قوله تعالى :
لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير .
قوله تعالى :
لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء . فيه أربع مسائل : الأولى : قوله تعالى :
لله ملك السماوات والأرض ابتداء وخبر .
يخلق ما يشاء من الخلق .
يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور قال
أبو عبيدة وأبو مالك ومجاهد والحسن والضحاك :
يهب لمن يشاء إناثا لا ذكور معهن ، ويهب لمن يشاء ذكورا لا إناث
[ ص: 46 ] معهم ، وأدخل الألف واللام على الذكور دون الإناث لأنهم أشرف فميزهم بسمة التعريف . وقال
واثلة بن الأسقع : إن من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر ، وذلك أن الله تعالى قال :
يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور فبدأ بالإناث .
أو يزوجهم ذكرانا وإناثا قال
مجاهد : هو أن تلد المرأة غلاما ثم تلد جارية ثم تلد غلاما ثم تلد جارية . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12691محمد بن الحنفية : هو أن تلد توأما ، غلاما وجارية ،
أو يزوجهم ذكرانا وإناثا . قال
القتبي : التزويج هاهنا هو الجمع بين البنين والبنات ، تقول العرب : زوجت إبلي إذا جمعت بين الكبار والصغار .
ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير أي لا يولد له ، يقال : رجل عقيم ، وامرأة عقيم . وعقمت المرأة تعقم عقما ، مثل حمد يحمد . وعقمت تعقم ، مثل عظم يعظم . وأصله القطع ، ومنه الملك العقيم ، أي : تقطع فيه الأرحام بالقتل والعقوق خوفا على الملك . وريح عقيم ، أي : لا تلقح سحابا ولا شجرا . ويوم القيامة يوم عقيم ; لأنه لا يوم بعده . ويقال : نساء عقم وعقم ، قال الشاعر [ هو
أبو هبل ] :
عقم النساء فما يلدن شبيهه إن النساء بمثله عقم
وحكى
النقاش أن هذه الآية نزلت في الأنبياء خصوصا وإن عم حكمها . وهب
للوط الإناث ليس معهن ذكر ، ووهب
لإبراهيم الذكور ليس معهم أنثى ، ووهب
لإسماعيل وإسحاق الذكور والإناث ، وجعل
عيسى ويحيى عقيمين ، ونحوه عن
ابن عباس وإسحاق بن بشر . قال
إسحاق : نزلت في الأنبياء ، ثم عمت .
يهب لمن يشاء إناثا يعني
لوطا - عليه السلام - ، لم يولد له ذكر وإنما ولد له ابنتان .
ويهب لمن يشاء الذكور يعني
إبراهيم - عليه السلام - لم يولد له أنثى بل ولد له ثمانية ذكور .
أو يزوجهم ذكرانا وإناثا يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولد له أربعة بنين وأربع بنات .
ويجعل من يشاء عقيما يعني
يحيى بن زكريا عليهما السلام ، لم يذكر
عيسى .
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : قال علماؤنا
يهب لمن يشاء إناثا يعني
لوطا كان له بنات ولم يكن له ابن .
ويهب لمن يشاء الذكور يعني
إبراهيم ، كان له بنون ولم يكن له بنت . وقوله :
أو يزوجهم ذكرانا وإناثا يعني
آدم ، كانت
حواء تلد له في كل بطن توأمين ذكرا وأنثى . ويزوج الذكر من هذا البطن من الأنثى من البطن الآخر ، حتى أحكم الله التحريم في شرع
نوح صلى الله عليه وسلم . وكذلك
محمد - صلى الله عليه وسلم - كان له ذكور وإناث ؛ من الأولاد :
القاسم والطيب والطاهر وعبد الله وزينب [ ص: 47 ] وأم كلثوم nindex.php?page=showalam&ids=10733ورقية وفاطمة ، وكلهم من
خديجة رضي الله عنها ،
وإبراهيم وهو من
مارية القبطية . وكذلك قسم الله الخلق من لدن
آدم إلى زماننا هذا ، إلى أن تقوم الساعة ، على هذا التقدير المحدود بحكمته البالغة ومشيئته النافذة ، ليبقى النسل ، ويتمادى الخلق ، وينفذ الوعد ، ويحق الأمر ، وتعمر الدنيا ، وتأخذ الجنة وجهنم كل واحدة ما يملؤها ويبقى . ففي الحديث :
إن النار لن تمتلئ حتى يضع الجبار فيها قدمه ، فتقول قط قط . وأما الجنة فيبقى منها فينشئ الله لها خلقا آخر .
