قوله تعالى :
وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين
فيه ثلاثة وعشرون مسألة الأولى : لما جرى ذكر
الكعبة والقبلة اتصل ذلك بذكر
إبراهيم عليه السلام ، وأنه الذي بنى البيت ، فكان من حق اليهود - وهم من نسل
إبراهيم - ألا يرغبوا عن دينه . والابتلاء : الامتحان والاختبار ، ومعناه أمر وتعبد . وإبراهيم تفسيره بالسريانية فيما ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=15151الماوردي ، وبالعربية فيما ذكر
ابن عطية : أب رحيم . قال
السهيلي : وكثيرا ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي أو يقاربه في اللفظ ، ألا ترى أن إبراهيم تفسيره أب راحم ، لرحمته بالأطفال ، ولذلك جعل هو
وسارة زوجته كافلين لأطفال المؤمنين يموتون صغارا إلى يوم القيامة .
قلت : ومما يدل على هذا ما خرجه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري من حديث الرؤيا الطويل عن
سمرة ، وفيه :
[ ص: 93 ] nindex.php?page=hadith&LINKID=837165أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في الروضة إبراهيم عليه السلام وحوله أولاد الناس . وقد أتينا عليه في كتاب التذكرة ، والحمد لله .
وإبراهيم هو ابن تارخ بن ناخور في قول بعض المؤرخين . وفي التنزيل :
وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر وكذلك في صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ، ولا تناقض في ذلك ، على ما يأتي في " الأنعام " بيانه إن شاء الله تعالى . وكان له أربع بنين :
إسماعيل وإسحاق ومدين ومدائن على ما ذكره
السهيلي . وقدم على الفاعل للاهتمام ، إذ كون الرب تبارك وتعالى مبتليا معلوم ، وكون الضمير المفعول في العربية متصلا بالفاعل موجب تقديم المفعول ، فإنما بني الكلام على هذا الاهتمام ، فاعلمه . وقراءة العامة
إبراهيم بالنصب ، ربه بالرفع على ما ذكرنا . وروي عن
جابر بن زيد أنه قرأ على العكس ، وزعم أن
ابن عباس أقرأه كذلك . والمعنى دعا
إبراهيم ربه وسأل ، وفيه بعد ، لأجل الباء في قوله : بكلمات .
الثانية : بكلمات الكلمات جمع كلمة ، ويرجع تحقيقها إلى كلام الباري تعالى ، لكنه عبر عنها عن الوظائف التي كلفها
إبراهيم عليه السلام ، ولما كان تكليفها بالكلام سميت به ، كما سمي
عيسى كلمة ; لأنه صدر عن كلمة وهي كن . وتسمية الشيء بمقدمته أحد قسمي المجاز ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي .
الثالثة : واختلف العلماء في المراد بالكلمات على أقوال : أحدها : شرائع الإسلام ، وهي ثلاثون سهما ، عشرة منها في سورة براءة :
التائبون العابدون إلى آخرها ، وعشرة في الأحزاب :
إن المسلمين والمسلمات إلى آخرها ، وعشرة في المؤمنون :
قد أفلح المؤمنون إلى قوله :
على صلواتهم يحافظون وقوله في سأل سائل : إلا المصلين إلى قوله :
والذين هم على صلاتهم يحافظون . قال
ابن عباس رضي الله
[ ص: 94 ] عنهما : ما ابتلى الله أحدا بهن فقام بها كلها إلا
إبراهيم عليه السلام ، ابتلي بالإسلام فأتمه فكتب الله له البراءة فقال :
وإبراهيم الذي وفى . وقال بعضهم : بالأمر والنهي ، وقال بعضهم : بذبح ابنه ، وقال بعضهم : بأداء الرسالة ، والمعنى متقارب . وقال
مجاهد : هي قوله تعالى : إني مبتليك بأمر ، قال : تجعلني للناس إماما ؟ قال نعم . قال : ومن ذريتي ؟ قال :
لا ينال عهدي الظالمين ، قال : تجعل البيت مثابة للناس ؟ قال نعم . قال : وأمنا ؟ قال نعم . قال : وترينا مناسكنا وتتوب علينا ؟ قال نعم . قال : وترزق أهله من الثمرات ؟ قال نعم . وعلى هذا القول فالله تعالى هو الذي أتم . وأصح من هذا ما ذكره
عبد الرزاق عن
معمر عن
طاوس عن
ابن عباس في قوله :
وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال : ابتلاه الله بالطهارة ، خمس في الرأس وخمس في الجسد : قص الشارب ، والمضمضة ، والاستنشاق ، والسواك ، وفرق الشعر . وفي الجسد : تقليم الأظفار ، وحلق العانة ، والاختتان ، ونتف الإبط ، وغسل مكان الغائط والبول بالماء ، وعلى هذا القول فالذي أتم هو
إبراهيم ، وهو ظاهر القرآن . وروى
مطرف عن
أبي الجلد أنها عشر أيضا ، إلا أنه جعل موضع الفرق غسل البراجم ، وموضع الاستنجاء الاستحداد . وقال
قتادة : هي مناسك الحج خاصة .
