[ ص: 182 ] قوله تعالى : إيلافهم رحلة الشتاء والصيف
قرأ
مجاهد وحميد ( إلفهم ) ساكنة اللام بغير ياء . وروي نحوه عن
ابن كثير . وكذلك روت
أسماء أنها
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ ( إلفهم ) . وروي عن
ابن عباس وغيره . وقرأ
أبو جعفر والوليد عن
أهل الشام وأبو حيوة ( إلافهم ) مهموزا مختلسا بلا ياء . وقرأ
أبو بكر عن
عاصم ( إئلافهم ) بهمزتين ، الأولى مكسورة والثانية ساكنة . والجمع بين الهمزتين في الكلمتين شاذ . الباقون إيلافهم بالمد والهمز ; وهو الاختيار ، وهو بدل من الإيلاف الأول للبيان . وهو مصدر آلف : إذا جعلته يألف . وألف هو إلفا ; على ما تقدم ذكره من القراءة ; أي وما قد ألفوه من رحلة الشتاء والصيف . روى
ابن أبي نجيح عن
مجاهد في قوله تعالى :
إيلافهم رحلة الشتاء والصيف قال : لا يشق عليهم رحلة شتاء ولا صيف ، منة منه على
قريش .
وقال
الهروي وغيره : وكان أصحاب الإيلاف أربعة إخوة :
هاشم ، وعبد شمس ، والمطلب ، ونوفل بنو عبد مناف . فأما
هاشم فإنه كان يؤلف ملك
الشام ; أي أخذ منه حبلا وعهدا يأمن به في تجارته إلى
الشام . وأخوه
عبد شمس كان يؤلف إلى
الحبشة .
والمطلب إلى
اليمن . ونوفل إلى
فارس . ومعنى يؤلف يجير . فكان هؤلاء الإخوة يسمون المجيرين . فكان تجار
قريش يختلفون إلى الأمصار بحبل هؤلاء الإخوة ، فلا يتعرض لهم . قال
الزهري : الإيلاف : شبه الإجارة بالخفارة ; يقال : آلف يؤلف : إذا أجار الحمائل بالخفارة . والحمائل : جمع حمولة . قال : والتأويل : أن
قريشا كانوا سكان
الحرم ، ولم يكن لهم زرع ولا ضرع ، وكانوا يميرون في الشتاء والصيف آمنين ، والناس يتخطفون من حولهم ، فكانوا إذا عرض لهم عارض قالوا : نحن أهل حرم الله ، فلا يتعرض الناس لهم . وذكر
أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا في تفسيره : حدثنا
سعيد بن محمد ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=15556بكر بن سهل الدمياطي ، بإسناده إلى
ابن عباس ، في قول الله - عز وجل - :
لإيلاف قريش إلافهم رحلة الشتاء والصيف . وذلك أن
قريشا كانوا إذا أصابت واحدا منهم مخمصة ، جرى هو وعياله إلى موضع معروف ، فضربوا على أنفسهم خباء فماتوا ; حتى كان
عمرو بن عبد مناف ، وكان سيد زمانه ، وله ابن يقال له
أسد ، وكان له ترب من
بني مخزوم ، يحبه ويلعب معه . فقال له : نحن غدا نعتفد ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=13417ابن فارس : هذه لفظة في هذا الخبر لا أدري : بالدال هي أم بالراء ; فإن كانت بالراء فلعلها من العفر ، وهو التراب ، وإن كانت بالدال ، فما أدري معناها ، وتأويله على ما أظنه : ذهابهم إلى ذلك الخباء ، وموتهم واحدا بعد واحد . قال : فدخل
أسد على أمه يبكي ، وذكر ما قاله تربه . قال : فأرسلت
أم أسد إلى أولئك بشحم ودقيق ، فعاشوا به أياما . ثم إن تربه أتاه أيضا فقال : نحن غدا نعتفد ،
[ ص: 183 ] فدخل
أسد على أبيه يبكي ، وخبره خبر تربه ، فاشتد ذلك على
عمرو بن عبد مناف ، فقام خطيبا في
قريش وكانوا يطيعون أمره ، فقال : إنكم أحدثتم حدثا تقلون فيه وتكثر العرب ، وتذلون وتعز العرب ، وأنتم أهل حرم الله جل وعز ، وأشرف ولد آدم ، والناس لكم تبع ، ويكاد هذا الاعتفاد يأتي عليكم . فقالوا : نحن لك تبع . قال : ابتدئوا بهذا الرجل - يعني أبا ترب
أسد - فأغنوه عن الاعتفاد ، ففعلوا . ثم إنه نحر البدن ، وذبح الكباش والمعز ، ثم هشم الثريد ، وأطعم الناس ; فسمي هاشما . وفيه قال الشاعر :
عمرو الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف
ثم جمع كل بني أب على رحلتين : في الشتاء إلى
اليمن ، وفي الصيف إلى
الشام للتجارات ، فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير ، حتى صار فقيرهم كغنيهم ; فجاء الإسلام وهم على هذا ، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالا ولا أعز من
قريش ، وهو قول شاعرهم :
والخالطون فقيرهم بغنيهم حتى يصير فقيرهم كالكافي
فلم يزالوا كذلك حتى بعث الله رسوله
محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، فقال :
فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع بصنيع
هاشم وآمنهم من خوف أن تكثر العرب ويقلوا .
