[ ص: 295 ] الثالثة : قوله تعالى :
ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا أفرد النساء بالذكر لأن السخرية منهن أكثر . وقد قال الله تعالى :
إنا أرسلنا نوحا إلى قومه فشمل الجميع .
قال المفسرون : نزلت في امرأتين من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - سخرتا من
أم سلمة ، وذلك أنها ربطت خصريها بسبيبة - وهو ثوب أبيض ، ومثلها السب - وسدلت طرفيها خلفها فكانت تجرها ، فقالت
عائشة nindex.php?page=showalam&ids=41لحفصة - رضي الله عنهما : انظري! ما تجر خلفها كأنه لسان كلب ، فهذه كانت سخريتهما . وقال
أنس وابن زيد : نزلت في نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، عيرن
أم سلمة بالقصر . وقيل : نزلت في
عائشة ، أشارت بيدها إلى
أم سلمة ، يا نبي الله إنها لقصيرة . وقال
عكرمة عن
ابن عباس :
إن nindex.php?page=showalam&ids=199صفية بنت حيي بن أخطب أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله ، إن النساء يعيرنني ، ويقلن لي يا يهودية بنت يهوديين! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هلا قلت إن أبي هارون وإن عمي موسى وإن زوجي محمد . فأنزل الله هذه الآية .
الرابعة : في صحيح
الترمذي عن
عائشة قالت :
nindex.php?page=hadith&LINKID=831215حكيت للنبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا ، فقال : ما يسرني أني حكيت رجلا وأن لي كذا وكذا . قالت فقلت : يا رسول الله ، إن صفية امرأة - وقالت بيدها - هكذا ، يعني أنها قصيرة . فقال : ( لقد مزجت بكلمة لو مزج بها البحر لمزج ) . وفي
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
عبد الله بن زمعة قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=831216نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يضحك الرجل مما يخرج من الأنفس . وقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=831217لم يضرب أحدكم امرأته ضرب الفحل ثم لعله يعانقها . وفي صحيح
مسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=831218إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم . وهذا حديث عظيم يترتب عليه
ألا يقطع بعيب أحد لما يرى عليه من صور أعمال الطاعة أو المخالفة ، فلعل من يحافظ على الأعمال الظاهرة يعلم الله من قلبه وصفا مذموما لا تصح معه تلك الأعمال . ولعل من رأينا عليه تفريطا أو معصية يعلم الله من قلبه وصفا محمودا يغفر له بسببه . فالأعمال أمارات ظنية لا أدلة قطعية . ويترتب عليها عدم
[ ص: 296 ] الغلو في تعظيم من رأينا عليه أفعالا صالحة ، وعدم الاحتقار لمسلم رأينا عليه أفعالا سيئة . بل تحتقر وتذم تلك الحالة السيئة ، لا تلك الذات المسيئة . فتدبر هذا ، فإنه نظر دقيق ، وبالله التوفيق .
قوله تعالى :
ولا تلمزوا أنفسكم فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى :
ولا تلمزوا أنفسكم اللمز : العيب ، وقد مضى في ( براءة ) عند قوله تعالى :
ومنهم من يلمزك في الصدقات وقال
الطبري : اللمز باليد والعين واللسان والإشارة . والهمز لا يكون إلا باللسان . وهذه الآية مثل قوله تعالى :
ولا تقتلوا أنفسكم أي : لا يقتل بعضكم بعضا ; لأن المؤمنين كنفس واحدة ، فكأنه بقتل أخيه قاتل نفسه . وكقوله تعالى :
فسلموا على أنفسكم يعني يسلم بعضكم على بعض . والمعنى : لا يعب بعضكم بعضا . وقال
ابن عباس ومجاهد وقتادة nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير : لا يطعن بعضكم على بعض . وقال
الضحاك : لا يلعن بعضكم بعضا . وقرئ : ( ولا تلمزوا ) بالضم . وفي قوله : أنفسكم تنبيه على أن العاقل لا يعيب نفسه ، فلا ينبغي أن يعيب غيره لأنه كنفسه ، قال - صلى الله عليه وسلم - : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=865030المؤمنون كجسد واحد إن اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15558بكر بن عبد الله المزني : إذا أردت أن تنظر العيوب جمة فتأمل عيابا ، فإنه إنما يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب . وقال - صلى الله عليه وسلم - :
يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه ويدع الجذع في عينه وقيل : من سعادة المرء أن يشتغل بعيوب نفسه عن عيوب غيره . قال الشاعر :
المرء إن كان عاقلا ورعا أشغله عن عيوبه ورعه كما السقيم المريض يشغله
عن وجع الناس كلهم وجعه
وقال آخر :
لا تكشفن مساوي الناس ما ستروا فيهتك الله سترا عن مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ولا تعب أحدا منهم بما فيكا
[ ص: 297 ] الثانية : قوله تعالى :
ولا تنابزوا بالألقاب النبز ( بالتحريك ) اللقب ، والجمع : الأنباز . والنبز ( بالتسكين ) المصدر ، تقول : نبزه ينبزه نبزا ، أي : لقبه . وفلان ينبز بالصبيان أي : يلقبهم ، شدد للكثرة . ويقال النبز والنزب لقب السوء . وتنابزوا بالألقاب : أي : لقب بعضهم بعضا . وفي
الترمذي عن
أبي جبيرة بن الضحاك قال : كان الرجل منا يكون له الاسمان والثلاثة فيدعى ببعضها فعسى أن يكره ، فنزلت هذه الآية :
ولا تنابزوا بالألقاب قال هذا حديث حسن .
