قوله تعالى :
فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم قوله تعالى : فلينظر الإنسان إلى طعامه لما ذكر - جل ثناؤه - ابتداء خلق الإنسان ، ذكر ما يسر من رزقه ; أي فلينظر كيف خلق الله طعامه . وهذا النظر نظر القلب بالفكر ; أي ليتدبر كيف خلق الله طعامه الذي هو قوام حياته ، وكيف هيأ له أسباب المعاش ، ليستعد بها للمعاد . وروي عن
الحسن ومجاهد قالا :
فلينظر الإنسان إلى طعامه أي إلى مدخله ومخرجه . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=12211ابن أبي خيثمة nindex.php?page=hadith&LINKID=866616عن الضحاك بن سفيان الكلابي قال : قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يا ضحاك ما طعامك " قلت : يا رسول الله ! اللحم واللبن ; قال : " ثم يصير إلى ماذا " قلت إلى ما قد علمته ; [ ص: 190 ] قال : " فإن الله ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدنيا " . وقال
أبي بن كعب : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=866617إن مطعم ابن آدم جعل مثلا للدنيا وإن قزحه وملحه فانظر إلى ما يصير " . وقال
أبو الوليد : سألت
ابن عمر عن الرجل يدخل الخلاء فينظر ما يخرج منه ; قال : يأتيه الملك فيقول انظر ما بخلت به إلى ما صار ؟
قوله تعالى : أنا صببنا الماء صبا قراءة العامة ( إنا ) بالكسر ، على الاستئناف ، وقرأ الكوفيون
ورويس عن
يعقوب أنا بفتح الهمزة ، ف " أنا " في موضع خفض على الترجمة عن الطعام ، فهو بدل منه ; كأنه قال :
فلينظر الإنسان إلى طعامه إلى أنا صببنا فلا يحسن الوقف على طعامه من هذه القراءة . وكذلك إن رفعت أنا بإضمار هو أنا صببنا ; لأنها في حال رفعها مترجمة عن الطعام . وقيل : المعنى : لأنا صببنا الماء ، فأخرجنا به الطعام ، أي كذلك كان . وقرأ
الحسين بن علي ( أنى ) فقال ، بمعنى كيف ؟ فمن أخذ بهذه القراءة قال : الوقف على طعامه تام . ويقال : معنى ( أنى ) أين ، إلا أن فيها كناية عن الوجوه ; وتأويلها : من أي وجه صببنا الماء ; قال
الكميت :
أنى ومن أين آبك الطرب من حيث لا صبوة ولا ريب
صببنا الماء صبا : يعني الغيث والأمطار .
ثم شققنا الأرض شقا أي بالنبات
فأنبتنا فيها حبا أي قمحا وشعيرا وسلتا وسائر ما يحصد ويدخر
وعنبا وقضبا وهو القت والعلف ، عن
الحسن : سمي بذلك ; لأنه يقضب أي يقطع بعد ظهوره مرة بعد مرة . قال
القتبي وثعلب :
وأهل مكة يسمون القت القضب . وقال
ابن عباس : هو الرطب لأنه يقضب من النخل : ولأنه ذكر العنب قبله . وعنه أيضا : أنه الفصفصة وهو القت الرطب . وقال
الخليل : القضب الفصفصة الرطبة . وقيل : بالسين ، فإذا يبست فهو قت . قال : والقضب : اسم يقع على ما يقضب من أغصان الشجرة ، ليتخذ منها سهام أو قسي . ويقال : قضبا ، يعني جميع ما يقضب ، مثل القت والكراث وسائر البقول التي تقطع فينبت أصلها . وفي الصحاح : والقضبة والقضب الرطبة ، وهي الإسفست بالفارسية ، والموضع الذي ينبت فيه مقضبة .
وزيتونا وهي شجرة الزيتون ونخلا يعني النخيل وحدائق أي بساتين واحدها حديقة . قال
[ ص: 191 ] الكلبي : وكل شيء أحيط عليه من نخيل أو شجر فهو حديقة ، وما لم يحط عليه فليس بحديقة .
