قوله تعالى : فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين .
قوله تعالى :
فما بكت عليهم السماء والأرض أي لكفرهم . وما كانوا منظرين أي : مؤخرين بالغرق . وكانت العرب تقول عند موت السيد منهم : بكت له السماء والأرض ، أي : عمت مصيبته الأشياء حتى بكته السماء والأرض والريح والبرق ، وبكته الليالي الشاتيات . قال الشاعر [
nindex.php?page=showalam&ids=17375يزيد بن مفرغ الحميري ] :
فالريح تبكي شجوها والبرق يلمع في الغمامه
وقال آخر [
جرير ] :
والشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
وقالت الخارجية [
ليلى بنت طريف الشيباني ] :
أيا شجر الخابور مالك مورقا كأنك لم تجزع على ابن طريف
[ ص: 130 ] وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه . والمعنى أنهم هلكوا فلم تعظم مصيبتهم ولم يوجد لهم فقد . وقيل : في الكلام إضمار ، أي : ما بكى عليهم أهل السماء والأرض من الملائكة ، كقوله تعالى :
واسأل القرية بل سروا بهلاكهم ، قاله
الحسن . وروى
يزيد الرقاشي عن
أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=866070ما من مؤمن إلا وله في السماء بابان باب ينزل منه رزقه وباب يدخل منه كلامه وعمله فإذا مات فقداه فبكيا عليه - ثم تلا - فما بكت عليهم السماء والأرض يعني أنهم لم يعملوا على الأرض عملا صالحا تبكي عليهم لأجله ، ولا صعد لهم إلى السماء عمل صالح فتبكي فقد ذلك . وقال
مجاهد : إن السماء والأرض يبكيان على المؤمن أربعين صباحا . قال
أبو يحيى : فعجبت من قوله فقال : أتعجب! وما للأرض لا تبكي على عبد يعمرها بالركوع والسجود! وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دوي كدوي النحل! . وقال
علي nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس - رضي الله عنهما - : إنه يبكي عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء . وتقدير الآية على هذا : فما بكت عليهم مصاعد عملهم من السماء ولا مواضع عبادتهم من الأرض . وهو معنى قول
سعيد بن جبير . وفي بكاء السماء والأرض ثلاثة أوجه : أحدها أنه كالمعروف من بكاء الحيوان . ويشبه أن يكون قول
مجاهد . وقال
شريح الحضرمي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=866071إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء يوم القيامة قيل : من هم يا رسول الله ؟ قال - هم الذين إذا فسد الناس صلحوا - ثم قال - ألا لا غربة على مؤمن وما مات مؤمن في غربة غائبا عنه بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض - ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما بكت عليهم السماء والأرض ثم قال : ألا إنهما لا يبكيان على الكافر .
قلت : وذكر
أبو نعيم محمد بن معمر قال : حدثنا
أبو شعيب الحراني قال حدثنا
يحيى بن عبد الله قال حدثنا
الأوزاعي قال حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=16566عطاء الخراساني قال : ما من عبد يسجد لله سجدة في بقعة من بقاع الأرض إلا شهدت له يوم القيامة وبكت عليه يوم يموت . وقيل : بكاؤهما حمرة أطرافهما ، قاله
علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -
nindex.php?page=showalam&ids=16568وعطاء nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي محمد بن علي وحكاه عن
الحسن . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : لما قتل
الحسين بن علي - رضي الله عنهما
[ ص: 131 ] بكت عليه السماء ، وبكاؤها حمرتها . وحكى
جرير عن
nindex.php?page=showalam&ids=17347يزيد بن أبي زياد قال : لما قتل
nindex.php?page=showalam&ids=17الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما احمر له آفاق السماء أربعة أشهر . قال
يزيد : واحمرارها بكاؤها . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16972محمد بن سيرين : أخبرونا أن الحمرة التي تكون مع الشفق لم تكن حتى قتل
الحسين بن علي - رضي الله عنهما - . وقال
سليمان القاضي : مطرنا دما يوم قتل الحسين .
قلت : روى
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني من حديث
مالك بن أنس عن
نافع عن
ابن عمر قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=831149الشفق الحمرة . وعن
عبادة بن الصامت nindex.php?page=showalam&ids=75وشداد بن أوس قالا : الشفق شفقان : الحمرة والبياض ، فإذا غابت الحمرة حلت الصلاة . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال : الشفق الحمرة . وهذا يرد ما حكاه
ابن سيرين . وقد تقدم في ( سبحان ) عن
قرة بن خالد قال : ما بكت السماء على أحد إلا على
يحيى بن زكريا nindex.php?page=showalam&ids=17والحسين بن علي ، وحمرتها بكاؤها . وقال
محمد بن علي الترمذي : البكاء إدرار الشيء فإذا أدرت العين بمائها قيل بكت ، وإذا أدرت السماء بحمرتها قيل بكت ، وإذا أدرت الأرض بغبرتها قيل بكت ; لأن المؤمن نور ومعه نور الله ، فالأرض مضيئة بنوره وإن غاب عن عينيك ، فإن فقدت نور المؤمن اغبرت فدرت باغبرارها ; لأنها كانت غبراء بخطايا أهل الشرك ، وإنما صارت مضيئة بنور المؤمن ، فإذا قبض المؤمن منها
[ ص: 132 ] درت بغبرتها . وقال
أنس : لما كان اليوم الذي دخل فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -
المدينة أضاء كل شيء ، فلما كان اليوم الذي قبض فيه أظلم كل شيء ، وإنا لفي دفنه ما نفضنا الأيدي منه حتى أنكرنا قلوبنا . وأما بكاء السماء فحمرتها كما قال
الحسن . وقال
نصر بن عاصم : إن أول الآيات حمرة تظهر ، وإنما ذلك لدنو الساعة ، فتدر بالبكاء لخلائها من أنوار المؤمنين . وقيل : بكاؤها أمارة تظهر منها تدل على أسف وحزن . قلت : والقول الأول أظهر ، إذ لا استحالة في ذلك . وإذا كانت السماوات والأرض تسبح وتسمع وتتكلم كما بيناه في ( سبحان ) و ( مريم ) و ( حم ) و ( فصلت ) ) فكذلك تبكي ، مع ما جاء من الخبر في ذلك والله أعلم بصواب هذه الأقوال .