رأته أسبلت شعرها فسترت جسدها ، فهذا لا حرج عليه فيه بإجماع من الأمة ; لأن النظرة الأولى تكشف المنظور إليه ولا يأثم الناظر بها ، فأما النظرة الثانية فلا أصل لها . وأما قولهم : إنه نوى إن مات زوجها تزوجها ، فلا شيء فيه إذ لم يعرضه للموت . وأما قولهم : إنه خطب على خطبة
أوريا فباطل يرده القرآن والآثار التفسيرية كلها . وقد روى
أشهب عن
مالك قال : بلغني أن تلك الحمامة أتت فوقعت قريبا من
داود - عليه السلام - وهي من ذهب ، فلما رآها أعجبته فقام ليأخذها فكانت قرب يده ، ثم صنع مثل ذلك مرتين ، ثم طارت واتبعها ببصره فوقعت عينه على تلك المرأة وهي تغتسل ولها شعر طويل ، فبلغني أنه أقام أربعين ليلة ساجدا حتى نبت العشب من دموع عينه . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : وأما قول المفسرين : إن الطائر درج عنده فهم بأخذه واتبعه ، فهذا لا يناقض العبادة ; لأنه مباح فعله ، لا سيما وهو حلال ، وطلب الحلال فريضة ، وإنما اتبع الطير لذاته لا لجماله ، فإنه لا منفعة له فيه ، وإنما ذكرهم لحسن الطائر خرق في الجهالة . أما أنه روي أنه كان طائرا من ذهب فاتبعه ليأخذه ; لأنه من فضل الله سبحانه وتعالى كما روي في الصحيح : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=831029إن أيوب - عليه السلام - كان يغتسل عريانا فخر عليه رجل من جراد من ذهب فجعل يحثي منه ويجعل في ثوبه ، فقال الله تعالى له : " يا أيوب ألم أكن أغنيتك " قال : ( بلى يا رب [ ص: 164 ] ولكن لا غنى لي عن بركتك ) . وقال
القشيري : فهم
داود بأن يأخذه ليدفعه إلى ابن له صغير فطار ووقع على كوة البيت ، وقاله
الثعلبي أيضا وقد تقدم .
التاسعة عشرة : قوله تعالى :
وخر راكعا وأناب أي خر ساجدا ، وقد يعبر عن السجود بالركوع . قال الشاعر :
فخر على وجهه راكعا وتاب إلى الله من كل ذنب
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : لا خلاف بين العلماء أن المراد بالركوع هاهنا السجود ، فإن السجود هو الميل ، والركوع هو الانحناء ، وأحدهما يدخل على الآخر ، ولكنه قد يختص كل واحد بهيئته ، ثم جاء هذا على تسمية أحدهما بالآخر ، فسمي السجود ركوعا . وقال
المهدوي : وكان ركوعهم سجودا . وقيل : بل كان سجودهم ركوعا . وقال
مقاتل : فوقع من ركوعه ساجدا لله عز وجل . أي : لما أحس بالأمر قام إلى الصلاة ، ثم وقع من الركوع إلى السجود ، لاشتمالهما جميعا على الانحناء . وأناب أي : تاب من خطيئته ورجع إلى الله . وقال
الحسن بن الفضل : سألني
عبد الله بن طاهر وهو الوالي عن قول الله - عز وجل - : " وخر راكعا " فهل يقال للراكع خر ؟ .
قلت : لا . قال : فما معنى الآية ؟ قلت : معناها فخر بعد أن كان راكعا أي : سجد .
الموفية عشرين : واختلف في
سجدة داود ، هل هي من عزائم السجود المأمور به في القرآن أم لا ؟ فروى
أبو سعيد الخدري nindex.php?page=hadith&LINKID=831030أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ على المنبر : " ص والقرآن ذي الذكر " فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه ، فلما كان يوم آخر قرأ بها فتشزن الناس للسجود ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنها توبة نبي ، ولكني رأيتكم تشزنتم للسجود ، ونزل وسجد . وهذا لفظ
أبي داود . وفي
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري وغيره عن
ابن عباس أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=831031 " ص " ليست من عزائم القرآن ، وقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها . وقد روي من طريق عن
ابن مسعود أنه قال : " ص " توبة نبي ، ولا يسجد فيها ، وعن
ابن عباس : أنها توبة نبي ، ونبيكم ممن أمر أن يقتدي به . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : والذي عندي أنها ليست موضع سجود ، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد فيها فسجدنا بالاقتداء به . ومعنى السجود أن
داود سجد خاضعا لربه ، معترفا بذنبه . تائبا من خطيئته ، فإذا
[ ص: 165 ] سجد أحد فيها فليسجد بهذه النية ، فلعل الله أن يغفر له بحرمة
داود الذي اتبعه ، وسواء قلنا : إن شرع من قبلنا شرع لنا أم لا ؟ فإن هذا أمر مشروع في كل أمة لكل أحد . والله أعلم .
