قوله تعالى :
وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا قوله تعالى : وجزاهم بما صبروا على الفقر . وقال
القرظي : على الصوم . وقال
[ ص: 121 ] عطاء : على الجوع ثلاثة أيام وهي أيام النذر . وقيل : بصبرهم على طاعة الله ، وصبرهم على معصية الله ومحارمه . و ( ما ) : مصدرية ، وهذا على أن الآية نزلت في جميع الأبرار ومن فعل فعلا حسنا . وروى
ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الصبر فقال : " الصبر أربعة : أولها الصبر عند الصدمة الأولى ، والصبر على أداء الفرائض ، والصبر على اجتناب محارم الله ، والصبر على المصائب " .
جنة وحريرا أي أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير . أي يسمى بحرير الدنيا وكذلك الذي في الآخرة [ وفيه ] ما شاء الله - عز وجل - من الفضل . وقد تقدم : أن من
لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ، وإنما ألبسه من ألبسه في الجنة عوضا عن حبسهم أنفسهم في الدنيا عن الملابس التي حرم الله فيها .
قوله تعالى :
متكئين فيها أي في الجنة ; ونصب متكئين على الحال من الهاء والميم في جزاهم والعامل فيها جزى ولا يعمل فيها صبروا ; لأن الصبر إنما كان في الدنيا والاتكاء في الآخرة . وقال
الفراء . وإن شئت جعلت متكئين تابعا ، كأنه قال جزاهم جنة متكئين فيها .
على الأرائك السرر في الحجال وقد تقدم . وجاءت عن العرب أسماء تحتوي على صفات : أحدها الأريكة لا تكون إلا في حجلة على سرير ، ومنها السجل ، وهو الدلو الممتلئ ماء ، فإذا صفرت لم تسم سجلا ، وكذلك الذنوب لا تسمى ذنوبا حتى تملأ ، والكأس لا تسمى كأسا حتى تترع من الخمر . وكذلك الطبق الذي تهدى عليه الهدية مهدى ، فإذا كان فارغا قيل طبق أو خوان ; قال ذو الرمة :
خدود جفت في السير حتى كأنما يباشرن بالمعزاء مس الأرائك
أي الفرش على السرر .
لا يرون فيها شمسا أي لا يرون في الجنة شدة حر كحر الشمس
ولا زمهريرا أي ولا بردا مفرطا ; قال
الأعشى :
منعمة طفلة كالمها ة لم تر شمسا ولا زمهريرا
وعن
أبي صالح عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=866581اشتكت النار إلى ربها - عز وجل - قالت : يا رب أكل بعضي بعضا ، فجعل لها نفسين نفسا في الشتاء ونفسا في الصيف ، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها ، وشدة ما تجدون من الحر في الصيف من [ ص: 122 ] سمومها ) . وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "
إن هواء الجنة سجسج : لا حر ولا برد " والسجسج : الظل الممتد كما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=17058مرة الهمداني : الزمهرير البرد القاطع . وقال
مقاتل بن حيان : هو شيء مثل رؤوس الإبر ينزل من السماء في غاية البرد . وقال
ابن مسعود : هو لون من العذاب ، وهو البرد الشديد ، حتى إن أهل النار إذا ألقوا فيه سألوا الله أن يعذبهم بالنار ألف سنة أهون عليهم من عذاب الزمهرير يوما واحدا . قال
أبو النجم :
أو كنت ريحا كنت زمهريرا
وقال
ثعلب : الزمهرير : القمر بلغة
طيئ ; قال شاعرهم :
وليلة ظلامها قد اعتكر قطعتها والزمهرير ما زهر
ويروى : ما ظهر ; أي لم يطلع القمر . فالمعنى لا يرون فيها شمسا كشمس الدنيا ولا قمرا كقمر الدنيا ، أي إنهم في ضياء مستديم ، لا ليل فيه ولا نهار ; لأن ضوء النهار بالشمس ، وضوء الليل بالقمر . وقد مضى هذا المعنى مجودا في سورة ( مريم ) عند قوله تعالى :
ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا . وقال
ابن عباس : بينما أهل الجنة في الجنة إذ رأوا نورا ظنوه شمسا قد أشرقت بذلك النور الجنة ، فيقولون : قال ربنا : لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا فما هذا النور ؟ فيقول لهم رضوان : ليست هذه شمسا ولا قمرا ، ولكن هذه
فاطمة وعلي ضحكا ، فأشرقت الجنان من نور ضحكهما ، وفيهما أنزل الله تعالى :
هل أتى على الإنسان وأنشد :
أنا مولى لفتى أنزل فيه هل أتى
ذاك علي المرتضى وابن عم المصطفى
قوله تعالى :
ودانية عليهم ظلالها أي ظل الأشجار في الجنة قريبة من الأبرار ، فهي مظلة عليهم زيادة في نعيمهم وإن كان لا شمس ولا قمر ثم ; كما أن أمشاطهم الذهب والفضة ، وإن كان لا وسخ ولا شعث ثم . ويقال : إن ارتفاع الأشجار في الجنة مقدار مائة عام ، فإذا اشتهى ولي الله ثمرتها دانت حتى يتناولها . وانتصبت دانية على الحال عطفا على
[ ص: 123 ] ( متكئين ) كما تقول : في الدار عبد الله متكئا ومرسلة عليه الحجال . وقيل : انتصبت نعتا للجنة ; أي وجزاهم جنة دانية ، فهي ، صفة لموصوف محذوف . وقيل : على موضع
لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ويرون دانية ، وقيل : على المدح أي دنت دانية . قاله
الفراء . ظلالها الظلال مرفوعة بدانية ، ولو قرئ برفع دانية على أن تكون الظلال مبتدأ ودانية الخبر لجاز ، وتكون الجملة في موضع الحال من الهاء والميم في وجزاهم وقد قرئ بذلك . وفي قراءة
عبد الله ( ودانيا عليهم ) لتقدم الفعل . وفي حرف
أبي ( ودان ) رفع على الاستئناف .
وذللت أي سخرت لهم قطوفها أي ثمارها تذليلا أي تسخيرا ، فيتناولها القائم والقاعد والمضطجع ، لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك ; قاله
قتادة . وقال
مجاهد : إن قام أحد ارتفعت له ، وإن جلس تدلت عليه ، وإن اضطجع دنت منه فأكل منها . وعنه أيضا :
أرض الجنة من ورق ، وترابها الزعفران ، وطيبها مسك أذفر ، وأصول شجرها ذهب وورق ، وأفنانها اللؤلؤ والزبرجد والياقوت ، والثمر تحت ذلك كله ; فمن أكل منها قائما لم تؤذه ، ومن أكل منها قاعدا لم تؤذه ، ومن أكل منها مضطجعا لم تؤذه . وقال
ابن عباس : إذا هم أن يتناول من ثمارها تدلت إليه حتى يتناول منها ما يريد ، وتذليل القطوف تسهيل التناول . والقطوف : الثمار ، الواحد قطف بكسر القاف ، سمي به لأنه يقطف ، كما سمي الجنى لأنه يجنى .
تذليلا تأكيد لما وصف به من الذل ; كقوله :
ونزلناه تنزيلا وكلم الله موسى تكليما .
nindex.php?page=showalam&ids=15151الماوردي : ويحتمل أن يكون تذليل قطوفها أن تبرز لهم من أكمامها ، وتخلص لهم من نواها .
قلت : وفي هذا بعد ; فقد روى
ابن المبارك ، قال : أخبرنا
سفيان عن
حماد عن
سعيد بن جبير عن
ابن عباس قال : نخل الجنة : جذوعها زمرد أخضر ، وكربها ذهب أحمر ، وسعفها كسوة لأهل الجنة ، منها مقطعاتهم وحللهم ، وثمرها أمثال القلال والدلاء ، أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل ، وألين من الزبد ليس فيه عجم . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12940أبو جعفر النحاس : ويقال المذلل الذي قد ذلله الماء أي أرواه . ويقال المذلل الذي يفيئه أدنى ريح لنعمته ، ويقال المذلل المسوى ; لأن
أهل الحجاز يقولون : ذلل نخلك أي سوه ، ويقال المذلل القريب المتناول ، من قولهم : حائط ذليل أي قصير . قال
أبو جعفر : وهذه الأقوال التي حكيناها ذكرها أهل العلم باللغة وقالوها في قول
امرئ القيس :
[ وكشح لطيف كالحديل مخصر ] وساق كأنبوب السقي المذلل