الثانية : قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : إن الله تعالى لعموم قدرته وشديد قوته يخلق الخلق ابتداء من غير شيء ، وبعظيم لطفه وبالغ حكمته يخلق شيئا من شيء لا عن حاجة ، فإنه قدوس عن الحاجات سلام عن الآفات ، كما قال القدوس السلام ، فخلق
آدم من الأرض وخلق
حواء من
آدم وخلق النشأة من بينهما منهما مرتبا على الوطء كائنا عن الحمل موجودا في الجنين بالوضع ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=831109إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة ، أذكرا وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل آنثا . وكذلك في الصحيح أيضا :
nindex.php?page=hadith&LINKID=831110إذا علا ماء الرجل ماء المرأة أشبه الولد أعمامه وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أشبه الولد أخواله .
قلت : وهذا معنى حديث
عائشة لا لفظه خرجه
مسلم من حديث
عروة بن الزبير عنها
nindex.php?page=hadith&LINKID=831111أن [ ص: 48 ] امرأة قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل تغتسل المرأة إذا احتلمت وأبصرت الماء ؟ فقال : ( نعم ) فقالت لها عائشة : تربت يداك وألت ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : دعيها وهل يكون الشبه إلا من قبل ذلك . إذا علا ماؤها ماء الرجل أشبه الولد أخواله وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه . قال علماؤنا : فعلى مقتضى هذا الحديث أن العلو يقتضي الشبه ، وقد جاء في حديث
ثوبان خرجه
مسلم أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لليهودي :
nindex.php?page=hadith&LINKID=831112ماء الرجل أبيض ، وماء المرأة أصفر ، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله . . . الحديث . فجعل في هذا الحديث أيضا العلو يقتضي الذكورة والأنوثة ، فعلى مقتضى الحديثين يلزم اقتران الشبه للأعمام والذكورة إن علا مني الرجل ، وكذلك يلزم إن علا مني المرأة اقتران الشبه للأخوال والأنوثة ، لأنهما معلولا علة واحدة ، وليس الأمر كذلك بل الوجود بخلاف ذلك ، لأنا نجد الشبه للأخوال والذكورة والشبه للأعمام والأنوثة فتعين تأويل أحد الحديثين . والذي يتعين تأويله الذي في حديث
ثوبان فيقال : إن ذلك العلو معناه سبق الماء إلى الرحم ، ووجه أن العلو لما كان معناه الغلبة من قولهم سابقني فلان فسبقته أي : غلبته ، ومنه قوله تعالى :
وما نحن بمسبوقين أي : بمغلوبين ، قيل عليه علا . ويؤيد هذا التأويل قوله في الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=831109إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة أذكرا وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل آنثا .
وقد بنى
nindex.php?page=showalam&ids=12815القاضي أبو بكر بن العربي على هذه الأحاديث بناء فقال : إن للماءين أربعة أحوال : الأول : أن يخرج ماء الرجل أولا ، الثاني : أن يخرج ماء المرأة أولا ، الثالث : أن يخرج ماء الرجل أولا ويكون أكثر ، الرابع : أن يخرج ماء المرأة أولا ويكون أكثر . ويتم التقسيم بأن يخرج ماء الرجل أولا ثم يخرج ماء المرأة بعده ويكون أكثر أو بالعكس ، فإذا خرج ماء الرجل أولا وكان أكثر جاء الولد ذكرا بحكم السبق وأشبه الولد أعمامه بحكم الكثرة . وإن خرج ماء المرأة أولا وكان أكثر جاء الولد أنثى بحكم السبق وأشبه أخواله بحكم الغلبة . وإن خرج ماء الرجل أولا لكن لما خرج ماء المرأة بعده كان أكثر كان الولد ذكرا بحكم السبق وأشبه أخواله بحكم غلبة ماء المرأة ، وإن سبق ماء المرأة لكن لما خرج ماء الرجل كان أعلى من ماء المرأة ، كان الولد أنثى بحكم سبق ماء المرأة وأشبه أعمامه بحكم غلبة ماء الرجل . قال : وبانتظام هذه الأقسام يستتب الكلام ويرتفع التعارض عن الأحاديث ، فسبحان الخالق العليم .
الثالثة : قال علماؤنا : كانت الخلقة مستمرة ذكرا وأنثى إلى أن وقع في الجاهلية الأولى
[ ص: 49 ] الخنثى فأتي به فريض العرب ومعمرها
عامر بن الظرب فلم يدر ما يقول فيه وأرجأهم عنه ، فلما جن عليه الليل تنكر موضعه ، وأقض عليه مضجعه ، وجعل يتقلب ويتقلب ، وتجيء به الأفكار وتذهب ، إلى أن أنكرت خادمه حاله فقالت : ما بك ؟ قال لها : سهرت لأمر قصدت به فلم أدر ما أقول فيه ؟ فقالت ما هو ؟ قال لها : رجل له ذكر وفرج كيف يكون حاله في الميراث ؟ قالت له الأمة : ورثه من حيث يبول ، فعقلها وأصبح فعرضها عليهم وانقلبوا بها راضين . وجاء الإسلام على ذلك فلم تنزل إلا في عهد
علي - رضي الله عنه - فقضى فيها . وقد روى الفرضيون عن
الكلبي عن
أبي صالح عن
ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
nindex.php?page=hadith&LINKID=866011سئل عن مولود له قبل وذكر من أين يورث ؟ قال : من حيث يبول . وروي أنه
أتي بخنثى من الأنصار فقال : ورثوه من أول ما يبول . وكذا روى
nindex.php?page=showalam&ids=12691محمد بن الحنفية عن
علي ، ونحوه عن
ابن عباس ، وبه قال
ابن المسيب nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد ، وحكاه
المزني عن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي . وقال قوم : لا دلالة في البول ، فإن خرج البول منهما جميعا قال
أبو يوسف : يحكم بالأكثر . وأنكره
أبو حنيفة وقال : أتكيله! ولم يجعل أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي للكثرة حكما . وحكي عن
علي والحسن أنهما قالا : تعد أضلاعه ، فإن المرأة تزيد على الرجل بضلع واحد . وقد مضى ما للعلماء في هذا في آية المواريث في ( النساء ) مجودا والحمد لله .
الرابعة : قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815القاضي أبو بكر بن العربي : وقد أنكر قوم من رءوس العوام وجود الخنثى ، لأن الله تعالى قسم الخلق إلى ذكر وأنثى . قلنا : هذا جهل باللغة ، وغباوة عن مقطع الفصاحة ، وقصور عن معرفة سعة القدرة . أما قدرة الله سبحانه فإنه واسع عليم ، وأما ظاهر القرآن فلا ينفي وجود الخنثى ; لأن الله تعالى قال :
لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء فهذا عموم مدح فلا يجوز تخصيصه ; لأن القدرة تقتضيه . وأما قوله :
يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما فهذا إخبار عن الغالب في الموجودات ، وسكت عن ذكر النادر لدخوله تحت عموم الكلام الأول ، والوجود يشهد له والعيان يكذب منكره ، وقد كان يقرأ معنا برباط
أبي سعيد على الإمام الشهيد
[ ص: 50 ] من
بلاد المغرب خنثى ليس له لحية وله ثديان وعنده جارية ، فربك أعلم به ، ومع طول الصحبة عقلني الحياء عن سؤاله ، وبودي اليوم لو كاشفته عن حاله .