وأبو جبيرة هذا هو أخو ثابت بن الضحاك بن خليفة الأنصاري .
وأبو زيد سعيد بن الربيع صاحب الهروي ثقة . وفي مصنف
أبي داود عنه قال : فينا نزلت هذه الآية ، في
بني سلمة ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=831219قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول يا فلان فيقولون مه يا رسول الله ، إنه يغضب من هذا الاسم ، فنزلت هذه الآية : ولا تنابزوا بالألقاب فهذا قول .
وقول ثان - قال
الحسن ومجاهد : كان الرجل يعير بعد إسلامه بكفره يا يهودي يا نصراني ، فنزلت . وروي عن
قتادة nindex.php?page=showalam&ids=11873وأبي العالية وعكرمة . وقال
قتادة : هو قول الرجل للرجل يا فاسق يا منافق ، وقاله
مجاهد والحسن أيضا .
وقد
روي أن أبا ذر - رضي الله عنه - كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فنازعه رجل فقال له أبو ذر : يا ابن اليهودية! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ما ترى هاهنا أحمر وأسود ما أنت بأفضل منه ) يعني بالتقوى ، ونزلت : [ ص: 298 ] ولا تنابزوا بالألقاب وقال
ابن عباس : التنابز بالألقاب أن يكون الرجل قد عمل السيئات ثم تاب ، فنهى الله أن يعير بما سلف . يدل عليه ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=865034من عير مؤمنا بذنب تاب منه كان حقا على الله أن يبتليه به ويفضحه فيه في الدنيا والآخرة .
الثالثة : وقع من ذلك مستثنى من غلب عليه الاستعمال كالأعرج والأحدب ولم يكن له فيه كسب يجد في نفسه منه عليه ، فجوزته الأمة واتفق على قوله أهل الملة . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : وقد ورد لعمر الله من ذلك في كتبهم ما لا أرضاه في صالح حزرة ; لأنه صحف ( خرزة ) فلقب بها . وكذلك قولهم في
محمد بن سليمان الحضرمي : مطين ; لأنه وقع في طين ونحو ذلك مما غلب على المتأخرين ، ولا أراه سائغا في الدين . وقد كان
nindex.php?page=showalam&ids=17178موسى بن علي بن رباح المصري يقول : لا أجعل أحدا صغر اسم أبي في حل ، وكان الغالب على اسمه التصغير بضم العين . والذي يضبط هذا كله : أن كل ما يكره الإنسان إذا نودي به فلا يجوز لأجل الأذية . والله أعلم .
قلت : وعلى هذا المعنى ترجم
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري رحمه الله في ( كتاب الأدب ) من الجامع الصحيح . في ( باب ما يجوز من
ذكر الناس نحو قولهم الطويل والقصير لا يراد به شين الرجل ) قال : وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ما يقول ذو اليدين ) قال
أبو عبد الله بن خويز منداد : تضمنت الآية المنع من
تلقيب الإنسان بما يكره ، ويجوز تلقيبه بما يحب ، ألا ترى
nindex.php?page=hadith&LINKID=865035أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقب عمر بالفاروق ، وأبا بكر بالصديق ، وعثمان بذي النورين ، وخزيمة بذي الشهادتين ، nindex.php?page=showalam&ids=3وأبا هريرة بذي الشمالين وبذي اليدين ، في أشباه ذلك .
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (
nindex.php?page=hadith&LINKID=865036من حق المؤمن على المؤمن أن يسميه بأحب أسمائه إليه ) . ولهذا كانت التكنية من السنة والأدب الحسن ، قال
عمر - رضي الله عنه - : أشيعوا الكنى فإنها منبهة . ولقد لقب
أبو بكر بالعتيق والصديق ،
وعمر بالفاروق ،
وحمزة بأسد الله ،
وخالد بسيف الله . وقل من المشاهير في
[ ص: 299 ] الجاهلية والإسلام من ليس له لقب . ولم تزل هذه الألقاب الحسنة في الأمم كلها - من العرب والعجم - تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير . قال
nindex.php?page=showalam&ids=15151الماوردي : فأما مستحب الألقاب ومستحسنها فلا يكره . وقد وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عددا من أصحابه بأوصاف صارت لهم من أجل الألقاب .
قلت : فأما ما يكون ظاهرها الكراهة إذا أريد بها الصفة لا العيب فذلك كثير . وقد سئل
nindex.php?page=showalam&ids=16418عبد الله بن المبارك عن الرجل يقول :
حميد الطويل ،
وسليمان الأعمش ،
وحميد الأعرج ،
ومروان الأصغر ، فقال : إذا أردت صفته ولم ترد عيبه فلا بأس به . وفي صحيح
مسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=147عبد الله بن سرجس قال : رأيت
الأصلع - يعني عمر - يقبل
الحجر . في رواية
الأصيلع .
قوله تعالى :
ومن لم يتب أي عن هذه الألقاب التي يتأذى بها السامعون .
فأولئك هم الظالمون لأنفسهم بارتكاب هذه المناهي .