[ ص: 38 ] قوله تعالى : إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا إن لك في النهار سبحا طويلا فيه خمس مسائل :
الأولى : قوله تعالى :
إن ناشئة الليل قال العلماء : ناشئة الليل أي أوقاته وساعاته ، لأن أوقاته تنشأ أولا فأولا ; يقال : نشأ الشيء ينشأ : إذا ابتدأ وأقبل شيئا بعد شيء ، فهو ناشئ وأنشأه الله فنشأ ، ومنه نشأت السحابة إذا بدأت وأنشأها الله ; فناشئة : فاعلة من نشأت تنشأ فهي ناشئة ، ومنه قوله تعالى :
أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين والمراد إن ساعات الليل الناشئة ، فاكتفى بالوصف عن الاسم ، فالتأنيث للفظ ساعة ، لأن كل ساعة تحدث . وقيل : الناشئة مصدر بمعنى قيام الليل كالخاطئة والكاذبة ; أي إن نشأة الليل هي أشد وطئا . وقيل : إن ناشئة الليل قيام الليل . قال
ابن مسعود :
الحبشة يقولون : نشأ أي قام ، فلعله أراد أن الكلمة عربية ، ولكنها شائعة في كلام
الحبشة ، غالبة عليهم ، وإلا فليس في القرآن ما ليس في لغة العرب . وقد تقدم بيان هذا في مقدمة الكتاب مستوفى .
الثانية : بين تعالى في هذه الآية
فضل صلاة الليل على صلاة النهار ، وأن
الاستكثار من صلاة الليل بالقراءة فيها ما أمكن أعظم للأجر ، وأجلب للثواب .
واختلف العلماء في المراد بناشئة الليل ; فقال
ابن عمر nindex.php?page=showalam&ids=9وأنس بن مالك : هو ما بين المغرب والعشاء ، تمسكا بأن لفظ نشأ يعطي الابتداء ، فكان بالأولية أحق ; ومنه قول الشاعر :
ولولا أن يقال صبا نصيب لقلت بنفسي النشأ الصغار
وكان
علي بن الحسين يصلي بين المغرب والعشاء ويقول : هذا ناشئة الليل . وقال
عطاء وعكرمة : إنه بدء الليل . وقال
ابن عباس ومجاهد وغيرهما : هي الليل كله ; لأنه ينشأ بعد النهار ، وهو الذي اختاره
مالك بن أنس . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : وهو الذي يعطيه اللفظ وتقتضيه اللغة .
وقالت
عائشة nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس أيضا
ومجاهد : إنما الناشئة القيام بالليل بعد النوم . ومن قام أول الليل قبل النوم فما قام ناشئة . فقال
يمان وابن كيسان : هو القيام من آخر الليل . وقال
ابن عباس : كانت صلاتهم أول الليل . وذلك أن الإنسان إذا نام لا يدري متى يستيقظ .
وفي الصحاح : وناشئة الليل أول ساعاته . وقال
القتبي : إنه ساعات الليل ; لأنها تنشأ ساعة بعد
[ ص: 39 ] ساعة . وعن
الحسن ومجاهد : هي ما بعد العشاء الآخرة إلى الصبح . وعن
الحسن أيضا : ما كان بعد العشاء فهو ناشئة . ويقال : ما ينشأ في الليل من الطاعات ; حكاه
الجوهري .
الثالثة : قوله تعالى :
هي أشد وطئا قرأ
أبو العالية وأبو عمرو وابن أبي إسحاق ومجاهد وحميد وابن محيصن وابن عامر والمغيرة وأبو حيوة ( وطاء ) بكسر الواو وفتح الطاء والمد ، واختاره
أبو عبيد . الباقون ( وطأ ) بفتح الواو وسكون الطاء مقصورة ، واختاره
أبو حاتم ; من قولك : اشتدت على القوم وطأة سلطانهم . أي ثقل عليهم ما حملهم من المؤن ، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=866508اللهم اشدد وطأتك على مضر " فالمعنى أنها أثقل على المصلي من ساعات النهار . وذلك أن الليل وقت منام وتودع وإجمام ، فمن شغله بالعبادة فقد تحمل المشقة العظيمة . ومن مد فهو مصدر واطأت وطاء ومواطأة أي وافقته .
ابن زيد واطأته على الأمر مواطأة : إذا وافقته من الوفاق ، وفلان يواطئ اسمه اسمي ، وتواطئوا عليه أي توافقوا ; فالمعنى أشد موافقة بين القلب والبصر والسمع واللسان ; لانقطاع الأصوات والحركات ; قاله
مجاهد nindex.php?page=showalam&ids=12531وابن أبي مليكة وغيرهما . وقال
ابن عباس بمعناه ، أي يواطئ السمع القلب ; قال الله تعالى :
ليواطئوا عدة ما حرم الله أي ليوافقوا . وقيل : المعنى أشد مهادا للتصرف في التفكر والتدبر . والوطاء خلاف الغطاء . وقيل : أشد وطأ بسكون الطاء وفتح الواو أي أشد ثباتا من النهار ; فإن الليل يخلو فيه الإنسان بما يعمله ، فيكون ذلك أثبت للعمل وأتقى لما يلهي ويشغل القلب . والوطء الثبات ، تقول : وطئت الأرض بقدمي . وقال
الأخفش : أشد قياما .
الفراء : أثبت قراءة وقياما . وعنه : أشد وطأ أي أثبت للعمل وأدوم لمن أراد الاستكثار من العبادة ، والليل وقت فراغ عن اشتغال المعاش ، فعبادته تدوم ولا تنقطع .