الحادية والعشرون : قال
ابن خويز منداد : قوله :
وخر راكعا وأناب فيه دلالة على أن
السجود للشكر مفردا لا يجوز ; لأنه ذكر معه الركوع ، وإنما الذي يجوز أن يأتي بركعتين شكرا ، فأما سجدة مفردة فلا ، وذلك أن البشارات كانت تأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأئمة بعده ، فلم ينقل عن أحد منهم أنه سجد شكرا ، ولو كان ذلك مفعولا لهم لنقل نقلا متظاهرا لحاجة العامة إلى جوازه وكونه قربة .
قلت : وفي سنن
ابن ماجه عن
عبد الله بن أبي أوفى nindex.php?page=hadith&LINKID=831032أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى يوم بشر برأس أبي جهل ركعتين . وخرج من حديث
أبي بكرة nindex.php?page=hadith&LINKID=831033أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أتاه أمر يسره - أو يسر به - خر ساجدا شكرا لله . وهذا قول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وغيره . الثانية والعشرون : روى
الترمذي وغيره واللفظ للغير :
أن رجلا من الأنصار على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل يستتر بشجرة وهو يقرأ : " ص والقرآن ذي الذكر " فلما بلغ السجدة سجد وسجدت معه الشجرة ، فسمعها وهي تقول : اللهم أعظم لي بهذه السجدة أجرا ، وارزقني بها شكرا .
قلت : خرج
ابن ماجه في سننه عن
ابن عباس قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=831034كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأتاه رجل فقال : إني رأيت البارحة فيما يرى النائم ، كأني أصلي إلى أصل شجرة ، فقرأت السجدة فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي ، فسمعتها تقول : اللهم احطط بها عني وزرا ، واكتب لي بها أجرا ، واجعلها لي عندك ذخرا . قال
ابن عباس nindex.php?page=hadith&LINKID=831035فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ " السجدة " [ ص: 166 ] فسجد ، فسمعته يقول في سجوده مثل الذي أخبره الرجل عن قول الشجرة . ذكره
الثعلبي عن
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري ، قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=864872قلت : يا رسول الله ، رأيتني في النوم كأني تحت شجرة ، والشجرة تقرأ " ص " فلما بلغت السجدة سجدت فيها ، فسمعتها تقول في سجودها : اللهم اكتب لي بها أجرا ، وحط عني بها وزرا ، وارزقني بها شكرا ، وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك داود سجدته . فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - : أفسجدت أنت يا أبا سعيد فقلت : لا والله يا رسول الله . فقال : لقد كنت أحق بالسجود من الشجرة . ثم قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - " ص " حتى بلغ السجدة فسجد ، ثم قال مثل ما قالت الشجرة .
الثالثة والعشرون :
قوله تعالى : فغفرنا له ذلك أي فغفرنا له ذنبه . قال
ابن الأنباري :
فغفرنا له ذلك تام ، ثم تبتدئ " وإن له " وقال
القشيري : ويجوز الوقف على
فغفرنا له ثم تبتدئ
ذلك وإن له كقوله :
هذا وإن للطاغين أي الأمر ذلك . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16566عطاء الخراساني وغيره : إن
داود سجد أربعين يوما حتى نبت المرعى حول وجهه وغمر رأسه فنودي : أجائع فتطعم ، أو أعار فتكسى ، فنحب نحبة هاج المرعى من حر جوفه ، فغفر له وستر بها . فقال : يا رب هذا ذنبي فيما بيني وبينك قد غفرته ، وكيف بفلان وكذا وكذا رجلا من بني إسرائيل ، تركت أولادهم أيتاما ، ونساءهم أرامل ؟ قال : يا
داود لا يجاوزني يوم القيامة ظلم ، أمكنه منك ثم أستوهبك منه بثواب الجنة . قال : يا رب هكذا تكون المغفرة الهينة . ثم قيل : يا
داود ارفع رأسك . فذهب ليرفع رأسه فإذا به قد نشب في الأرض ، فأتاه
جبريل فاقتلعه عن وجه الأرض كما يقتلع من الشجرة صمغها . رواه
nindex.php?page=showalam&ids=15500الوليد بن مسلم عن
ابن جابر عن
عطاء . قال
الوليد : وأخبرني
منير بن الزبير ، قال : فلزق مواضع مساجده على الأرض من فروة وجهه ما شاء الله . قال
الوليد قال
ابن لهيعة : فكان يقول في سجوده : سبحانك هذا شرابي دموعي ، وهذا طعامي في رماد بين يدي . في رواية : إنه سجد أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا للصلاة المكتوبة ، فبكى حتى نبت العشب من دموعه . وروي مرفوعا من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :
إن داود مكث أربعين ليلة ساجدا حتى نبت العشب من دموعه على رأسه ، وأكلت الأرض من جبينه وهو يقول في سجوده : يا رب ، داود زل زلة بعد بها ما بين المشرق والمغرب ، رب إن لم ترحم [ ص: 167 ] ضعف داود وتغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثا في الخلق من بعده ، فقال له جبريل بعد أربعين سنة : يا داود ، إن الله قد غفر لك الهم الذي هممت به وقال
وهب : إن
داود - عليه السلام - نودي إني قد غفرت لك . فلم يرفع رأسه حتى جاءه
جبريل فقال : لم لا ترفع رأسك وربك قد غفر لك ؟ قال : يا رب كيف وأنت لا تظلم أحدا . فقال الله
لجبريل : اذهب إلى
داود فقل له يذهب إلى قبر
أوريا فيتحلل منه ، فأنا أسمعه نداءه . فلبس
داود المسوح وجلس عند قبر
أوريا ونادى : يا
أوريا ، فقال : لبيك! من هذا الذي قطع علي لذتي وأيقظني ؟ فقال : أنا أخوك
داود ، أسألك أن تجعلني في حل ، فإني عرضتك للقتل . قال : عرضتني للجنة فأنت في حل . وقال
الحسن وغيره : كان
داود - عليه السلام - بعد الخطيئة لا يجالس إلا الخاطئين ، ويقول : تعالوا إلى
داود الخطاء ، ولا يشرب شرابا إلا مزجه بدموع عينيه . وكان يجعل خبز الشعير اليابس في قصعة فلا يزال يبكي حتى يبتل بدموعه ، وكان يذر عليه الرماد والملح فيأكل ويقول : هذا أكل الخاطئين . وكان قبل الخطيئة يقوم نصف الليل ويصوم نصف الدهر . ثم صام بعده الدهر كله وقام الليل كله . وقال : يا رب اجعل خطيئتي في كفي ، فصارت خطيئته منقوشة في كفه . فكان لا يبسطها لطعام ولا شراب ولا شيء إلا رآها فأبكته ، وإن كان ليؤتى بالقدح ثلثاه ماء ، فإذا تناوله أبصر خطيئته فما يضعه عن شفته حتى يفيض من دموعه . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=15500الوليد بن مسلم : حدثني
أبو عمرو الأوزاعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
إنما مثل عيني داود مثل القربتين تنطفان ، ولقد خدد الدموع في وجه داود خديد الماء في الأرض .
قال
الوليد : وحدثنا
عثمان بن أبي العاتكة أنه كان في قول
داود إذ هو خلو من الخطيئة شدة قوله في الخطائين ، إن كان يقول : اللهم لا تغفر للخطائين . ثم صار إلى أن يقول : اللهم رب اغفر للخاطئين لكي تغفر
لداود معهم ، سبحان خالق النور . إلهي خرجت أسأل أطباء عبادك أن يداووا خطيئتي ، فكلهم عليك يدلني . إلهي أخطأت خطيئة قد خفت أن تجعل حصادها عذابك يوم القيامة إن لم تغفرها ، سبحان خالق النور . إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت الأرض برحبها علي ، وإذا ذكرت رحمتك ارتد إلي روحي .
وفي الخبر : أن
داود - عليه السلام - كان إذا علا المنبر رفع يمينه فاستقبل بها الناس ليريهم نقش خطيئته ، فكان ينادي : إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت علي الأرض برحبها ، وإذا ذكرت رحمتك ارتد إلي روحي ، رب اغفر للخاطئين كي تغفر
لداود معهم . وكان يقعد على سبعة أفرشة من الليف محشوة بالرماد ، فكانت تستنقع دموعه تحت رجليه حتى تنفذ من
[ ص: 168 ] الأفرشة كلها . وكان إذا كان يوم نوحه نادى مناديه في الطرق والأسواق والأودية والشعاب وعلى رءوس الجبال وأفواه الغيران : ألا إن هذا يوم نوح
داود ، فمن أراد أن يبكي على ذنبه فليأت
داود فيسعده ، فيهبط السياح من الغيران والأودية ، وترتج الأصوات حول منبره ، والوحوش والسباع والطير عكف ،
وبنو إسرائيل حول منبره ، فإذا أخذ في العويل والنوح ، وأثارت الحرقات منابع دموعه ، صارت الجماعة ضجة واحدة نوحا وبكاء ، حتى يموت حول منبره بشر كثير في مثل ذلك اليوم . ومات
داود - عليه السلام - فيما قيل يوم السبت فجأة ، أتاه ملك الموت وهو يصعد في محرابه وينزل ، فقال : جئت لأقبض روحك . فقال : دعني حتى أنزل أو أرتقي . فقال : ما لي إلى ذلك سبيل ، نفدت الأيام والشهور والسنون والآثار والأرزاق ، فما أنت بمؤثر بعدها أثرا . قال : فسجد
داود على مرقاة من الدرج ، فقبض نفسه على تلك الحال . وكان بينه وبين
موسى عليهما السلام خمسمائة وتسع وتسعون سنة . وقيل : تسع وسبعون ، وعاش مائة سنة ، وأوصى إلى ابنه
سليمان بالخلافة .
