قوله تعالى : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون قوله تعالى :
وعلى الذين يطيقونه قرأ الجمهور بكسر الطاء وسكون الياء ، وأصله يطوقونه نقلت الكسرة إلى الطاء وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، وقرأ
حميد على الأصل من غير اعتلال ، والقياس الاعتلال ، ومشهور قراءة
ابن عباس " يطوقونه " بفتح الطاء مخففة وتشديد الواو بمعنى يكلفونه . وقد روى
مجاهد " يطيقونه " بالياء بعد الطاء على لفظ " يكيلونه " وهي باطلة ومحال ; لأن الفعل مأخوذ من الطوق ، فالواو لازمة واجبة فيه ولا مدخل للياء في هذا المثال . قال
أبو بكر الأنباري : وأنشدنا
أحمد بن يحيى النحوي لأبي ذؤيب :
فقيل تحمل فوق طوقك إنها مطبعة من يأتها لا يضيرها
فأظهر الواو في الطوق ، وصح بذلك أن واضع الياء مكانها يفارق الصواب ، وروى
ابن الأنباري عن
ابن عباس " يطيقونه " بفتح الياء وتشديد الطاء والياء مفتوحتين بمعنى يطيقونه ، يقال : طاق وأطاق وأطيق بمعنى ، وعن
ابن عباس أيضا
nindex.php?page=showalam&ids=25وعائشة nindex.php?page=showalam&ids=16248وطاوس nindex.php?page=showalam&ids=16705وعمرو بن دينار " يطوقونه " بفتح الياء وشد الطاء مفتوحة ، وهي صواب في اللغة ; لأن الأصل يتطوقونه فأسكنت التاء وأدغمت في الطاء فصارت طاء مشددة ، وليست من القرآن ، خلافا لمن أثبتها قرآنا ، وإنما هي قراءة على التفسير ، وقرأ
أهل المدينة والشام ( فدية طعام ) مضافا ( مساكين ) جمعا ، وقرأ
ابن عباس ( طعام مسكين ) بالإفراد فيما ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري وأبو داود nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي عن
عطاء عنه ، وهي قراءة حسنة ; لأنها بينت الحكم في اليوم ، واختارها
أبو عبيد ، وهي قراءة
أبي عمرو وحمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي . قال
أبو عبيد : فبينت أن لكل يوم إطعام واحد ، فالواحد مترجم عن الجميع ، وليس الجميع بمترجم عن واحد ، وجمع المساكين لا يدرى كم منهم في اليوم إلا من غير الآية ، وتخرج قراءة الجمع في ( مساكين ) لما كان الذين يطيقونه جمع وكل واحد منهم
[ ص: 268 ] يلزمه مسكين فجمع لفظه ، كما قال تعالى :
والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة أي اجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة ، فليست الثمانون متفرقة في جميعهم ، بل لكل واحد ثمانون ، قال معناه
أبو علي ، واختار قراءة الجمع
النحاس قال : وما اختاره
أبو عبيد مردود ; لأن هذا إنما يعرف بالدلالة ، فقد علم أن معنى " وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين " أن لكل يوم مسكينا ، فاختيار هذه القراءة لترد جمعا على جمع . قال
النحاس : واختار
أبو عبيد أن يقرأ " فدية طعام " قال : لأن الطعام هو الفدية ، ولا يجوز أن يكون الطعام نعتا لأنه جوهر ولكنه يجوز على البدل ، وأبين منه أن يقرأ " فدية طعام " بالإضافة ; لأن " فدية " مبهمة تقع للطعام وغيره ، قصار مثل قولك : هذا ثوب خز .
الثانية : واختلف العلماء في المراد بالآية ، فقيل : هي منسوخة . روى
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري : " وقال
ابن نمير حدثنا
الأعمش حدثنا
عمرو بن مرة حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12526ابن أبي ليلى حدثنا أصحاب
محمد صلى الله عليه وسلم : نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسختها
وأن تصوموا خير لكم ، وعلى هذا قراءة الجمهور يطيقونه أي يقدرون عليه ; لأن فرض الصيام هكذا : من أراد صام ومن أراد أطعم مسكينا ، وقال
ابن عباس : نزلت هذه الآية رخصة للشيوخ والعجزة خاصة إذا أفطروا وهم يطيقون الصوم ، ثم نسخت بقوله
فمن شهد منكم الشهر فليصمه فزالت الرخصة إلا لمن عجز منهم . قال
الفراء : الضمير في يطيقونه يجوز أن يعود على الصيام ، أي وعلى الذين يطيقون الصيام أن يطعموا إذا أفطروا ، ثم نسخ بقوله :
وأن تصوموا ، ويجوز أن يعود على الفداء ، أي وعلى الذين يطيقون الفداء فدية ، وأما قراءة " يطوقونه " على معنى يكلفونه مع المشقة اللاحقة لهم ، كالمريض والحامل فإنهما يقدران عليه لكن بمشقة تلحقهم في أنفسهم ، فإن صاموا أجزأهم وإن افتدوا فلهم ذلك ، ففسر
ابن عباس - إن كان الإسناد عنه صحيحا - يطيقونه بيطوقونه ويتكلفونه فأدخله بعض النقلة في القرآن . روى
أبو داود عن
ابن عباس وعلى الذين يطيقونه قال : أثبتت للحبلى والمرضع ، وروي عنه أيضا
وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين قال : كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصوم أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا ، والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا ، وخرج
[ ص: 269 ] nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني عنه أيضا قال : رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا ولا قضاء عليه ، هذا إسناد صحيح . وروي عنه أيضا أنه قال :
وعلى الذين يطيقونه فدية طعام ليست بمنسوخة ، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما ، فيطعما مكان كل يوم مسكينا ، وهذا صحيح ، وروي عنه أيضا أنه قال لأم ولد له حبلى أو مرضع : أنت من الذين لا يطيقون الصيام ، عليك الجزاء ولا عليك القضاء ، وهذا إسناد صحيح . وفي رواية : كانت له أم ولد ترضع - من غير شك - فأجهدت فأمرها أن تفطر ولا تقضي ، هذا صحيح .