الحسن : هي الخلال الست : الكوكب ، والقمر ، والشمس ، والنار ، والهجرة ، والختان . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14416أبو إسحاق الزجاج : وهذه الأقوال ليست بمتناقضة ; لأن هذا كله مما ابتلي به
إبراهيم عليه السلام .
قلت : وفي الموطأ وغيره عن
يحيى بن سعيد أنه سمع
nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب يقول :
إبراهيم عليه السلام أول من اختتن ، وأول من أضاف الضيف ، وأول من استحد ، وأول من قلم الأظفار ، وأول من قص الشارب ، وأول من شاب ، فلما رأى الشيب قال : ما هذا ؟ قال : وقار ، قال : يا رب زدني وقارا . وذكر
أبو بكر بن أبي شيبة عن
سعيد بن إبراهيم عن أبيه
[ ص: 95 ] قال : أول من خطب على المنابر
إبراهيم خليل الله . قال غيره : وأول من ثرد الثريد ، وأول من ضرب بالسيف ، وأول من استاك ، وأول من استنجى بالماء ، وأول من لبس السراويل . وروى
معاذ بن جبل قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=837166إن أتخذ المنبر فقد اتخذه أبي إبراهيم وإن أتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم .
قلت : وهذه أحكام يجب بيانها والوقف عليها والكلام فيها ، فأول ذلك " الختان " وما جاء فيه ، وهي المسألة :
الرابعة : أجمع العلماء على أن
إبراهيم عليه السلام أول من اختتن . واختلف في السن لي اختتن فيها ، ففي الموطأ عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة موقوفا :
nindex.php?page=hadith&LINKID=837167وهو ابن مائة وعشرين سنة وعاش بعد ذلك ثمانين سنة . ومثل هذا لا يكون رأيا ، وقد رواه
الأوزاعي مرفوعا عن
يحيى بن سعيد عن
سعيد ابن المسيب عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=837168اختتن إبراهيم عليه السلام وهو ابن مائة وعشرين سنة ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة . ذكره
أبو عمر . وروي مسندا مرفوعا من غير رواية
يحيى من وجوه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=837169أنه اختتن حين بلغ ثمانين سنة واختتن بالقدوم . كذا في صحيح
مسلم وغيره " ابن ثمانين سنة " ، وهو المحفوظ في حديث
ابن عجلان وحديث
nindex.php?page=showalam&ids=13724الأعرج عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال
عكرمة :
nindex.php?page=hadith&LINKID=837170اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة . قال : ولم يطف بالبيت بعد على ملة
إبراهيم إلا مختون ، هكذا قال
عكرمة وقال
المسيب بن رافع ، ذكره
المروزي . و " القدوم " يروى مشددا ومخففا . قال
أبو الزناد :
القدوم ( مشددا ) : موضع .
الخامسة : واختلف العلماء في
الختان ، فجمهورهم على أن ذلك من مؤكدات السنن ومن فطرة الإسلام التي لا يسع تركها في الرجال . وقالت طائفة : ذلك فرض ، لقوله تعالى :
أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا . قال
قتادة : هو الاختتان ، وإليه مال بعض المالكيين ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي . واستدل
ابن سريج على وجوبه بالإجماع على تحريم النظر إلى العورة ،
[ ص: 96 ] وقال : لولا أن الختان فرض لما أبيح النظر إليها من المختون . وأجيب عن هذا بأن مثل هذا يباح لمصلحة الجسم كنظر الطبيب ، والطب ليس بواجب إجماعا ، على ما يأتي في " النحل " بيانه إن شاء الله تعالى . وقد احتج بعض أصحابنا بما رواه
الحجاج بن أرطأة عن
أبي المليح عن أبيه عن
شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=837171الختان سنة للرجال مكرمة للنساء .
