قوله تعالى :
أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون
فيه ست وثلاثون مسألة :
الأولى : قوله تعالى : أحل لكم لفظ أحل يقتضي أنه كان محرما قبل ذلك ثم نسخ . روى
أبو داود عن
nindex.php?page=showalam&ids=12526ابن أبي ليلى قال وحدثنا أصحابنا قال : وكان الرجل إذا أفطر فنام
[ ص: 293 ] قبل أن يأكل لم يأكل حتى يصبح ، قال : فجاء
عمر فأراد امرأته فقالت : إني قد نمت ، فظن أنها تعتل فأتاها ، فجاء رجل من الأنصار فأراد طعاما فقالوا : حتى نسخن لك شيئا فنام ، فلما أصبحوا نزلت عليه هذه الآية ، وفيها :
أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ، وروى
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
البراء قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860846كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي ، وأن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما - وفي رواية : كان يعمل في النخيل بالنهار وكان صائما - فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها : أعندك طعام ؟ قالت لا ، ولكن أنطلق فأطلب لك ، وكان يومه يعمل ، فغلبته عيناه ، فجاءته امرأته فلما رأته قالت : خيبة لك فلما انتصف النهار غشي عليه ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ففرحوا فرحا شديدا ، ونزلت : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، وفي
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري أيضا عن
البراء قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860847لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله ، وكان رجال يخونون أنفسهم ، فأنزل الله تعالى : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم يقال : خان واختان بمعنى من الخيانة ، أي تخونون أنفسكم بالمباشرة في ليالي الصوم ، ومن عصى الله فقد خان نفسه إذ جلب إليها العقاب ، وقال
القتبي : أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه ، وذكر
الطبري :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860848أن عمر رضي الله تعالى عنه رجع من عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمر عنده ليلة فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت له : قد نمت ، فقال لها : ما نمت ، فوقع بها . وصنع nindex.php?page=showalam&ids=331كعب بن مالك مثله ، فغدا عمر على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أعتذر إلى الله وإليك ، فإن نفسي زينت لي فواقعت أهلي ، فهل تجد لي من رخصة ؟ فقال لي : لم تكن حقيقا بذلك يا عمر فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن . وذكره
النحاس ومكي ، وأن
عمر نام ثم وقع بامرأته ، وأنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فنزلت :
علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن الآية .
[ ص: 294 ] الثانية : قوله تعالى :
ليلة الصيام الرفث ليلة نصب على الظرف وهي اسم جنس فلذلك أفردت . و
الرفث : كناية عن الجماع لأن الله عز وجل كريم يكني ، قاله
ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي . وقال
الزجاج : الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته ، وقاله
الأزهري أيضا ، وقال
ابن عرفة : الرفث ها هنا الجماع ، والرفث : التصريح بذكر الجماع والإعراب به . قال الشاعر
ويرين من أنس الحديث زوانيا وبهن عن رفث الرجال نفار
وقيل : الرفث أصله قول الفحش ، يقال : رفث وأرفث إذا تكلم بالقبيح ، ومنه قول الشاعر :
ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم
وتعدى الرفث بإلى في قوله تعالى جده :
الرفث إلى نسائكم ، وأنت لا تقول : رفثت إلى النساء ، ولكن جيء به محمولا على الإفضاء الذي يراد به الملابسة في مثل قوله :
وقد أفضى بعضكم إلى بعض . ومن هذا المعنى :
وإذا خلوا إلى شياطينهم كما تقدم ، وقوله :
يوم يحمى عليها أي يوقد ; لأنك تقول : أحميت الحديدة في النار ، وسيأتي ، ومنه قوله :
فليحذر الذين يخالفون عن أمره ، حمل على معنى ينحرفون عن أمره أو يروغون عن أمره ; لأنك تقول : خالفت زيدا ، ومثله قوله تعالى :
وكان بالمؤمنين رحيما حمل على رءوف في نحو
بالمؤمنين رءوف رحيم ، ألا ترى أنك تقول : رؤفت به ، ولا تقول رحمت به ، ولكنه لما وافقه في المعنى نزل منزلته في التعدية ، ومن هذا الضرب قول
أبي كبير الهذلي :
حملت به في ليلة مزءودة كرها وعقد نطاقها لم يحلل
عدى " حملت " بالباء ، وحقه أن يصل إلى المفعول بنفسه ، كما جاء في التنزيل :
حملته أمه كرها ووضعته كرها ولكنه قال : حملت به ; لأنه في معنى حبلت به .
[ ص: 295 ] الثالثة :
قوله تعالى : هن لباس لكم ابتداء وخبر ، وشددت النون من هن لأنها بمنزلة الميم والواو في المذكر .
