قوله تعالى :
أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم قوله تعالى : أأنتم أشد خلقا يريد
أهل مكة ، أي أخلقكم بعد الموت أشد في تقديركم أم السماء ؟ ! فمن قدر على السماء قدر على الإعادة ; كقوله تعالى :
لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس وقوله تعالى :
أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ، فمعنى الكلام التقريع والتوبيخ . ثم وصف السماء فقال : بناها أي رفعها فوقكم كالبناء .
رفع سمكها أي أعلى سقفها في الهواء ; يقال : سمكت الشيء أي رفعته في الهواء ، وسمك الشيء سموكا : ارتفع وقال
الفراء : كل شيء حمل شيئا من البناء وغيره فهو سمك . وبناء مسموك وسنام سامك تامك أي عال ، والمسموكات : السماوات . ويقال : اسمك في الديم ، أي اصعد في الدرجة .
قوله تعالى :
فسواها أي خلقها خلقا مستويا ، لا تفاوت فيه ، ولا شقوق ، ولا فطور .
وأغطش ليلها أي جعله مظلما ; غطش الليل وأغطشه الله ; كقولك : ظلم الليل وأظلمه الله . ويقال أيضا : أغطش الليل بنفسه . وأغطشه الله كما يقال : أظلم الليل ، وأظلمه الله . والغطش والغبش : الظلمة . ورجل أغطش : أي أعمى ، أو شبيه به ، وقد غطش ، والمرأة غطشاء ; ويقال : ليلة غطشاء ، وليل أغطش وفلاة غطشى لا يهتدى لها ; قال
الأعشى :
ويهماء بالليل غطشى الفلا ة يؤنسني صوت فيادها
[ ص: 176 ] وقال
الأعشى أيضا :
عقرت لهم موهنا ناقتي وغامرهم مدلهم غطش
يعني بغامرهم ليلهم ; لأنه غمرهم بسواده . وأضاف الليل إلى السماء ; لأن الليل يكون بغروب الشمس ، والشمس مضاف إلى السماء ، ويقال : نجوم الليل ; لأن ظهورها بالليل .
وأخرج ضحاها أي أبرز نهارها وضوءها وشمسها . وأضاف الضحى إلى السماء كما أضاف إليها الليل ; لأن فيها سبب الظلام والضياء وهو غروب الشمس وطلوعها .
والأرض بعد ذلك دحاها أي بسطها . وهذا يشير إلى كون الأرض بعد السماء . وقد مضى القول فيه في أول ( البقرة ) عند قوله تعالى :
هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء مستوفى والعرب تقول : دحوت الشيء أدحوه دحوا : إذا بسطته . ويقال لعش النعامة أدحي ; لأنه مبسوط على وجه الأرض . وقال
أمية بن أبي الصلت :
وبث الخلق فيها إذ دحاها فهم قطانها حتى التنادي
وأنشد
المبرد :
دحاها فلما رآها استوت على الماء أرسى عليها الجبالا
وقيل : دحاها سواها ; ومنه قول
زيد بن عمرو :
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلما استوت شدها بأيد وأرسى عليها الجبالا
وعن
ابن عباس : خلق الله
الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان ، قبل أن يخلق الدنيا بألف عام ، ثم دحيت الأرض من تحت البيت . وذكر بعض أهل العلم أن ( بعد ) في موضع ( مع ) كأنه قال : والأرض مع ذلك دحاها ; كما قال تعالى : عتل بعد ذلك زنيم . ومنه قولهم : أنت أحمق وأنت بعد هذا سيئ الخلق ، قال الشاعر :
فقلت لها عني إليك فإنني حرام وإني بعد ذاك لبيب
أي مع ذلك لبيب . وقيل : " بعد " بمعنى " قبل " ; كقوله تعالى :
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أي من قبل الفرقان ، قال
أبو خراش الهذلي :
حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا خراش وبعض الشر أهون من بعض
وزعموا أن
خراشا نجا قبل
عروة . وقيل : دحاها : حرثها وشقها . قاله
ابن زيد .
[ ص: 177 ] وقيل : دحاها مهدها للأقوات . والمعنى متقارب وقراءة العامة ( والأرض ) بالنصب ، أي دحا الأرض . وقرأ
الحسن وعمرو بن ميمون ( والأرض ) بالرفع ، على الابتداء ; لرجوع الهاء . ويقال : دحا يدحو دحوا ودحى يدحى دحيا ; كقولهم : طغى يطغى ويطغو ، وطغي يطغى ، ومحا يمحو ويمحى ، ولحى العود يلحى ويلحو ، فمن قال : يدحو قال دحوت ومن قال يدحى قال دحيت .
أخرج منها أي أخرج من الأرض ماءها أي العيون المتفجرة بالماء . ومرعاها أي النبات الذي يرعى . وقال
القتبي : دل بشيئين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للأنام من العشب والشجر والحب والتمر والعصف والحطب واللباس والنار والملح ; لأن النار من العيدان والملح من الماء .
والجبال أرساها قراءة العامة ( والجبال ) بالنصب ، أي وأرسى الجبال أرساها يعني : أثبتها فيها أوتادا لها . وقرأ
الحسن وعمرو بن ميمون nindex.php?page=showalam&ids=16711وعمرو بن عبيد nindex.php?page=showalam&ids=14301ونصر بن عاصم ( والجبال ) بالرفع على الابتداء . ويقال : هلا أدخل حرف العطف على أخرج فيقال : إنه حال بإضمار قد ; كقوله تعالى :
حصرت صدورهم .
متاعا لكم أي منفعة لكم ولأنعامكم من الإبل والبقر والغنم . ومتاعا نصب على المصدر من غير اللفظ ; لأن
معنى أخرج منها ماءها ومرعاها أمتع بذلك . وقيل : نصب بإسقاط حرف الصفة تقديره لتتمتعوا به متاعا .