الثالثة :
في السبت معناه في يوم السبت ، ويحتمل أن يريد في حكم السبت . والأول قول
الحسن ، وأنهم أخذوا فيه الحيتان على جهة الاستحلال . وروى
أشهب عن
مالك قال : زعم
ابن رومان أنهم كانوا يأخذ الرجل منهم خيطا ويضع فيه وهقة وألقاها في ذنب الحوت ، وفي الطرف الآخر من الخيط وتد وتركه كذلك إلى الأحد ، ثم تطرق الناس حين رأوا من صنع لا يبتلى ، حتى كثر صيد الحوت ومشي به في الأسواق ، وأعلن الفسقة بصيده . فقامت فرقة
[ ص: 411 ] فنهت وجاهرت بالنهي واعتزلت . ويقال : إن الناهين قالوا : لا نساكنكم ، فقسموا القرية بجدار . فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد ، فقالوا : إن للناس لشأنا ، فعلوا على الجدار فنظروا فإذا هم قردة ، ففتحوا الباب ودخلوا عليهم ، فعرفت القردة أنسابها من الإنس ، ولا يعرف الإنس أنسابهم من القردة ، فجعلت القردة تأتي نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي ، فيقول : ألم ننهكم ؟ فتقول برأسها : نعم . قال
قتادة : صار الشبان قردة ، والشيوخ خنازير ، فما نجا إلا الذين نهوا ، وهلك سائرهم . وسيأتي في " الأعراف " قول من قال : إنهم كانوا ثلاث فرق . وهو أصح من قول من قال : إنهم لم يفترقوا إلا فرقتين . والله أعلم .
والسبت مأخوذ من السبت وهو القطع ، فقيل : إن الأشياء سبتت وتمت خلقتها . وقيل : هو مأخوذ من السبوت الذي هو الراحة والدعة .
واختلف العلماء في
الممسوخ هل ينسل على قولين . قال
الزجاج : قال قوم : يجوز أن تكون هذه القردة منهم . واختاره القاضي
nindex.php?page=showalam&ids=12815أبو بكر بن العربي . وقال الجمهور : الممسوخ لا ينسل ، وإن القردة والخنازير وغيرهما كانت قبل ذلك ، والذين مسخهم الله قد هلكوا ولم يبق لهم نسل ؛ لأنه قد أصابهم السخط والعذاب ، فلم يكن لهم قرار في الدنيا بعد ثلاثة أيام . قال
ابن عباس : لم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام ، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل . قال
ابن عطية : وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت أن الممسوخ لا ينسل ، ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام .
قلت : هذا هو الصحيح من القولين . وأما ما احتج به
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي وغيره على صحة القول الأول من قوله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=837069فقدت أمة من بني إسرائيل لا يدرى ما فعلت ولا أراها إلا الفأر ؛ ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربه وإذا وضع لها ألبان الشاء شربته . رواه
nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة أخرجه
مسلم ، وبحديث الضب ، رواه
مسلم أيضا عن
أبي سعيد وجابر ، قال
جابر :
nindex.php?page=hadith&LINKID=837070أتي [ ص: 412 ] النبي صلى الله عليه وسلم بضب فأبى أن يأكل منه ، وقال : ( لا أدري لعله من القرون التي مسخت ) فمتأول على ما يأتي . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : وفي
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
عمرو بن ميمون أنه قال : رأيت في الجاهلية قردة قد زنت فرجموها فرجمتها معهم . ثبت في بعض نسخ
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري وسقط في بعضها ، وثبت في نص الحديث " قد زنت " وسقط هذا اللفظ عند بعضهم . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : فإن قيل : وكأن البهائم بقيت فيهم معارف الشرائع حتى ورثوها خلفا عن سلف إلى زمان
عمرو ؟ قلنا : نعم ، كذلك كان ؛ لأن
اليهود غيروا الرجم فأراد الله أن يقيمه في مسوخهم حتى يكون أبلغ في الحجة على ما أنكروه من ذلك وغيروه ، حتى تشهد عليهم كتبهم وأحبارهم ومسوخهم ، حتى يعلموا أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ، ويحصي ما يبدلون وما يغيرون ، ويقيم عليهم الحجة من حيث لا يشعرون وينصر نبيه عليه السلام ، وهم لا ينصرون .
