الرابعة : أنكرت طوائف من المنتمين للإسلام المتأخرين جوازه ، وهم محجوجون بإجماع السلف السابق على
وقوعه في الشريعة . وأنكرته أيضا طوائف من
اليهود ، وهم محجوجون بما جاء في توراتهم بزعمهم أن الله تعالى قال
لنوح عليه السلام عند خروجه من السفينة : إني قد جعلت كل دابة مأكلا لك ولذريتك ، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ، ما
[ ص: 62 ] خلا الدم فلا تأكلوه . ثم حرم على
موسى وعلى
بني إسرائيل كثيرا من الحيوان ، وبما كان
آدم عليه السلام يزوج الأخ من الأخت ، وقد حرم الله ذلك على
موسى عليه السلام وعلى غيره ، وبأن
إبراهيم الخليل أمر بذبح ابنه ثم قال له : لا تذبحه ، وبأن
موسى أمر
بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل ، ثم أمرهم برفع السيف عنهم ، وبأن نبوته غير متعبد بها قبل بعثه ، ثم تعبد بها بعد ذلك ، إلى غير ذلك . وليس هذا من باب البداء بل هو نقل العباد من عبادة إلى عبادة ، وحكم إلى حكم ، لضرب من المصلحة ، إظهارا لحكمته وكمال مملكته . ولا خلاف بين العقلاء أن شرائع الأنبياء قصد بها مصالح الخلق الدينية والدنيوية ، وإنما كان يلزم البداء لو لم يكن عالما بمآل الأمور ، وأما العالم بذلك فإنما تتبدل خطاباته بحسب تبدل المصالح ، كالطبيب المراعي أحوال العليل ، فراعى ذلك في خليقته بمشيئته وإرادته ، لا إله إلا هو ، فخطابه يتبدل ، وعلمه وإرادته لا تتغير ، فإن ذلك محال في جهة الله تعالى .
وجعلت
اليهود النسخ والبداء شيئا واحدا ، ولذلك لم يجوزوه فضلوا . قال
النحاس :
والفرق بين النسخ والبداء أن النسخ تحويل العبادة من شيء إلى شيء قد كان حلالا فيحرم ، أو كان حراما فيحلل . وأما البداء فهو ترك ما عزم عليه ، كقولك : امض إلى فلان اليوم ، ثم تقول لا تمض إليه ، فيبدو لك العدول عن القول الأول ، وهذا يلحق البشر لنقصانهم . وكذلك إن قلت : ازرع كذا في هذه السنة ، ثم قلت : لا تفعل ، فهو البداء .