وأنتم لباس لهن أصل اللباس في الثياب ، ثم سمي امتزاج كل واحد من الزوجين بصاحبه لباسا ، لانضمام الجسد إلى الجسد وامتزاجهما وتلازمهما تشبيها بالثوب ، وقال
النابغة الجعدي :
إذا ما الضجيع ثنى جيدها تداعت فكانت عليه لباسا
وقال أيضا :
لبست أناسا فأفنيتهم وأفنيت بعد أناس أناسا
وقال بعضهم : يقال لما ستر الشيء وداراه : لباس ، فجائز أن يكون كل واحد منهما سترا لصاحبه عما لا يحل ، كما ورد في الخبر ، وقيل : لأن كل واحد منهما ستر لصاحبه فيما يكون بينهما من الجماع من أبصار الناس ، وقال
أبو عبيد وغيره : يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وإزارك . قال رجل
لعمر بن الخطاب :
ألا أبلغ أبا حفص رسولا فدى لك من أخي ثقة إزاري
قال
أبو عبيد : أي نسائي ، وقيل نفسي ، وقال
الربيع : هن فراش لكم ، وأنتم لحاف لهن .
مجاهد : أي سكن لكم ، أي يسكن بعضكم إلى بعض .
الرابعة : قوله تعالى :
علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم يستأمر بعضكم بعضا في مواقعة المحظور من الجماع والأكل بعد النوم في ليالي الصوم ، كقوله تعالى :
تقتلون أنفسكم يعني يقتل بعضكم بعضا ، ويحتمل أن يريد به كل واحد منهم في نفسه بأنه يخونها ، وسماه خائنا لنفسه من حيث كان ضرره عائدا عليه ، كما تقدم . وقوله :
فتاب عليكم يحتمل معنيين : أحدهما - قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم . والآخر : التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة ، كقوله تعالى :
علم أن لن تحصوه فتاب عليكم يعني خفف عنكم ، وقوله عقيب القتل الخطأ :
فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله يعني تخفيفا ; لأن القاتل خطأ لم يفعل شيئا تلزمه التوبة منه ، وقال تعالى :
لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة وإن لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم ما يوجب التوبة منه . وقوله :
وعفا عنكم يحتمل العفو من الذنب ، ويحتمل التوسعة
[ ص: 296 ] والتسهيل ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860771أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله يعني تسهيله وتوسعته ، فمعنى علم الله أي علم وقوع هذا منكم مشاهدة
فتاب عليكم بعد ما وقع ، أي خفف عنكم وعفا أي سهل . وتختانون من الخيانة ، كما تقدم . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : وقال علماء الزهد : وكذا فلتكن العناية وشرف المنزلة ، خان نفسه
عمر رضي الله عنه فجعلها الله تعالى شريعة ، وخفف من أجله عن الأمة فرضي الله عنه وأرضاه .
قوله تعالى :
فالآن باشروهن كناية عن الجماع ، أي قد أحل لكم ما حرم عليكم . وسمي الوقاع مباشرة لتلاصق البشرتين فيه . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : ( وهذا يدل على أن سبب الآية جماع
عمر رضي الله عنه لا جوع
قيس ; لأنه لو كان السبب جوع
قيس لقال : فالآن كلوا ، ابتدأ به لأنه المهم الذي نزلت الآية لأجله ) .
الخامسة : قوله تعالى :
وابتغوا ما كتب الله لكم قال
ابن عباس ومجاهد nindex.php?page=showalam&ids=14152والحكم بن عيينة وعكرمة والحسن nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي والربيع والضحاك : معناه وابتغوا الولد ، يدل عليه أنه عقيب قوله : فالآن باشروهن ، وقال
ابن عباس : ما كتب الله لنا هو القرآن .
الزجاج : أي ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه وأمرتم به ، وروي عن
ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=32ومعاذ بن جبل أن المعنى وابتغوا ليلة القدر ، وقيل : المعنى اطلبوا الرخصة والتوسعة ، قاله
قتادة . قال
ابن عطية : وهو قول حسن . قيل :
وابتغوا ما كتب الله لكم من الإماء والزوجات . وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري والحسن ابن قرة ( واتبعوا ) من الاتباع ، وجوزها
ابن عباس ، ورجح ابتغوا من الابتغاء .
السادسة :
وكلوا واشربوا هذا جواب نازلة
قيس ، والأول جواب
عمر ، وقد ابتدأ بنازلة
عمر لأنه المهم فهو المقدم .