قلت : هذا كلامه في الأحكام ، ولا حجة في شيء منه . وأما ما ذكره من قصة
عمرو فذكر
nindex.php?page=showalam&ids=14171الحميدي في جمع الصحيحين : حكى
أبو مسعود الدمشقي أن
nindex.php?page=showalam&ids=16723لعمرو بن ميمون الأودي في الصحيحين حكاية من رواية
حصين عنه قال : رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة فرجموها فرجمتها معهم . كذا حكى
أبو مسعود ولم يذكر في أي موضع أخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري من كتابه ، فبحثنا عن ذلك فوجدناه في بعض النسخ لا في كلها ، فذكر في كتاب " أيام الجاهلية " .
وليس في رواية
النعيمي عن
الفربري أصلا شيء من هذا الخبر في القردة ، ولعلها من المقحمات في كتاب
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري . والذي قال
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في التاريخ الكبير : قال لي
نعيم بن حماد أخبرنا
هشيم عن
أبي بلج وحصين عن
عمرو بن ميمون قال : رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قرود فرجموها فرجمتها معهم . وليس فيه " قد زنت " . فإن صحت هذه الرواية فإنما أخرجها
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري دلالة على أن
عمرو بن ميمون قد أدرك الجاهلية ولم يبال بظنه الذي ظنه في الجاهلية . وذكر
أبو عمر في " الاستيعاب " :
عمرو بن ميمون وأن كنيته أبو عبد الله " معدود في كبار التابعين من
الكوفيين ، وهو الذي رأى الرجم في الجاهلية من القردة إن صح ذلك ؛ لأن رواته مجهولون . وقد ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
نعيم عن
هشيم عن
حصين عن
عمرو بن ميمون الأودي مختصرا قال : رأيت في الجاهلية قردة زنت فرجموها - يعني القردة - فرجمتها معهم . ورواه
عباد بن العوام عن
حصين كما رواه
هشيم مختصرا . وأما القصة بطولها فإنها تدور على
[ ص: 413 ] عبد الملك بن مسلم عن
عيسى بن حطان ، وليسا ممن يحتج بهما . وهذا عند جماعة أهل العلم منكر
إضافة الزنى إلى غير مكلف ، وإقامة الحدود في البهائم . ولو صح لكانوا من الجن ؛ لأن العبادات في الإنس والجن دون غيرهما " . وأما قوله عليه السلام في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=837071ولا أراها إلا الفأر ) وفي الضب : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=837072لا أدري لعله من القرون التي مسخت ) وما كان مثله - فإنما كان ظنا وخوفا لأن يكون الضب والفأر وغيرهما مما مسخ ، وكان هذا حدسا منه صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه أن الله لم يجعل للمسخ نسلا ، فلما أوحي إليه بذلك زال عنه ذلك التخوف ، وعلم أن الضب والفأر ليسا مما مسخ ، وعند ذلك أخبرنا بقوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن القردة والخنازير : هي مما مسخ ، فقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=837073إن الله لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك . وهذا نص صريح صحيح رواه
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود ، أخرجه
مسلم في كتاب القدر . وثبتت النصوص بأكل الضب بحضرته وعلى مائدته ولم ينكر ، فدل على صحة ما ذكرنا . وبالله توفيقنا . وروي عن
مجاهد في تفسير هذه الآية أنه إنما مسخت قلوبهم فقط ، وردت أفهامهم كأفهام القردة . ولم يقله غيره من المفسرين فيما أعلم ، والله أعلم .