قوله تعالى : فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم فيه ست مسائل :
الأولى : قوله تعالى : فمن خاف من شرط ، وخاف بمعنى خشي ، وقيل : علم ، والأصل خوف ، قلبت الواو ألفا لتحركها وتحرك ما قبلها ،
وأهل الكوفة يميلون خاف ليدلوا على الكسرة من فعلت . " من موص " بالتشديد قراءة
أبي بكر عن
عاصم وحمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ، وخفف الباقون ، والتخفيف أبين ; لأن أكثر النحويين يقولون " موص " للتكثير ، وقد يجوز أن يكون مثل كرم وأكرم . جنفا من جنف يجنف إذا جار ، والاسم منه جنف وجانف ، عن
النحاس ، وقيل : الجنف الميل . قال
الأعشى :
تجانف عن حجر اليمامة ناقتي وما قصدت من أهلها لسوائكا
وفي الصحاح : " الجنف " الميل ، وقد جنف بالكسر يجنف جنفا إذا مال ، ومنه قوله تعالى :
فمن خاف من موص جنفا . قال الشاعر [ هو
عامر الخصفي ] :
[ ص: 252 ] هم المولى وإن جنفوا علينا وإنا من لقائهم لزور
قال
أبو عبيدة : المولى ها هنا في موضع الموالي ، أي بني العم ، كقوله تعالى :
ثم يخرجكم طفلا ، وقال
لبيد :
إني امرؤ منعت أرومة عامر ضيمي وقد جنفت علي خصومي
قال
أبو عبيدة : وكذلك الجانئ ( بالهمز ) وهو المائل أيضا ، ويقال : أجنف الرجل ، أي جاء بالجنف . كما يقال : ألام ، أي أتى بما يلام عليه ، وأخس ، أي أتى بخسيس ، وتجانف لإثم ، أي مال ، ورجل أجنف ، أي منحني الظهر ، وجنفى ( على فعلى بضم الفاء وفتح العين ) : اسم موضع ، عن
ابن السكيت ، وروي عن
علي أنه قرأ " حيفا " بالحاء والياء ، أي ظلما ، وقال
مجاهد : فمن خاف أي من خشي أن يجنف الموصي ويقطع ميراث طائفة ويتعمد الأذية ، أو يأتيها دون تعمد ، وذلك هو الجنف دون إثم ، فإن تعمد فهو الجنف في إثم ، فالمعنى من وعظ في ذلك ورد عنه فأصلح بذلك ما بينه وبين ورثته وبين الورثة في ذاتهم فلا إثم عليه .
إن الله غفور رحيم عن الموصي إذا عملت فيه الموعظة ورجع عما أراد من الأذية ، وقال
ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم : معنى الآية من خاف أي علم ورأى وأتى علمه عليه بعد موت الموصي أن الموصي جنف وتعمد أذية بعض ورثته فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق .
فلا إثم عليه أي لا يلحقه إثم المبدل المذكور قبل ، وإن كان في فعله تبديل ما ولا بد ، ولكنه تبديل لمصلحة ، والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى .
الثانية : الخطاب بقوله : فمن خاف لجميع المسلمين . قيل لهم : إن خفتم من موص ميلا في الوصية وعدولا عن الحق ووقوعا في إثم ولم يخرجها بالمعروف ، وذلك بأن يوصي بالمال إلى زوج ابنته أو لولد ابنته لينصرف المال إلى ابنته ، أو إلى ابن ابنه ، والغرض أن ينصرف المال إلى ابنه ، أو أوصى لبعيد وترك القريب ، فبادروا إلى السعي في الإصلاح بينهم ، فإذا وقع الصلح سقط الإثم عن المصلح .
والإصلاح فرض على الكفاية ، فإذا قام أحدهم به سقط عن الباقين ، وإن لم يفعلوا أثم الكل .
الثالثة : في هذه الآية دليل على
الحكم بالظن ، لأنه إذا ظن قصد الفساد وجب السعي في الصلاح ، وإذا تحقق الفساد لم يكن صلحا إنما يكون حكما بالدفع وإبطالا للفساد وحسما له .
[ ص: 253 ] قوله تعالى : فأصلح بينهم عطف على " خاف " ، والكناية عن الورثة ، ولم يجر لهم ذكر لأنه قد عرف المعنى ، وجواب الشرط فلا إثم عليه .
الرابعة : لا خلاف أن
الصدقة في حال الحياة والصحة أفضل منها عند الموت ، لقوله عليه السلام
nindex.php?page=hadith&LINKID=860786وقد سئل : أي الصدقة أفضل ؟ فقال : أن تصدق وأنت صحيح شحيح الحديث ، أخرجه أهل الصحيح ، وروى
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني عن
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860787لأن يتصدق المرء في حياته بدرهم خير له من أن يتصدق عند موته بمائة ، وروى
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي عن
nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860788مثل الذي ينفق أو يتصدق عند موته مثل الذي يهدي بعدما يشبع .
الخامسة : من لم يضر في وصيته كانت كفارة لما ترك من زكاته . روى
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني عن
معاوية بن قرة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860789من حضرته الوفاة فأوصى فكانت وصيته على كتاب الله كانت كفارة لما ترك من زكاته ، فإن ضر في الوصية وهي :
السادسة : فقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني أيضا عن
ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860790الإضرار في الوصية من الكبائر ، وروى
أبو داود عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860791إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار . وترجم
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي " الصلاة على من جنف في وصيته " أخبرنا
علي بن حجر أنبأنا
هشيم عن
منصور وهو
ابن زاذان عن
الحسن عن
عمران بن حصين رضي الله عنه أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته ولم يكن له مال غيرهم ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغضب من ذلك وقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860792لقد هممت ألا أصلي عليه [ ثم دعا مملوكيه ] فجزأهم ثلاثة أجزاء ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة ، وأخرجه
مسلم بمعناه إلا أنه قال في آخره : وقال له قولا شديدا ، بدل قوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860792لقد هممت ألا أصلي عليه .