والحجاج ليس ممن يحتج به .
قلت : أعلى ما يحتج به في هذا الباب حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=837172الفطرة خمس الاختتان . . . ) الحديث ، وسيأتي . وروى
أبو داود عن
أم عطية nindex.php?page=hadith&LINKID=837173أن امرأة كانت تختن النساء بالمدينة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : لا تنهكي فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب للبعل . قال
أبو داود : وهذا الحديث ضعيف راويه مجهول . وفي رواية ذكرها
رزين :
nindex.php?page=hadith&LINKID=837174ولا تنهكي فإنه أنور للوجه وأحظى عند الرجل .
السادسة : فإن ولد الصبي مختونا فقد كفي مؤنة الختان . قال
الميموني قال لي
أحمد : إن ها هنا رجلا ولد له ولد مختون ، فاغتم لذلك غما شديدا ، فقلت له : إذا كان الله قد كفاك المؤنة فما غمك بهذا .
[ ص: 97 ] السابعة : قال
nindex.php?page=showalam&ids=11890أبو الفرج الجوزي حدثت عن
كعب الأحبار قال : خلق من الأنبياء ثلاثة عشر مختونين :
آدم وشيث وإدريس ونوح وسام ولوط ويوسف وموسى وشعيب وسليمان ويحيى وعيسى والنبي صلى الله عليه وسلم . وقال
محمد بن حبيب الهاشمي : هم أربعة عشر :
آدم وشيث ونوح وهود وصالح
ولوط وشعيب ويوسف وموسى وسليمان وزكريا وعيسى وحنظلة بن صفوان ( نبي أصحاب الرس )
ومحمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين .
قلت : اختلفت الروايات في النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر
nindex.php?page=showalam&ids=12181أبو نعيم الحافظ في " كتاب الحلية " بإسناده
nindex.php?page=hadith&LINKID=837175أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد مختونا . وأسند
أبو عمر في التمهيد حدثنا
أحمد بن محمد بن أحمد حدثنا
محمد بن عيسى حدثنا
يحيى بن أيوب بن بادي العلاف حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16887محمد بن أبي السري العسقلاني حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15500الوليد بن مسلم عن
شعيب عن
nindex.php?page=showalam&ids=16566عطاء الخراساني عن
عكرمة عن
ابن عباس :
أن عبد المطلب ختن النبي صلى الله عليه وسلم يوم سابعه ، وجعل له مأدبة وسماه " محمدا " . قال
أبو عمر : هذا حديث مسند غريب . قال
يحيى بن أيوب : طلبت هذا الحديث فلم أجده عند أحد من أهل الحديث ممن لقيته إلا عند
ابن أبي السري . قال
أبو عمر : وقد قيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم ولد مختونا .
الثامنة : واختلفوا
متى يختن الصبي ، فثبت في الأخبار عن جماعة من العلماء أنهم قالوا : ختن
إبراهيم إسماعيل لثلاث عشرة سنة . وختن ابنه
إسحاق لسبعة أيام . وروي عن
فاطمة أنها كانت تختن ولدها يوم السابع ، وأنكر ذلك
مالك وقال ذلك من عمل
اليهود . ذكره عنه
ابن وهب . وقال
الليث بن سعد : يختن الصبي ما بين سبع سنين إلى عشر . ونحوه روى
ابن وهب عن
مالك . وقال
أحمد : لم أسمع في ذلك شيئا . وفي
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
سعيد بن جبير قال : سئل
ابن عباس : مثل من أنت حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أنا يومئذ مختون . قال : وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك أو يقارب الاحتلام .
[ ص: 98 ] واستحب العلماء في
الرجل الكبير يسلم أن يختن ، وكان
عطاء يقول : لا يتم إسلامه حتى يختتن وإن بلغ ثمانين سنة . وروي عن
الحسن أنه كان يرخص للشيخ الذي يسلم ألا يختتن ، ولا يرى به بأسا ولا بشهادته وذبيحته وحجه وصلاته ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر : وعامة أهل العلم على هذا . وحديث
بريدة في حج الأغلف لا يثبت . وروي عن
ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=11867وجابر بن زيد وعكرمة : أن الأغلف لا تؤكل ذبيحته ولا تجوز شهادته .