وقال
الكلبي : أشد وطأ أي أشد نشاطا للمصلي ; لأنه في زمان راحته . وقال
عبادة : أشد وطأ أي نشاطا للمصلي وأخف وأثبت للقراءة .
الرابعة : قوله تعالى :
وأقوم قيلا أي القراءة بالليل أقوم منها بالنهار ; أي أشد استقامة واستمرارا على الصواب ; لأن الأصوات هادئة ، والدنيا ساكنة ، فلا يضطرب على المصلي ما يقرؤه .
قال
قتادة ومجاهد : أي أصوب للقراءة وأثبت للقول ; لأنه زمان التفهم . وقال
أبو علي : أقوم قيلا أي أشد استقامة لفراغ البال بالليل . وقيل : أي أعجل إجابة
[ ص: 40 ] للدعاء . حكاه
ابن شجرة . وقال
عكرمة :
عبادة الليل أتم نشاطا ، وأتم إخلاصا ، وأكثر بركة . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=15944زيد بن أسلم : أجدر أن يتفقه في القرآن .
وعن
الأعمش قال : قرأ
أنس بن مالك ( إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأصوب قيلا ) فقيل له : وأقوم قيلا فقال : أقوم وأصوب وأهيأ سواء . قال
أبو بكر الأنباري : وقد ترامى ببعض هؤلاء الزائغين إلى أن قال : من قرأ بحرف يوافق معنى حرف من القرآن فهو مصيب ، إذا لم يخالف معنى ولم يأت بغير ما أراد الله وقصد له ، واحتجوا بقول
أنس هذا . وهو قول لا يعرج عليه ولا يلتفت إلى قائله ; لأنه لو قرأ بألفاظ تخالف ألفاظ القرآن إذا قاربت معانيها واشتملت على عامتها ، لجاز أن يقرأ في موضع الحمد لله رب العالمين : الشكر للباري ملك المخلوقين ، ويتسع الأمر في هذا حتى يبطل لفظ جميع القرآن ، ويكون التالي له مفتريا على الله - عز وجل - ، كاذبا على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا حجة لهم في قول
ابن مسعود : نزل القرآن على سبعة أحرف ، إنما هو كقول أحدكم : هلم وتعال وأقبل ; لأن هذا الحديث يوجب أن
القراءات المأثورة المنقولة بالأسانيد الصحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اختلفت ألفاظها ، واتفقت معانيها ، كان ذلك فيها بمنزلة الخلاف في هلم ، وتعال ، وأقبل ، فأما ما لم يقرأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتابعوهم - رضي الله عنهم - ، فإنه من أورد حرفا منه في القرآن بهت ومال وخرج من مذهب الصواب . قال
أبو بكر : والحديث الذي جعلوه قاعدتهم في هذه الضلالة حديث لا يصح عن أحد من أهل العلم ; لأنه مبني على رواية
الأعمش عن
أنس ، فهو مقطوع ليس بمتصل فيؤخذ به من قبل أن
الأعمش رأى
أنسا ولم يسمع منه .
الخامسة : قوله تعالى :
إن لك في النهار سبحا طويلا قراءة العامة بالحاء غير معجمة ; أي تصرفا في حوائجك ، وإقبالا وإدبارا وذهابا ومجيئا .
والسبح : الجري والدوران ، ومنه السابح في الماء ; لتقلبه بيديه ورجليه . وفرس سابح : شديد الجري ; قال
امرؤ القيس :
مسح إذا ما السابحات على الونى أثرن الغبار بالكديد المركل
وقيل : السبح الفراغ ; أي إن لك فراغا للحاجات بالنهار .
وقيل :
إن لك في النهار سبحا أي نوما ، والتسبح التمدد ; ذكره الخليل .
وعن
ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=16568وعطاء : سبحا طويلا يعني فراغا طويلا لنومك وراحتك ، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك ، وقال
الزجاج : إن فاتك في الليل شيء فلك في النهار فراغ الاستدراك .
وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=17344يحيى بن يعمر nindex.php?page=showalam&ids=16115وأبو وائل ( سبخا ) بالخاء المعجمة . قال
المهدوي : ومعناه النوم ، روي ذلك عن القارئين بهذه القراءة . وقيل : معناه الخفة والسعة والاستراحة ; ومنه قول
[ ص: 41 ] النبي - صلى الله عليه وسلم -
nindex.php?page=showalam&ids=25لعائشة وقد دعت على سارق ردائها : " لا تسبخي عنه بدعائك عليه " . أي لا تخففي عنه إثمه ; قال الشاعر :
فسبخ عليك الهم واعلم بأنه إذا قدر الرحمن شيئا فكائن
الأصمعي : يقال سبخ الله عنك الحمى أي خففها . وسبخ الحر : فتر وخف . والتسبيخ النوم الشديد . والتسبيخ أيضا توسيع القطن والكتان والصوف وتنفيشها ; يقال للمرأة : سبخي قطنك . والسبيخ من القطن ما يسبخ بعد الندف ، أي يلف لتغزله المرأة ، والقطعة منه سبيخة ، وكذلك من الصوف والوبر . ويقال لقطع القطن سبائخ ; قال
الأخطل يصف القناص والكلاب :
فأرسلوهن يذرين التراب كما يذري سبائخ قطن ندف أوتار
وقال
ثعلب : السبخ بالخاء التردد والاضطراب ، والسبخ أيضا السكون ; ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3500548الحمى من فيح جهنم ، فسبخوها بالماء أي سكنوها . وقال
أبو عمرو : السبخ : النوم والفراغ .
قلت : فعلى هذا يكون من الأضداد وتكون بمعنى السبح ، بالحاء غير المعجمة .