الرابعة والعشرون :
قوله تعالى : وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب قال
محمد بن كعب ومحمد بن قيس :
وإن له عندنا لزلفى قربة بعد المغفرة .
وحسن مآب قالا : والله إن أول من يشرب الكأس يوم القيامة
داود . وقال
مجاهد عن
عبد الله بن عمر : الزلفى الدنو من الله - عز وجل - يوم القيامة . وعن
مجاهد : يبعث
داود يوم القيامة وخطيئته منقوشة في يده : فإذا رأى أهاويل يوم القيامة لم يجد منها محرزا إلا أن يلجأ إلى رحمة الله تعالى . قال : ثم يرى خطيئته فيقلق فيقال له : هاهنا ، ثم يرى فيقلق فيقال له : هاهنا ، ثم يرى فيقلق فيقال له : هاهنا ، حتى يقرب فيسكن ، فذلك قوله - عز وجل - :
وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=14155الترمذي الحكيم . قال : حدثنا
الفضل بن محمد ، قال حدثنا
عبد الملك بن الأصبغ قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15500الوليد بن مسلم ، قال حدثنا
إبراهيم بن محمد الفزاري عن
عبد الملك بن أبي سليمان عن
مجاهد فذكره . قال
الترمذي : ولقد كنت أمر زمانا طويلا بهذه الآيات فلا ينكشف لي المراد والمعنى من قوله :
ربنا عجل لنا قطنا والقط الصحيفة في اللغة ، وذلك
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلا عليهم : فأما من أوتي كتابه بيمينه وقال لهم : ( إنكم ستجدون هذا كله في صحائفكم تعطونها بشمائلكم ) قالوا : ربنا عجل لنا قطنا أي : صحيفتنا
قبل يوم الحساب قال الله تعالى :
اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد فقص قصة خطيئته إلى منتهاها ، فكنت أقول : أمره بالصبر على ما قالوا ، وأمره بذكر
داود فأي شيء أريد
[ ص: 169 ] من هذا الذكر ؟ وكيف اتصل هذا بذاك ؟ فلا أقف على شيء يسكن قلبي عليه ، حتى هداني الله له يوما فألهمته : أن هؤلاء أنكروا قول أنهم يعطون كتبهم بشمائلهم ، فيها ذنوبهم وخطاياهم استهزاء بأمر الله ، وقالوا :
ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب فأوجعه ذلك من استهزائهم ، فأمره بالصبر على مقالتهم ، وأن يذكر عبده
داود ، سأل تعجيل خطيئته أن يراها منقوشة في كفه ، فنزل به ما نزل من أنه كان إذا رآها اضطرب وامتلأ القدح من دموعه ، وكان إذا رآها بكى حتى تنفذ سبعة أفرشة من الليف محشوة بالرماد ، فإنما سألها بعد المغفرة وبعد ضمان تبعة الخصم ، وأن الله تبارك وتعالى اسمه يستوهبه منه ، وهو حبيبه ووليه وصفيه ، فرؤية نقش الخطيئة بصورتها مع هذه المرتبة صنعت به هكذا ، فكيف كان يحل بأعداء الله وبعصاته من خلقه وأهل خزيه ، لو عجلت لهم صحائفهم فنظروا إلى صورة تلك الخطايا التي عملوها على الكفر والجحود ، وماذا يحل بهم إذا نظروا إليها في تلك الصحائف ، وقد أخبر الله عنهم فقال :
فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها فداود صلوات الله عليه مع المغفرة والبشرى والعطف لم يقم لرؤية صورتها . وقد روينا في الحديث : إذا رآها يوم القيامة منقوشة في كفه قلق حتى يقال له : هاهنا ، ثم يرى فيقلق ثم يقال : هاهنا ، ثم يرى فيقلق حتى يقرب فيسكن .