التاسعة : [ وأول من استحد ] فالاستحداد
استعمال الحديد في حلق العانة . وروت
أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اطلى ولي عانته بيده . وروى
ابن عباس أن رجلا طلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغ إلى عانته قال له : اخرج عني ، ثم طلى عانته بيده . وروى
أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتنور ، وكان إذا كثر الشعر على عانته حلقه . قال
ابن خويز منداد : وهذا يدل على أن الأكثر من فعله كان الحلق وإنما تنور نادرا ، ليصح الجمع بين الحديثين .
العاشرة : في
تقليم الأظفار . وتقليم الأظفار : قصها ، والقلامة ما يزال منها . وقال
مالك : أحب للنساء من قص الأظفار وحلق العانة مثل ما هو على الرجال . ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=14061الحارث بن مسكين nindex.php?page=showalam&ids=15968وسحنون عن
ابن القاسم . وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=14155الترمذي الحكيم في " نوادر الأصول " له ( الأصل التاسع والعشرون ) : حدثنا
عمر بن أبي عمر قال : حدثنا
إبراهيم بن العلاء الزبيدي عن
عمر بن بلال الفزاري قال : سمعت
عبد الله بن بشر المازني يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
قصوا أظافيركم وادفنوا قلاماتكم ونقوا براجمكم ونظفوا لثاتكم من الطعام وتسننوا ولا تدخلوا علي قخرا بخرا ثم تكلم عليه فأحسن . قال
الترمذي : فأما قص الأظفار فمن أجل أنه يخدش ويخمش ويضر ، وهو مجتمع الوسخ ، فربما أجنب ولا يصل الماء إلى البشرة من أجل الوسخ فلا يزال جنبا . ومن أجنب فبقي موضع إبرة من جسده بعد الغسل غير مغسول فهو جنب على حاله حتى يعم الغسل جسده كله ، فلذلك ندبهم إلى قص الأظفار . والأظافير جمع الأظفور ، والأظفار جمع الظفر . وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث سها في صلاته فقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=837179وما لي لا أوهم ورفغ أحدكم بين ظفره وأنملته ويسألني أحدكم عن خبر السماء وفي أظافيره الجنابة والتفث . وذكر هذا الخبر
أبو الحسن علي بن محمد الطبري المعروف بإلكيا في " أحكام القرآن " له ، عن
سليمان بن فرج أبي واصل قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=837180أتيت أبا أيوب رضي الله عنه فصافحته ، فرأى [ ص: 99 ] في أظفاري طولا فقال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن خبر السماء فقال : يجيء أحدكم يسأل عن خبر السماء وأظفاره كأظفار الطير حتى يجتمع فيها الوسخ والتفث .
وأما قوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3500022ادفنوا قلاماتكم فإن جسد المؤمن ذو حرمة ، فما سقط منه وزال عنه فحفظه من الحرمة قائم ، فيحق عليه أن يدفنه ، كما أنه لو مات دفن ، فإذا مات بعضه فكذلك أيضا تقام حرمته بدفنه ، كي لا يتفرق ولا يقع في النار أو في مزابل قذرة . وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدفن دمه حيث احتجم كي لا تبحث عنه الكلاب . حدثنا بذلك أبي رحمه الله تعالى قال : حدثنا
موسى بن إسماعيل قال : حدثنا
الهنيد بن القاسم بن عبد الرحمن بن ماعز قال : سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=16281عامر بن عبد الله بن الزبير يقول إن أباه حدثه
nindex.php?page=hadith&LINKID=837181أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحتجم ، فلما فرغ قال : يا عبد الله اذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يراك أحد . فلما برز عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمد إلى الدم فشربه ، فلما رجع قال : يا عبد الله ما صنعت به ؟ . قال : جعلته في أخفى مكان ظننت أنه خافيا عن الناس . قال : لعلك شربته ؟ قال نعم . قال : لم شربت الدم ، وويل للناس منك وويل لك من الناس . حدثني أبي قال : حدثنا
مالك بن سليمان الهروي قال : حدثنا
داود بن عبد الرحمن عن
nindex.php?page=showalam&ids=17245هشام بن عروة عن أبيه عن
عائشة قالت :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بدفن سبعة أشياء من الإنسان : الشعر ، والظفر ، والدم ، والحيضة ، والسن ، والقلفة ، والبشيمة .
