قوله تعالى :
قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين .
قوله تعالى : قل ما كنت بدعا من الرسل أي أول من أرسل ، قد كان قبلي رسل ، عن
ابن عباس وغيره . والبدع : الأول . وقرأ
عكرمة وغيره ( بدعا ) بفتح الدال ، على تقدير حذف المضاف ، والمعنى : ما كنت صاحب بدع . وقيل : بدع وبديع بمعنى ، مثل نصف ونصيف . وأبدع الشاعر : جاء بالبديع . وشيء بدع ( بالكسر ) أي : مبتدع . وفلان بدع في هذا الأمر أي : بديع . وقوم أبداع ، عن
الأخفش . وأنشد
قطرب قول
عدي بن زيد :
فلا أنا بدع من حوادث تعتري رجالا غدت من بعد بؤسي بأسعد
[ قوله تعالى : ]
وما أدري ما يفعل بي ولا بكم يريد يوم القيامة . ولما نزلت فرح المشركون
واليهود والمنافقون وقالوا : كيف نتبع نبيا لا يدري ما يفعل به ولا بنا ، وأنه لا فضل له علينا ، ولولا أنه ابتدع الذي يقوله من تلقاء نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به ، فنزلت :
ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر فنسخت هذه الآية ، وأرغم الله أنف الكفار . وقالت الصحابة : هنيئا لك يا رسول الله ، لقد بين الله لك ما يفعل بك يا رسول الله ، فليت شعرنا ما هو فاعل بنا ؟
[ ص: 174 ] فنزلت :
ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار الآية . ونزلت :
وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا قاله
أنس nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس وقتادة والحسن وعكرمة والضحاك .
nindex.php?page=hadith&LINKID=866096وقالت أم العلاء امرأة من الأنصار : اقتسمنا المهاجرين فصار لنا nindex.php?page=showalam&ids=5559عثمان بن مظعون بن حذافة بن جمح ، فأنزلناه أبياتنا فتوفي ، فقلت : رحمة الله عليك أبا السائب إن الله أكرمك . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : [ وما يدريك أن الله أكرمه ] ؟ فقلت : بأبي وأمي يا رسول الله فمن ؟ قال : [ أما هو فقد جاءه اليقين وما رأينا إلا خيرا فوالله إني لأرجو له الجنة ووالله إني لرسول الله وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ] . قالت : فوالله لا أزكي بعده أحدا أبدا . ذكره
الثعلبي ، وقال : وإنما قال هذا حين لم يعلم بغفران ذنبه ، وإنما غفر الله له ذنبه في غزوة
الحديبية قبل موته بأربع سنين .
قلت : حديث
أم العلاء خرجه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ، وروايتي فيه : وما أدري ما يفعل به ليس فيه بي ولا بكم وهو الصحيح إن شاء الله ، على ما يأتي بيانه . والآية ليست منسوخة ; لأنها خبر .
قال
النحاس : محال أن يكون في هذا ناسخ ولا منسوخ من جهتين : أحدهما أنه خبر ، والآخر أنه من أول السورة إلى هذا الموضع خطاب للمشركين واحتجاج عليهم وتوبيخ لهم ، فوجب أن يكون هذا أيضا خطابا للمشركين كما كان قبله وما بعده ، ومحال أن يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للمشركين
ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة ، ولم يزل - صلى الله عليه وسلم - من أول مبعثه إلى مماته يخبر أن
من مات على الكفر مخلد في النار ،
ومن مات على الإيمان واتبعه وأطاعه فهو في الجنة ، فقد رأى - صلى الله عليه وسلم - ما يفعل به وبهم في الآخرة . وليس يجوز أن يقول لهم ما أدري ما
[ ص: 175 ] يفعل بي ولا بكم في الآخرة ، فيقولون كيف نتبعك وأنت لا تدري أتصير إلى خفض ودعة أم إلى عذاب وعقاب . والصحيح في الآية قول
الحسن ، كما قرأ
علي بن محمد بن جعفر بن حفص عن
يوسف بن موسى قال حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع قال حدثنا
أبو بكر الهذلي عن
الحسن : "
وما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا " قال
أبو جعفر : وهذا أصح قول وأحسنه ، لا يدري - صلى الله عليه وسلم - ما يلحقه وإياهم من مرض وصحة ورخص وغلاء وغنى وفقر . ومثله : ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء
الكلبي عن
أبي صالح عن
ابن عباس : لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء ، فقصها على أصحابه فاستبشروا بذلك ، ورأوا فيها فرجا مما هم فيه من أذى المشركين ، ثم إنهم مكثوا برهة لا يرون ذلك فقالوا : يا رسول الله ، متى نهاجر إلى الأرض التي رأيت ؟ فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم أي : لا أدري أأخرج إلى الموضع الذي رأيته في منامي أم لا . ثم قال : [
إنما هو شيء رأيته في منامي ما أتبع إلا ما يوحى إلي ] أي : لم يوح إلي ما أخبرتكم به . قال
القشيري : فعلى هذا لا نسخ في الآية . وقيل : المعنى لا أدري ما يفرض علي وعليكم من الفرائض . واختار
الطبري أن يكون المعنى : ما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا ، أتؤمنون أم تكفرون ، أم تعاجلون بالعذاب أم تؤخرون .
قلت : وهو معنى قول
الحسن nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي وغيرهما . قال
الحسن : ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا ، أما في الآخرة فمعاذ الله ، قد علم أنه في الجنة حين أخذ ميثاقه في الرسل ، ولكن قال ما أدري ما يفعل بي في الدنيا أأخرج كما أخرجت الأنبياء قبلي ، أو أقتل كما قتلت الأنبياء قبلي ، ولا أدري ما يفعل بكم ، أأمتي المصدقة أم المكذبة ، أم أمتي المرمية بالحجارة من السماء قذفا ، أو مخسوف بها خسفا ، ثم نزلت : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله . يقول : سيظهر دينه على الأديان . ثم قال في أمته : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم فأخبره تعالى بما يصنع به وبأمته ، ولا نسخ على هذا كله ، والحمد لله .
وقال
الضحاك أيضا : ما أدري ما يفعل بي ولا بكم أي : ما تؤمرون به وتنهون عنه . وقيل : أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للمؤمنين ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في القيامة ، ثم بين
[ ص: 176 ] الله تعالى ذلك في قوله :
ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر وبين فيما بعد ذلك حال المؤمنين ثم بين حال الكافرين .
قلت : وهذا معنى القول الأول ، إلا أنه أطلق فيه النسخ بمعنى البيان ، وأنه أمر أن يقول ذلك للمؤمنين ، والصحيح ما ذكرناه عن
الحسن وغيره . وما في ما يفعل يجوز أن تكون موصولة ، وأن تكون استفهامية مرفوعة .
إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين . وقرئ يوحي أي : الله عز وجل . تقدم في غير موضع .