غلبا عظاما شجرها ; يقال : شجرة غلباء ، ويقال للأسد : الأغلب ; لأنه مصمت العنق ، لا يلتفت إلا جميعا ; قال
العجاج :
ما زلت يوم البين ألوي صلبي والرأس حتى صرت مثل الأغلب
ورجل أغلب بين الغلب إذا كان غليظ الرقبة . والأصل في الوصف بالغلب : الرقاب فاستعير ; قال
عمرو بن معدي كرب :
يمشي بها غلب الرقاب كأنهم بزل كسين من الكحيل جلالا
وحديقة غلباء : ملتفة ، وحدائق غلب . واغلولب العشب : بلغ والتف البعض بالبعض . قال
ابن عباس : الغلب : جمع أغلب وغلباء وهي الغلاظ . وعنه أيضا الطوال .
قتادة وابن زيد : الغلب : النخل الكرام . وعن
ابن زيد أيضا
وعكرمة : عظام الأوساط والجذوع .
مجاهد : ملتفة .
( وفاكهة ) أي ما تأكله الناس من ثمار الأشجار كالتين والخوخ وغيرهما ( وأبا ) هو ما تأكله البهائم من العشب ، قال
ابن عباس والحسن : الأب : كل ما أنبتت الأرض ، مما لا يأكله الناس ، ما يأكله الآدميون هو الحصيد ; ومنه قول الشاعر في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - :
له دعوة ميمونة ريحها الصبا بها ينبت الله الحصيدة والأبا
وقيل : إنما سمي أبا ; لأنه يؤب أي يؤم وينتجع . والأب والأم : أخوان ; قال :
جذمنا قيس ونجد دارنا ولنا الأب به والمكرع
وقال
الضحاك : والأب : كل شيء ينبت على وجه الأرض . وكذا قال
أبو رزين : هو النبات . يدل عليه قول
ابن عباس قال : الأب : ما تنبت الأرض مما يأكل الناس والأنعام . وعن
ابن عباس أيضا
وابن أبي طلحة : الأب : الثمار الرطبة . وقال
الضحاك : هو التين خاصة . وهو محكي عن
ابن عباس أيضا ; قال الشاعر :
فما لهم مرتع للسوا م والأب عندهم يقدر
الكلبي : هو كل نبات سوى الفاكهة . وقيل : الفاكهة : رطب الثمار ، والأب يابسها . وقال
إبراهيم التيمي : سئل
أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - عن تفسير الفاكهة والأب فقال : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت : في كتاب الله ما لا أعلم . وقال
أنس : سمعت
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قرأ هذه الآية ثم قال : كل هذا قد عرفناه ، فما الأب ؟ ثم رفع عصا كانت بيده وقال : هذا لعمر الله التكلف ، وما عليك يا بن أم
عمر ألا تدري ما الأب ؟ ثم
[ ص: 192 ] قال : اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب ، وما لا فدعوه . وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=866618خلقتم من سبع ، ورزقتم من سبع ، فاسجدوا لله على سبع " . وإنما أراد بقوله : " خلقتم من سبع " يعني ( من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة ) الآية ، والرزق من سبع ، وهو
قوله تعالى : فأنبتنا فيها حبا وعنبا إلى قوله :
وفاكهة ثم قال :
وأبا وهو يدل على أنه ليس برزق لابن آدم ، وأنه مما تختص به البهائم . والله أعلم .
متاعا لكم نصب على المصدر المؤكد ، لأن إنبات هذه الأشياء إمتاع لجميع الحيوانات . وهذا ضرب مثل ضربه الله تعالى لبعث الموتى من قبورهم ، كنبات الزرع بعد دثوره ، كما تقدم بيانه في غير موضع . ويتضمن امتنانا عليهم بما أنعم به ، وقد مضى في غير موضع أيضا .