وأما قوله :
نقوا براجمكم فالبراجم تلك الغضون من المفاصل ، وهي مجتمع الدرن ( واحدها برجمة ) وهو ظهر عقدة كل مفصل ، فظهر العقدة يسمى برجمة ، وما بين العقدتين تسمى راجبة ، وجمعها رواجب ، وذلك مما يلي ظهرها ، وهي قصبة الأصبع ، فلكل أصبع برجمتان وثلاث رواجب إلا الإبهام فإن لها برجمة وراجبتين ، فأمر بتنقيته لئلا يدرن فتبقى فيه الجنابة ، ويحول الدرن بين الماء والبشرة .
وأما قوله :
نظفوا لثاتكم فاللثة واحدة ، واللثات جماعة ، وهي اللحمة فوق الأسنان ودون الأسنان ، وهي منابتها . والعمور : اللحمة القليلة بين السنين ، واحدها عمر . فأمر بتنظيفها لئلا يبقى فيها ويضر الطعام فتتغير عليه النكهة وتتنكر الرائحة ، ويتأذى الملكان ; لأنه طريق القرآن ، ومقعد الملكين عند نابيه . وروي في الخبر في قوله تعالى : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد
[ ص: 100 ] قال : عند نابيه . حدثنا بذلك
محمد بن علي الشقيقي قال : سمعت أبي يذكر ذلك عن
سفيان بن عيينة وجاد ما قال ، وذلك أن اللفظ هو عمل الشفتين يلفظ الكلام عن لسانه إلى البراز . وقوله : لديه أي عنده ، والدى والعند في لغتهم السائرة بمعنى واحد ، وكذلك قولهم " لدن " فالنون زائدة . فكأن الآية تنبئ أن الرقيب عتيد عند مغلظ الكلام وهو الناب .
وأما قوله : تسننوا وهو
السواك مأخوذ من السن ، أي نظفوا السن .
وقوله :
لا تدخلوا علي قخرا بخرا فالمحفوظ عندي ( قحلا وقلحا ) . وسمعت
الجارود يذكر عن
النضر قال : الأقلح الذي قد اصفرت أسنانه حتى بخرت من باطنها ، ولا أعرف القخر . والبخر : الذي تجد له رائحة منكرة لبشرته ، يقال : رجل أبخر ، ورجال بخر . حدثنا الجارود قال : حدثنا جرير عن منصور عن أبي علي عن أبي جعفر بن تمام بن العباس عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=837182استاكوا ، ما لكم تدخلون علي قلحا .
الحادية عشرة : في
قص الشارب . وهو الأخذ منه حتى يبدو طرف الشفة وهو الإطار ، ولا يجزه فيمثل نفسه ، قاله
مالك . وذكر
ابن عبد الحكم عنه قال : وأرى أن يؤدب من حلق شاربه . وذكر
أشهب عنه أنه قال في حلق الشارب : هذه بدع ، وأرى أن يوجع ضربا من فعله . وقال
ابن خويز منداد قال
مالك : أرى أن يوجع من حلقه ضربا . كأنه يراه ممثلا بنفسه ، وكذلك بنتفه الشعر ، وتقصيره عنده أولى من حلقه . وكذلك
nindex.php?page=hadith&LINKID=837183روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ذا لمة ، وكان أصحابه من بين وافر الشعر أو مقصر ، وإنما حلق وحلقوا في النسك . وروي
nindex.php?page=hadith&LINKID=837184أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقص أظافره وشاربه قبل أن يخرج إلى الجمعة . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14695الطحاوي : لم نجد عن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في هذا شيئا منصوصا ، وأصحابه الذين رأيناهم :
المزني والربيع كانا
[ ص: 101 ] يحفيان شواربهما ، ويدل ذلك أنهما أخذا ذلك عن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رحمه الله تعالى . قال : وأما
أبو حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=15922وزفر وأبو يوسف ومحمد فكان مذهبهم في شعر الرأس والشارب أن الإحفاء أفضل من التقصير . وذكر
ابن خويز منداد عن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي أن مذهبه في حلق الشارب كمذهب
أبي حنيفة سواء . وقال
أبو بكر الأثرم : رأيت
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل يحفي شاربه شديدا ، وسمعته سئل عن السنة في إحفاء الشارب فقال : يحفى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=837185أحفوا الشوارب . قال
أبو عمر : إنما في هذا الباب أصلان : أحدهما : أحفوا ، وهو لفظ محتمل التأويل . والثاني : قص الشارب ، وهو مفسر ، والمفسر يقضي على المجمل ، وهو عمل
أهل المدينة ، وهو أولى ما قيل به في هذا الباب . روى
الترمذي عن
ابن عباس قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=837186كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من شاربه ويقول : إن إبراهيم خليل الرحمن كان يفعله . قال : هذا حديث حسن غريب . وخرج
مسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=837172الفطرة خمس الاختتان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط . وفيه عن
ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=837187خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى . والأعاجم يقصون لحاهم ، ويوفرون شواربهم أو يوفرونهما معا ، وذلك عكس الجمال والنظافة . ذكر
رزين عن
نافع أن
ابن عمر كان يحفي شاربه حتى ينظر إلى الجلد ، ويأخذ هذين ، يعني ما بين الشارب واللحية . وفي
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري : وكان
ابن عمر يأخذ من طول لحيته ما زاد على القبضة إذا حج أو اعتمر . وروى
الترمذي عن
nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو بن العاص nindex.php?page=hadith&LINKID=837188أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها . قال : هذا حديث غريب .
الثانية عشرة : وأما الإبط فسنته النتف ، كما أن سنة العانة الحلق ، فلو عكس جاز لحصول النظافة ، والأول أولى ; لأنه المتيسر المعتاد .
[ ص: 102 ] الثالثة عشرة : وفرق الشعر : تفريقه في المفرق ، وفي صفته صلى الله عليه وسلم : إن انفرقت عقيصته فرق ، يقال : فرقت الشعر أفرقه فرقا ، يقال : إن انفرق شعر رأسه فرقه في مفرقه ، فإن لم ينفرق تركه وفرة واحدة . خرج
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي عن
ابن عباس nindex.php?page=hadith&LINKID=837189أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسدل شعره ، وكان المشركون يفرقون شعورهم ، وكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء ، ثم فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ، أخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ومسلم عن
أنس . قال
القاضي عياض : سدل الشعر إرساله ، والمراد به ها هنا عند العلماء إرساله على الجبين ، واتخاذه كالقصة ،
والفرق في الشعر سنة ; لأنه الذي رجع إليه النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد روي أن
عمر بن عبد العزيز كان إذا انصرف من الجمعة أقام على باب المسجد حرسا يجزون ناصية كل من لم يفرق شعره . وقد قيل : إن الفرق كان من سنة
إبراهيم عليه السلام ، فالله أعلم .
الرابعة عشرة : وأما
الشيب فنور ويكره نتفه ، ففي
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي وأبي داود من حديث
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=837190لا تنتفوا الشيب ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كانت له نورا يوم القيامة وكتب الله له حسنة وحط عنه خطيئة .
قلت : وكما يكره نتفه كذلك يكره تغييره بالسواد ، فأما تغييره بغير السواد فجائز ، لقوله صلى الله عليه وسلم في حق
أبي قحافة - وقد جيء به ولحيته كالثغامة بياضا - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=837191غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد . ولقد أحسن من قال :
يسود أعلاها ويبيض أصلها ولا خير في الأعلى إذا فسد الأصل
وقال الآخر :
يا خاضب الشيب بالحناء تستره سل المليك له سترا من النار
[ ص: 103 ] الخامسة عشرة :
وأما الثريد فهو أزكى الطعام وأكثره بركة ، وهو طعام العرب ، وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالفضل على سائر الطعام فقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=837192فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام . وفي صحيح
البستي عن
أسماء بنت أبي بكر أنها كانت إذا ثردت غطته شيئا حتى يذهب فوره وتقول : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=837193إنه أعظم للبركة .
السادسة عشرة : قلت : وهذا كله في معنى ما ذكره
عبد الرزاق عن
ابن عباس ، وما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب وغيره . ويأتي ذكر المضمضة والاستنشاق والسواك في سورة " النساء " وحكم الاستنجاء في " براءة " وحكم الضيافة في " هود " إن شاء الله تعالى . وخرج
مسلم عن
أنس قال : وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة ألا نترك أكثر من أربعين ليلة ، قال علماؤنا : هذا تحديد في أكثر المدة ، والمستحب تفقد ذلك من الجمعة إلى الجمعة ، وهذا الحديث يرويه
جعفر بن سليمان . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14798العقيلي : في حديثه نظر . وقال
أبو عمر فيه : ليس بحجة ، لسوء حفظه وكثرة غلطه . وهذا الحديث ليس بالقوي من جهة النقل ; ولكنه قد قال به قوم ، وأكثرهم على ألا توقيت في ذلك ، وبالله التوفيق .
السابعة عشرة : قوله تعالى :
قال إني جاعلك للناس إماما
الإمام : القدوة ، ومنه قيل لخيط البناء : إمام ، وللطريق : إمام ; لأنه يؤم فيه للمسالك ، أي يقصد . فالمعنى : جعلناك للناس إماما يأتمون بك في هذه الخصال ، ويقتدي بك الصالحون . فجعله الله تعالى إماما لأهل طاعته ، فلذلك اجتمعت الأمم على الدعوى فيه - والله أعلم - أنه كان حنيفا .
الثامنة عشرة :
قال ومن ذريتي دعاء على جهة الرغباء إلى الله تعالى ، أي من ذريتي يا رب فاجعل . وقيل : هذا منه على جهة الاستفهام عنهم ، أي ومن ذريتي يا رب ماذا يكون ؟ فأخبره الله تعالى أن فيهم عاصيا وظالما لا يستحق الإمامة . قال
ابن عباس : سأل
[ ص: 104 ] إبراهيم عليه السلام أن يجعل من ذريته إمام ، فأعلمه الله أن في ذريته من يعصي فقال : لا ينال عهدي الظالمين .
التاسعة عشرة : قوله تعالى :
ومن ذريتي أصل ذرية ، فعلية من الذر ; لأن الله تعالى أخرج الخلق من صلب
آدم عليه السلام كالذر حين أشهدهم على أنفسهم . وقيل : هو مأخوذ من ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا خلقهم ، ومنه الذرية وهي نسل الثقلين ، إلا أن العرب تركت همزها ، والجمع الذراري . وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=47زيد بن ثابت " ذرية " بكسر الذال و " ذرية " بفتحها . قال
nindex.php?page=showalam&ids=13042ابن جني أبو الفتح عثمان : يحتمل أصل هذا الحرف أربعة ألفاظ : أحدها : ذرأ ، والثاني : ذرر ، والثالث : ذرو ، والرابع : ذري ، فأما الهمزة فمن ذرأ الله الخلق ، وأما ذرر فمن لفظ الذر ومعناه ، وذلك لما ورد في الخبر ( أن الخلق كان كالذر ) وأما الواو والياء ، فمن ذروت الحب وذريته يقالان جميعا ، وذلك قوله تعالى :
فأصبح هشيما تذروه الرياح وهذا للطفه وخفته ، وتلك حال الذر أيضا . قال
الجوهري : ذرت الريح التراب وغيره تذروه وتذريه ذروا وذريا أي نسفته ، ومنه قولهم : ذرى الناس الحنطة ، وأذريت الشيء إذا ألقيته ، كإلقائك الحب للزرع . وطعنه فأذراه عن ظهر دابته ، أي ألقاه . وقال
الخليل : إنما سموا ذرية ; لأن الله تعالى ذرأها على الأرض كما ذرأ الزارع البذر . وقيل : أصل ذرية ، ذرورة ، لكن لما كثر التضعيف أبدل من إحدى الراءات ياء ، فصارت ذروية ، ثم أدغمت الواو في الياء فصارت ذرية . والمراد بالذرية هنا الأبناء خاصة ، وقد تطلق على الآباء والأبناء ، ومنه قوله تعالى :
وآية لهم أنا حملنا ذريتهم يعني آباءهم .
الموفية عشرين : قوله تعالى :
قال لا ينال عهدي الظالمين اختلف في المراد بالعهد ، فروى
أبو صالح عن
ابن عباس أنه النبوة ، وقاله
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي .
مجاهد : الإمامة .
قتادة : الإيمان .
عطاء : الرحمة .
