صفحة جزء
[ ص: 148 ] قوله تعالى : فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ما هيه نار حامية قد تقدم القول في الميزان في ( الأعراف والكهف والأنبياء ) . وأن له كفة ولسانا توزن فيه الصحف المكتوب فيها الحسنات والسيئات . ثم قيل : إنه ميزان واحد بيد جبريل يزن أعمال بني آدم ، فعبر عنه بلفظ الجمع . وقيل : موازين ، كما قال :


ملك تقوم الحادثان لعدله فلكل حادثة لها ميزان



وقد ذكرناه فيما تقدم . وذكرناه أيضا في كتاب ( التذكرة ) وقيل : إن الموازين الحجج والدلائل ، قاله عبد العزيز بن يحيى ، واستشهد بقول الشاعر :


قد كنت قبل لقائكم ذا مرة     عندي لكل مخاصم ميزانه

ومعنى فهو في عيشة راضية أي عيش مرضي ، يرضاه صاحبه . وقيل : عيشة راضية أي فاعلة للرضا ، وهو اللين والانقياد لأهلها . فالفعل للعيشة لأنها أعطت الرضا من نفسها ، وهو اللين والانقياد . فالعيشة كلمة تجمع النعم التي في الجنة ، فهي فاعلة للرضا ، كالفرش المرفوعة ، وارتفاعها مقدار مائة عام ، فإذا دنا منها ولي الله اتضعت حتى يستوي عليها ، ثم ترتفع كهيئتها ، ومثل الشجرة فرعها ، كذلك أيضا من الارتفاع ، فإذا اشتهى ولي الله ثمرتها تدلت إليه ، حتى يتناولها ولي الله قاعدا وقائما ، وذلك قوله تعالى : قطوفها دانية . وحيثما مشى أو ينتقل من مكان إلى مكان ، جرى معه نهر حيث شاء ، علوا وسفلا ، وذلك قوله تعالى : يفجرونها تفجيرا . فيروى في الخبر ( إنه يشير بقضيته فيجري من غير أخدود حيث شاء من قصوره وفي مجالسه ) . فهذه الأشياء كلها عيشة قد أعطت الرضا من نفسها ، فهي فاعلة للرضا ، وهي انذلت وانقادت بذلا وسماحة .

ومعنى فأمه هاوية يعني جهنم . وسماها أما ، لأنه يأوي إليها كما يأوي إلى أمه ، قاله ابن زيد . ومنه قول أمية بن أبي الصلت :


فالأرض معقلنا وكانت أمنا     فيها مقابرنا وفيها نولد

وسميت النار هاوية ; لأنه يهوى فيها مع بعد قعرها . ويروى أن الهاوية اسم الباب [ ص: 149 ] الأسفل من النار . وقال قتادة : معنى فأمه هاوية فمصيره إلى النار . عكرمة : لأنه يهوي فيها على أم رأسه . الأخفش : أمه : مستقره ، والمعنى متقارب . وقال الشاعر :


يا عمرو لو نالتك أرماحنا     كنت كمن تهوي به الهاوية

والهاوية : المهواة . وتقول : هوت أمه ، فهي هاوية ، أي ثاكلة ، قال كعب بن سعد الغنوي :


هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا     وماذا يؤدي الليل حين يئوب

والمهوى والمهواة : ما بين الجبلين ، ونحو ذلك . وتهاوى القوم في المهواة : إذا سقط بعضهم في إثر بعض .

وما أدراك ما هيه الأصل ( ما هي ) فدخلت الهاء للسكت . وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وابن محيصن ( ما هي نار ) بغير هاء في الوصل ، ووقفوا بها . وقد مضى في سورة الحاقة بيانه .

نار حامية أي شديدة الحرارة . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءا من حر جهنم . قالوا : والله إن كانت لكافية يا رسول الله . قال : فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا ، كلها مثل حرها .

وروي عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قال : إنما ثقل ميزان من ثقل ميزانه ; لأنه وضع فيه الحق ، وحق لميزان يكون فيه الحق أن يكون ثقيلا . وإنما خف ميزان من خف ميزانه ; لأنه وضع فيه الباطل ، وحق لميزان يكون فيه الباطل أن يكون خفيفا . وفي الخبر عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أن الموتى يسألون الرجل يأتيهم عن رجل مات قبله ، فيقول ذلك مات قبلي ، أما مر بكم ؟ فيقولون لا والله ، فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون ! ذهب به إلى أمه الهاوية ، فبئس الأم ، وبئس المربية " . وقد ذكرناه بكماله في كتاب ( التذكرة ) ، والحمد لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية