قوله تعالى :
ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم
قوله تعالى :
ربنا واجعلنا مسلمين لك أي صيرنا ، ومسلمين مفعول ثان ، سألا التثبيت والدوام . والإسلام في هذا الموضع : الإيمان والأعمال جميعا ، ومنه قوله تعالى :
إن الدين عند الله الإسلام ففي هذا دليل لمن قال : إن الإيمان والإسلام شيء واحد ، وعضدوا هذا بقوله تعالى في الآية الأخرى :
فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين . وقرأ
ابن عباس وعوف
الأعرابي " مسلمين " على الجمع .
قوله تعالى :
ومن ذريتنا أمة مسلمة لك أي ومن ذريتنا فاجعل ، فيقال : إنه لم يدع
[ ص: 121 ] نبي إلا لنفسه ولأمته إلا
إبراهيم فإنه دعا مع دعائه لنفسه ولأمته ولهذه الأمة . ومن في قوله : ومن ذريتنا للتبعيض ; لأن الله تعالى قد كان أعلمه أن منهم ظالمين . وحكى
الطبري : أنه أراد بقوله ومن ذريتنا العرب خاصة . قال
السهيلي : وذريتهما العرب ; لأنهم بنو نبت بن
إسماعيل ، أو
بنو تيمن بن إسماعيل ، ويقال :
قيدر بن نبت بن إسماعيل . أما العدنانية فمن نبت ، وأما
القحطانية فمن
قيدر بن نبت بن إسماعيل ، أو تيمن على أحد القولين . قال
ابن عطية : وهذا ضعيف ; لأن دعوته ظهرت في العرب وفيمن آمن من غيرهم . والأمة : الجماعة هنا ، وتكون واحدا إذا كان يقتدى به في الخير ، ومنه قوله تعالى : إن إبراهيم كان أمة قانتا لله ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=3500030وقال صلى الله عليه وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل : ( يبعث أمة وحده ) لأنه لم يشرك في دينه غيره ، والله أعلم . وقد يطلق لفظ الأمة على غير هذا المعنى ، ومنه قوله تعالى :
إنا وجدنا آباءنا على أمة أي على دين وملة ، ومنه قوله تعالى :
إن هذه أمتكم أمة واحدة . وقد تكون بمعنى الحين والزمان ، ومنه قوله تعالى وادكر بعد أمة أي بعد حين وزمان . ويقال : هذه أمة زيد ، أي أم زيد . والأمة أيضا : القامة ، يقال : فلان حسن الأمة ، أي حسن القامة ، قال [ هو
الأعشى ] :
وإن معاوية الأكرمين حسان الوجوه طوال الأمم
وقيل : الأمة الشجة التي تبلغ أم الدماغ ، يقال : رجل مأموم وأميم .
قوله تعالى : وأرنا مناسكنا أرنا من رؤية البصر ، فتتعدى إلى مفعولين ، وقيل : من رؤية القلب ، ويلزم قائله أن يتعدى الفعل منه إلى ثلاثة مفاعيل . قال
ابن عطية : وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب إلى مفعولين [ كغير المعدى ] قال
حطائط بن يعفر أخو الأسود بن يعفر :
أريني جوادا مات هزلا لأنني أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا
وقرأ
عمر بن عبد العزيز وقتادة وابن كثير وابن محيصن nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي وروح عن
يعقوب ورويس والسوسي " أرنا " بسكون الراء في القرآن ، واختاره
أبو حاتم . وقرأ
أبو عمرو باختلاس كسرة الراء ، والباقون بكسرها ، واختاره
أبو عبيد . وأصله أرئنا بالهمز ، فمن قرأ بالسكون قال : ذهبت الهمزة وذهبت حركتها وبقيت الراء ساكنة على حالها ، واستدل بقول الشاعر :
[ ص: 122 ] أرنا إداوة عبد الله نملؤها من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا
ومن كسر فإنه نقل حركة الهمزة المحذوفة إلى الراء
وأبو عمرو طلب الخفة . وعن
شجاع بن أبي نصر وكان أمينا صادقا أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فذاكره أشياء من حروف
أبي عمرو فلم يرد عليه إلا حرفين : هذا ، والآخر " ما ننسخ من آية أو ننسأها " مهموزا .
قوله تعالى : مناسكنا يقال : إن أصل النسك في اللغة الغسل ، يقال منه : نسك ثوبه إذا غسله . وهو في الشرع اسم للعبادة ، يقال : رجل ناسك إذا كان عابدا .
واختلف العلماء في المراد بالمناسك هنا ، فقيل : مناسك الحج ومعالمه ، قاله
قتادة nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي . وقال
مجاهد nindex.php?page=showalam&ids=16568وعطاء nindex.php?page=showalam&ids=13036وابن جريج : المناسك المذابح ، أي مواضع الذبح . وقيل : جميع المتعبدات . وكل ما يتعبد به إلى الله تعالى يقال له منسك ومنسك . والناسك : العابد . قال
النحاس : يقال نسك ينسك ، فكان يجب أن يقال على هذا : منسك ، إلا أنه ليس في كلام العرب مفعل . وعن
زهير بن محمد قال : لما فرغ
إبراهيم عليه السلام من بناء
البيت الحرام قال : أي رب ، قد فرغت فأرنا مناسكنا ، فبعث الله تعالى إليه
جبريل فحج به ، حتى إذا رجع من
عرفة وجاء يوم النحر عرض له إبليس ، فقال له : أحصبه ، فحصبه بسبع حصيات ، ثم الغد ثم اليوم الثالث ، ثم علا ثبيرا فقال : يا عباد الله ، أجيبوا ، فسمع دعوته من بين الأبحر ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، فقال : لبيك ، اللهم لبيك ، قال : ولم يزل على وجه الأرض سبعة مسلمون فصاعدا ، لولا ذلك لأهلكت الأرض ومن عليها . وأول من أجابه أهل اليمن .