الضحاك : دين الله تعالى . وقيل : عهده أمره . ويطلق العهد على الأمر ، قال الله تعالى :
إن الله عهد إلينا أي أمرنا . وقال :
ألم أعهد إليكم يابني آدم يعني ألم أقدم إليكم الأمر به ، وإذا كان عهد الله هو أوامره فقوله :
لا ينال عهدي الظالمين أي لا يجوز أن يكونوا بمحل من يقبل منهم أوامر الله ولا يقيمون عليها ، على ما يأتي بيانه بعد هذا آنفا إن شاء الله تعالى . وروى
معمر عن
قتادة في قوله تعالى :
لا ينال عهدي الظالمين قال : لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمين ، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فآمن به ، وأكل وعاش
[ ص: 105 ] وأبصر . قال
الزجاج : وهذا قول حسن ، أي لا ينال أماني الظالمين ، أي لا أؤمنهم من عذابي . وقال
سعيد بن جبير : الظالم هنا المشرك . وقرأ
ابن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=16258وطلحة بن مصرف لا ينال عهدي الظالمون برفع الظالمون . الباقون بالنصب . وأسكن
حمزة وحفص وابن محيصن الياء في عهدي ، وفتحها الباقون .
الحادية والعشرون : استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على أن
الإمام يكون من أهل العدل والإحسان والفضل مع القوة على القيام بذلك ، وهو الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا ينازعوا الأمر أهله ، على ما تقدم من القول فيه . فأما أهل الفسوق والجور والظلم فليسوا له بأهل ، لقوله تعالى :
لا ينال عهدي الظالمين ولهذا خرج
ابن الزبير nindex.php?page=showalam&ids=17والحسين بن علي رضي الله عنهم . وخرج خيار
أهل العراق وعلماؤهم على
الحجاج ، وأخرج
أهل المدينة بني أمية وقاموا عليهم ، فكانت الحرة التي أوقعها بهم
مسلم بن عقبة .
والذي عليه الأكثر من العلماء أن الصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه ; لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف ، وإراقة الدماء ، وانطلاق أيدي السفهاء ، وشن الغارات على المسلمين ، والفساد في الأرض . والأول مذهب طائفة من
المعتزلة ، وهو مذهب
الخوارج ، فاعلمه .
الثانية والعشرون : قال
ابن خويز منداد : وكل من كان ظالما لم يكن نبيا ولا خليفة ولا حاكما ولا مفتيا ، ولا إمام صلاة ، ولا يقبل عنه ما يرويه عن صاحب الشريعة ، ولا تقبل شهادته في الأحكام ، غير أنه
لا يعزل بفسقه حتى يعزله أهل الحل والعقد . وما تقدم من أحكامه موافقا للصواب ماض غير منقوض . وقد نص
مالك على هذا في
الخوارج والبغاة أن أحكامهم لا تنقض إذا أصابوا بها وجها من الاجتهاد ، ولم يخرقوا الإجماع ، أو يخالفوا النصوص . وإنما قلنا ذلك لإجماع الصحابة ، وذلك أن
الخوارج قد خرجوا في أيامهم ولم ينقل أن الأئمة تتبعوا أحكامهم ، ولا نقضوا شيئا منها ، ولا أعادوا أخذ الزكاة ولا إقامة الحدود التي أخذوا وأقاموا ، فدل على أنهم إذا أصابوا وجه الاجتهاد لم يتعرض لأحكامهم .
الثالثة والعشرون : قال
ابن خويز منداد : وأما أخذ الأرزاق من الأئمة الظلمة فلذلك ثلاثة أحوال : إن كان جميع ما في أيديهم مأخوذا على موجب الشريعة فجائز أخذه ، وقد أخذت الصحابة والتابعون من يد
الحجاج وغيره . وإن كان مختلطا حلالا وظلما كما في أيدي الأمراء اليوم فالورع تركه ، ويجوز للمحتاج أخذه ، وهو كلص في يده مال مسروق ، ومال جيد حلال وقد وكله فيه رجل فجاء اللص يتصدق به على إنسان فيجوز أن تؤخذ منه الصدقة ، وإن كان قد
[ ص: 106 ] يجوز أن يكون اللص يتصدق ببعض ما سرق ، إذا لم يكن شيء معروف بنهب ، وكذلك لو باع أو اشترى كان العقد صحيحا لازما - وإن كان الورع التنزه عنه - وذلك أن الأموال لا تحرم بأعيانها وإنما تحرم لجهاتها . وإن كان ما في أيديهم ظلما صراحا فلا يجوز أن يؤخذ من أيديهم . ولو كان ما في أيديهم من المال مغصوبا غير أنه لا يعرف له صاحب ولا مطالب ، فهو كما لو وجد في أيدي اللصوص وقطاع الطريق ، ويجعل في بيت المال وينتظر طالبه بقدر الاجتهاد ، فإذا لم يعرف صرفه الإمام في مصالح المسلمين .