قوله تعالى :
رحلة الشتاء والصيف ، رحلة نصب بالمصدر ; أي ارتحالهم رحلة ; أو بوقوع إيلافهم عليه ، أو على الظرف . ولو جعلتها في محل الرفع ، على معنى هما رحلة الشتاء والصيف ، لجاز . والأول أولى . والرحلة الارتحال . وكانت إحدى الرحلتين إلى
اليمن في الشتاء ، لأنها بلاد حامية ، والرحلة الأخرى في الصيف إلى
الشام ، لأنها بلاد باردة . وعن
ابن عباس أيضا قال : كانوا يشتون
بمكة لدفئها ، ويصيفون
بالطائف لهوائها . وهذه من أجل النعم أن يكون للقوم ناحية حر تدفع عنهم برد الشتاء ، وناحية برد تدفع عنهم حر الصيف ; فذكرهم الله تعالى هذه النعمة . وقال الشاعر :
تشتي بمكة نعمة ومصيفها بالطائف
وهنا أربع مسائل :
الأولى : اختار
nindex.php?page=showalam&ids=12815القاضي أبو بكر بن العربي وغيره من العلماء : أن قوله تعالى : لإيلاف متعلق بما قبله . ولا يجوز أن يكون متعلقا بما بعده ، وهو قوله تعالى :
فليعبدوا رب هذا البيت قال : وإذا ثبت أنه متعلق بالسورة الأخرى - وقد قطع عنه بكلام مبتدأ ، واستئناف بيان وسطر بسم الله الرحمن الرحيم ، فقد تبين جواز
الوقف في القراءة للقراء قبل تمام الكلام ، [ ص: 184 ] وليست المواقف التي ينتزع بها القراء شرعا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرويا ، وإنما أرادوا به تعليم الطلبة المعاني ، فإذا علموها وقفوا حيث شاءوا . فأما
الوقف عند انقطاع النفس فلا خلاف فيه ، ولا تعد ما قبله إذا اعتراك ذلك ، ولكن ابدأ من حيث وقف بك نفسك . هذا رأيي فيه ، ولا دليل على ما قالوه ، بحال ، ولكني أعتمد الوقف على التمام ، كراهية الخروج عنهم .
قلت : ومن الدليل على صحة هذا ، قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم -
الحمد لله رب العالمين ثم يقف .
الرحمن الرحيم ثم يقف . وقد مضى في مقدمة الكتاب . وأجمع المسلمون أن
الوقف عند قوله : كعصف مأكول ليس بقبيح . وكيف يقال إنه قبيح وهذه السورة تقرأ في الركعة الأولى والتي بعدها في الركعة الثانية ، فيتخللها من قطع القراءة أركان ؟ وليس أحد من العلماء يكره ذلك ، وما كانت العلة فيه إلا أن قوله تعالى :
فجعلهم كعصف مأكول انتهاء آية . فالقياس على ذلك : ألا يمتنع الوقف عند أعجاز الآيات سواء كان الكلام يتم ، والغرض ينتهي ، أو لا يتم ، ولا ينتهي . وأيضا فإن الفواصل حلية وزينة للكلام المنظوم ، ولولاها لم يتبين المنظوم من المنثور . ولا خفاء أن الكلام المنظوم أحسن ; فثبت بذلك أن الفواصل من محاسن المنظوم ، فمن أظهر فواصله بالوقوف عليها فقد أبدى محاسنه ، وترك الوقوف يخفي تلك المحاسن ، ويشبه المنثور بالمنظوم ، وذلك إخلال بحق المقروء .
الثانية : قال
مالك : الشتاء نصف السنة ، والصيف نصفها ، ولم أزل أرى
ربيعة بن أبي عبد الرحمن ومن معه ، لا يخلعون عمائمهم حتى تطلع الثريا ، وهو يوم التاسع عشر من بشنس ، وهو يوم خمسة وعشرين من عدد
الروم أو
الفرس . وأراد بطلوع الثريا أن يخرج السعاة ، ويسير الناس بمواشيهم إلى مياههم ، وأن طلوع الثريا أول الصيف ودبر الشتاء . وهذا مما لا خلاف فيه بين أصحابه عنه . وقال عنه
أشهب وحده : إذا سقطت الهقعة نقص الليل ، ، فلما جعل طلوع الثريا أول الصيف ، وجب أن يكون له في مطلق السنة ستة أشهر ، ثم يستقبل الشتاء من بعد ذهاب الصيف ستة أشهر . وقد سئل
محمد بن عبد الحكم عمن
حلف ألا يكلم امرأ حتى يدخل الشتاء ؟ فقال : لا يكلمه حتى يمضي سبعة عشر من هاتور . ولو قال يدخل الصيف ، لم يكلمه حتى يمضي سبعة عشر من بشنس . قال
القرظي : أما ذكر هذا عن
محمد في بشنس ، فهو سهو ، إنما هو تسعة عشر من بشنس ، لأنك إذا حسبت المنازل على ما هي عليه ، من ثلاث عشرة ليلة كل منزلة ، علمت أن ما بين تسع عشرة من هاتور لا تنقضي منازل إلا بدخول تسع عشرة من بشنس . والله أعلم .
الثالثة : قال قوم : الزمان أربعة أقسام : شتاء ، وربيع ، وصيف ، وخريف . وقال قوم : هو
[ ص: 185 ] شتاء ، وصيف ، وقيظ ، وخريف . والذي قاله
مالك أصح ; لأن الله قسم الزمان قسمين ولم يجعل لهما ثالثا .
الرابعة : لما امتن الله تعالى على
قريش برحلتين ، شتاء وصيفا ، على ما تقدم ، كان فيه دليل على جواز تصرف الرجل في الزمانين بين محلين ، يكون حالهما في كل زمان أنعم من الآخر ; كالجلوس في المجلس البحري في الصيف ، وفي القبلي في الشتاء ، وفي اتخاذ البادهنجات والخيش للتبريد ، واللبد واليانوسة للدفء .