قلت : فقد ثبت بالأسانيد الصحاح عن
ابن عباس أن الآية ليست بمنسوخة وأنها محكمة في حق من ذكر ، والقول الأول صحيح أيضا ، إلا أنه يحتمل أن يكون النسخ هناك بمعنى التخصيص ، فكثيرا ما يطلق المتقدمون النسخ بمعناه ، والله أعلم ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري nindex.php?page=showalam&ids=16568وعطاء بن أبي رباح والضحاك والنخعي nindex.php?page=showalam&ids=12300والزهري وربيعة nindex.php?page=showalam&ids=13760والأوزاعي وأصحاب الرأي :
الحامل والمرضع يفطران ولا إطعام عليهما ، بمنزلة المريض يفطر ويقضي ، وبه قال
أبو عبيد nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبو ثور ، وحكى ذلك
أبو عبيد عن
nindex.php?page=showalam&ids=11956أبي ثور ، واختاره
ابن المنذر ، وهو قول
مالك في الحبلى إن أفطرت ، فأما
المرضع إن أفطرت فعليها القضاء والإطعام ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وأحمد : يفطران ويطعمان ويقضيان ، وأجمعوا على أن
المشايخ والعجائز الذين لا يطيقون الصيام أو يطيقونه على مشقة شديدة أن يفطروا ، واختلفوا فيما عليهم ، فقال
ربيعة nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك : لا شيء عليهم ، غير أن
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالكا قال : لو أطعموا عن كل يوم مسكينا كان أحب إلي . وقال
أنس nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=7246وقيس بن السائب nindex.php?page=showalam&ids=3وأبو هريرة : عليهم الفدية ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وأصحاب الرأي
وأحمد وإسحاق اتباعا لقول الصحابة رضي الله عن جميعهم ، وقوله تعالى :
فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ثم قال :
وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين وهؤلاء ليسوا بمرضى ولا مسافرين ، فوجبت عليهم الفدية ، والدليل لقول
مالك : أن هذا مفطر لعذر موجود فيه وهو الشيخوخة والكبر فلم يلزمه إطعام كالمسافر والمريض ، وروي هذا عن
الثوري ومكحول ، واختاره
ابن المنذر .
الثالثة : واختلف من أوجب الفدية على من ذكر في مقدارها ، فقال
مالك : مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم عن كل يوم أفطره ، وبه قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، وقال
أبو حنيفة : كفارة كل يوم صاع تمر أو
[ ص: 270 ] نصف صاع بر ، وروي عن
ابن عباس نصف صاع من حنطة ، ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني ، وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال : من أدركه الكبر فلم يستطع أن يصوم فعليه لكل يوم مد من قمح . وروي عن
أنس بن مالك أنه ضعف عن الصوم عاما فصنع جفنة من طعام ثم دعا بثلاثين مسكينا فأشبعهم .
الرابعة : قوله تعالى :
فمن تطوع خيرا فهو خير له قال
ابن شهاب : من أراد الإطعام مع الصوم ، وقال
مجاهد : من زاد في الإطعام على المد .
ابن عباس :
فمن تطوع خيرا قال : مسكينا آخر فهو خير له . ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني وقال : إسناد صحيح ثابت . وخير الثاني صفة تفضيل ، وكذلك الثالث وخير الأول ، وقرأ
عيسى بن عمرو ويحيى بن وثاب وحمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي " يطوع خيرا " مشددا وجزم العين على معنى يتطوع . الباقون " تطوع " بالتاء وتخفيف الطاء وفتح العين على الماضي .
الخامسة : قوله تعالى :
وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون أي والصيام خير لكم . وكذا قرأ
أبي ، أي من الإفطار مع الفدية وكان هذا قبل النسخ ، وقيل :
وأن تصوموا في السفر والمرض غير الشاق والله أعلم ، وعلى الجملة فإنه يقتضي الحض على الصوم ، أي فاعلموا ذلك وصوموا .