وعن
أبي مجلز قال : لما فرغ
إبراهيم من
البيت جاءه
جبريل عليه السلام فأراه الطواف بالبيت - قال : وأحسبه قال : "
والصفا والمروة - ثم انطلقا إلى
العقبة فعرض لهما الشيطان ، فأخذ
جبريل سبع حصيات وأعطى
إبراهيم سبع حصيات ، فرمى وكبر ، وقال
لإبراهيم : ارم وكبر ، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان . ثم انطلقا إلى الجمرة الوسطى ، فعرض لهما الشيطان ، فأخذ
جبريل سبع حصيات وأعطى
إبراهيم سبع حصيات ، وقال : ارم وكبر ، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان . ثم أتيا الجمرة القصوى فعرض لهما الشيطان ، فأخذ
جبريل سبع حصيات وأعطى
إبراهيم سبع حصيات وقال : ارم وكبر ، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان . ثم أتى به جمعا فقال : ها هنا يجمع الناس الصلوات . ثم أتى به
عرفات فقال : عرفت ؟ فقال نعم ، فمن ثم سمي
عرفات . وروي أنه قال له : عرفت ، عرفت ، عرفت ؟ أي منى والجمع وهذا ، فقال نعم ، فسمي ذلك المكان
عرفات . وعن
خصيف بن عبد الرحمن أن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهدا [ ص: 123 ] حدثه قال : لما قال
إبراهيم عليه السلام : وأرنا مناسكنا أي الصفا والمروة ، وهما من شعائر الله بنص القرآن ، ثم خرج به
جبريل ، فلما مر بجمرة العقبة إذا إبليس عليها ، فقال له
جبريل : كبر وارمه ، فارتفع إبليس إلى الوسطى ، فقال
جبريل : كبر وارمه ، ثم في الجمرة القصوى كذلك . ثم انطلق به إلى المشعر الحرام ، ثم أتى به
عرفة فقال له : هل عرفت ما أريتك ؟ قال نعم ، فسميت
عرفات لذلك فيما قيل ، قال : فأذن في الناس بالحج ، قال : كيف أقول ؟ قال قل : يا أيها الناس ، أجيبوا ربكم ، ثلاث مرات ، ففعل ، فقالوا : لبيك ، اللهم لبيك . قال : فمن أجاب يومئذ فهو حاج . وفي رواية أخرى : أنه حين نادى استدار فدعا في كل وجه ، فلبى الناس من كل مشرق ومغرب ، وتطأطأت الجبال حتى بعد صوته . وقال
محمد بن إسحاق : لما فرغ
إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه من بناء
البيت الحرام جاءه
جبريل عليه السلام فقال له : طف به سبعا ، فطاف به سبعا هو
وإسماعيل عليهما السلام ، يستلمان الأركان كلها في كل طواف ، فلما أكملا سبعا صليا خلف المقام ركعتين . قال : فقام
جبريل فأراه المناسك كلها :
الصفا والمروة ومنى والمزدلفة . قال : فلما دخل
منى وهبط من
العقبة تمثل له إبليس . . . . ، فذكر نحو ما تقدم . قال
ابن إسحاق : وبلغني أن
آدم عليه السلام كان يستلم الأركان كلها قبل
إبراهيم عليه السلام . وقال : حج
إسحاق وسارة من
الشام ، وكان
إبراهيم عليه السلام يحجه كل سنة على البراق ، وحجته بعد ذلك الأنبياء والأمم . وروى
محمد بن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=837212كان النبي من الأنبياء إذا هلكت أمته لحق مكة فتعبد بها هو ومن آمن معه حتى يموتوا فمات بها نوح وهود وصالح وقبورهم بين زمزم والحجر .
وذكر
ابن وهب أن
شعيبا مات
بمكة هو ومن معه من المؤمنين ، فقبورهم في غربي
مكة بين دار الندوة وبين
بني سهم . وقال
ابن عباس : في
المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما ، قبر
إسماعيل وقبر
شعيب عليهما السلام ، فقبر
إسماعيل في الحجر ، وقبر
شعيب مقابل الحجر الأسود . وقال
عبد الله بن ضمرة السلولي : ما بين
الركن والمقام إلى
زمزم قبور تسعة وتسعين نبيا جاءوا حجاجا فقبروا هنالك ، صلوات الله عليهم أجمعين .
قوله تعالى :
وتب علينا
اختلف في معنى قول
إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام : وتب علينا وهم أنبياء معصومون ، فقالت طائفة : طلبا التثبيت والدوام ، لا أنهما كان لهما ذنب .
قلت : وهذا حسن ، وأحسن منه أنهما لما عرفا المناسك وبنيا البيت أرادا أن يبينا للناس ويعرفاهم أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة . وقيل :
[ ص: 124 ] المعنى وتب على الظلمة منا . وقد مضى الكلام في عصمة الأنبياء عليهم السلام في قصة
آدم عليه السلام . وتقدم القول في معنى قوله : إنك أنت التواب الرحيم فأغنى عن إعادته .