قوله تعالى :
فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى [ ص: 74 ] فيه أربع مسائل :
الأولى :
قوله تعالى : فأما من أعطى واتقى قال
ابن مسعود : يعني
أبا بكر - رضي الله عنه - وقاله عامة المفسرين . فروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=16281عامر بن عبد الله بن الزبير قال : كان
أبو بكر يعتق على الإسلام عجائز ونساء ، قال : فقال له أبو
قحافة : أي بني لو أنك أعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقومون معك ؟ فقال : يا أبت إنما أريد ما أريد . وعن
ابن عباس في قوله تعالى :
فأما من أعطى أي بذل . واتقى أي محارم الله التي نهى عنها .
وصدق بالحسنى أي بالخلف من الله تعالى على عطائه .
فسنيسره لليسرى وفي صحيح
مسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832550ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا .
وروي من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832551ما من يوم غربت شمسه إلا بعث بجنبتها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثقلين : اللهم أعط منفقا خلفا ، وأعط ممسكا تلفا فأنزل الله تعالى في ذلك في القرآن فأما من أعطى . . . الآيات . وقال أهل التفسير : فأما من أعطى المعسرين . وقال قتادة : أعطى حق الله تعالى الذي عليه . وقال الحسن : أعطى الصدق من قلبه .
وصدق بالحسنى أي بلا إله إلا الله قاله
الضحاك والسلمي nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس أيضا . وقال
مجاهد : بالجنة دليله قوله تعالى : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة . . . الآية . وقال
قتادة : بموعود الله الذي وعده أن يثيبه .
nindex.php?page=showalam&ids=15944زيد بن أسلم : بالصلاة والزكاة والصوم .
الحسن : بالخلف من عطائه وهو اختيار
الطبري . وتقدم عن
ابن عباس ، وكله متقارب المعنى إذ كله يرجع إلى الثواب الذي هو الجنة .
الثانية : قوله تعالى :
فسنيسره لليسرى أي نرشده لأسباب الخير والصلاح ، حتى يسهل عليه فعلها . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15944زيد بن أسلم :
لليسرى للجنة . وفي الصحيحين
nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي عن
علي - رضي الله عنه - قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832552كنا في جنازة بالبقيع ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فجلس وجلسنا معه ، ومعه عود ينكت به في الأرض ، فرفع رأسه إلى السماء فقال : " ما من نفس منفوسة إلا قد كتب مدخلها " فقال القوم : يا رسول الله ، أفلا نتكل على كتابنا ؟ فمن كان من أهل السعادة فانه يعمل للسعادة ، ومن كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء . قال : " بل اعملوا فكل ميسر أما من كان من أهل السعادة فإنه ييسر لعمل السعادة ، وأما من كان من أهل الشقاء فإنه ييسر لعمل [ ص: 75 ] الشقاء - ثم قرأ - فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى " لفظ
الترمذي . وقال فيه : حديث حسن صحيح .
nindex.php?page=hadith&LINKID=832553وسأل غلامان شابان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالا : العمل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير ؟ أم في شيء يستأنف ؟ فقال - عليه السلام - : " بل فيما جفت به الأقلام ، وجرت به المقادير " قالا : ففيم العمل ؟ قال : " اعملوا فكل ميسر لعمل الذي خلق له " قالا : فالآن نجد ونعمل .
الثالثة : قوله تعالى :
وأما من بخل واستغنى أي ضن بما عنده ، فلم يبذل خيرا . وقد تقدم بيانه وثمرته في الدنيا في سورة ( آل عمران ) . وفي الآخرة مآله النار ، كما في هذه الآية . روى
الضحاك عن
ابن عباس فسنيسره للعسرى قال : سوف أحول بينه وبين الإيمان بالله وبرسوله . وعنه عن
ابن عباس قال : نزلت في
أمية بن خلف وروى
عكرمة عن
ابن عباس :
وأما من بخل واستغنى يقول : بخل بماله ، واستغنى عن ربه .
وكذب بالحسنى أي بالخلف . وروى
ابن أبي نجيح عن
مجاهد :
وكذب بالحسنى قال : بالجنة . وبإسناد عنه آخر قال
بالحسنى أي بلا إله إلا الله .
فسنيسره أي نسهل طريقه . للعسرى أي للشر . وعن
ابن مسعود : للنار . وقيل : أي فسنعسر عليه أسباب الخير والصلاح حتى يصعب عليه فعلها . وقد تقدم أن
nindex.php?page=hadith&LINKID=832554الملك ينادي صباحا ومساء : اللهم أعط منفقا خلفا ، وأعط ممسكا تلفا . رواه
أبو الدرداء .
مسألة : قال العلماء : ثبت بهذه الآية وبقوله :
ومما رزقناهم ينفقون ، وقوله :
الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية إلى غير ذلك من الآيات - أن
الجود من مكارم الأخلاق ، والبخل من أرذلها . وليس الجواد الذي يعطي في غير موضع العطاء ، ولا
[ ص: 76 ] البخيل الذي يمنع في موضع المنع ، لكن
الجواد الذي يعطي في موضع العطاء ، والبخيل الذي يمنع في موضع العطاء ، فكل من استفاد بما يعطي أجرا وحمدا فهو الجواد . وكل من استحق بالمنع ذما أو عقابا فهو البخيل . ومن لم يستفد بالعطاء أجرا ولا حمدا ، وإنما استوجب به ذما فليس بجواد ، وإنما هو مسرف مذموم ، وهو من المبذرين الذين جعلهم الله إخوان الشياطين ، وأوجب الحجر عليهم . ومن لم يستوجب بالمنع عقابا ولا ذما ، واستوجب به حمدا ، فهو من أهل الرشد ، الذين يستحقون القيام على أموال غيرهم ، بحسن تدبيرهم وسداد رأيهم .
الرابعة : قال
الفراء : يقول القائل : كيف قال : فسنيسره للعسرى ؟ وهل في العسرى تيسير ؟ فيقال في الجواب : هذا في إجازته بمنزلة قوله - عز وجل - :
فبشرهم بعذاب أليم ، والبشارة في الأصل على المفرح والسار ، فإذا جمع في كلامين هذا خير وهذا شر ، جاءت البشارة فيهما . وكذلك التيسير في الأصل على المفرح ، فإذا جمع في كلامين هذا خير وهذا شر ، جاء التيسير فيهما جميعا . قال
الفراء : وقوله تعالى : فسنيسره : سنهيئه . والعرب تقول : قد يسرت الغنم : إذا ولدت أو تهيأت للولادة . قال :
[ إن لنا شيخين لا ينفعاننا غنيين لا يجدي علينا غناهما ] هما سيدانا يزعمان وإنما
يسوداننا أن يسرت غنماهما