السابعة : قوله تعالى :
حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر حتى غاية للتبيين ، ولا يصح أن يقع التبيين لأحد ويحرم عليه الأكل إلا وقد مضى لطلوع الفجر قدر ، واختلف في
الحد الذي بتبينه يجب الإمساك ، فقال الجمهور : ذلك الفجر المعترض في الأفق يمنة ويسرة ، وبهذا جاءت الأخبار ومضت عليه الأمصار . روى
مسلم عن
سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860849لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا ، وحكاه
حماد بيديه قال : يعني معترضا ، وفي حديث
ابن مسعود :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860850إن الفجر ليس الذي يقول هكذا - وجمع أصابعه ثم [ ص: 297 ] نكسها إلى الأرض - ولكن الذي يقول هكذا - ووضع المسبحة على المسبحة ومد يديه ، وروى
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني عن
عبد الرحمن بن عباس أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860851هما فجران فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا يحل شيئا ولا يحرمه وأما المستطيل الذي عارض الأفق ففيه تحل الصلاة ويحرم الطعام هذا مرسل وقالت طائفة : ذلك بعد طلوع الفجر وتبينه في الطرق والبيوت ، روي ذلك عن
عمر وحذيفة nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس وطلق بن علي nindex.php?page=showalam&ids=16568وعطاء بن أبي رباح nindex.php?page=showalam&ids=13726والأعمش سليمان وغيرهم أن الإمساك يجب بتبيين الفجر في الطرق وعلى رءوس الجبال . وقال
مسروق : لم يكن يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت ، وروى
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي عن
عاصم عن
زر قال
nindex.php?page=hadith&LINKID=860852قلنا لحذيفة : أي ساعة تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع ، وروى
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني عن
طلق بن علي أن نبي الله قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860853كلوا واشربوا ولا يغرنكم الساطع المصعد وكلوا واشربوا حتى يعرض لكم الأحمر . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني :
قيس بن طلق ليس بالقوي ، وقال
أبو داود : هذا مما تفرد به
أهل اليمامة . قال
الطبري : والذي قادهم إلى هذا أن الصوم إنما هو في النهار ، والنهار عندهم من طلوع الشمس ، وآخره غروبها ، وقد مضى الخلاف في هذا بين اللغويين . وتفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860854إنما هو سواد الليل وبياض النهار الفيصل في ذلك ، وقوله
أياما معدودات وروى
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني عن
عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860855من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له . تفرد به
عبد الله بن عباد عن
المفضل بن فضالة بهذا الإسناد ، وكلهم ثقات . وروي عن
حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860856من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له . رفعه
عبد الله بن أبي بكر وهو من الثقات الرفعاء ، وروي عن
حفصة مرفوعا من
[ ص: 298 ] قولها ، ففي هذين الحديثين دليل على ما قاله الجمهور في الفجر ، ومنع من الصيام دون نية قبل الفجر ، خلافا لقول
أبي حنيفة ، وهي :
الثامنة : وذلك أن
الصيام من جملة العبادات فلا يصح إلا بنية ، وقد وقتها الشارع قبل الفجر ، فكيف يقال : إن الأكل والشرب بعد الفجر جائز . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ومسلم عن
سهل بن سعد قال : نزلت
وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ولم ينزل
من الفجر وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ، ولا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما ، فأنزل الله بعد " من الفجر " فعلموا أنه إنما يعني بذلك بياض النهار .
nindex.php?page=hadith&LINKID=860857وعن عدي بن حاتم قال قلت : يا رسول الله ، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود أهما الخيطان ؟ قال : إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين - ثم قال - لا بل هو سواد الليل وبياض النهار . أخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ، وسمي الفجر خيطا لأن ما يبدو من البياض يرى ممتدا كالخيط . قال الشاعر :
الخيط الابيض ضوء الصبح منفلق والخيط الاسود جنح الليل مكتوم
والخيط في كلامهم عبارة عن اللون ، والفجر مصدر فجرت الماء أفجره فجرا إذا جرى وانبعث ، وأصله الشق ، فلذلك قيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلعها : فجر لانبعاث ضوئه ، وهو أول بياض النهار الظاهر المستطير في الأفق المنتشر ، تسميه العرب الخيط الأبيض ، كما بيناه . قال
أبو داود الإيادي :
فلما أضاءت لنا سدفة ولاح من الصبح خيط أنارا
وقال آخر :
قد كاد يبدو وبدت تباشره وسدف الليل البهيم ساتره
[ ص: 299 ] وقد تسميه أيضا الصديع ، ومنه قولهم : انصدع الفجر ، قال
بشر بن أبي خازم أو
عمرو بن معديكرب :
ترى السرحان مفترشا يديه كأن بياض لبته صديع
وشبهه الشماخ بمفرق الرأس فقال :
إذا ما الليل كان الصبح فيه أشق كمفرق الرأس الدهين
ويقولون في الأمر الواضح : هذا كفلق الصبح ، وكانبلاج الفجر ، وتباشير الصبح . قال الشاعر [ هو
حميد الأرقط ] :
فوردت قبل انبلاج الفجر وابن ذكاء كامن في كفر
التاسعة :
قوله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل جعل الله جل ذكره الليل ظرفا للأكل والشرب والجماع ، والنهار ظرفا للصيام ، فبين أحكام الزمانين وغاير بينهما ، فلا يجوز في اليوم شيء مما أباحه بالليل إلا لمسافر أو مريض ، كما تقدم بيانه ، فمن أفطر في رمضان من غير من ذكر فلا يخلو إما أن يكون عامدا أو ناسيا ، فإن كان الأول فقال
مالك : من
أفطر في رمضان عامدا بأكل أو شرب أو جماع فعليه القضاء والكفارة ، لما رواه في موطئه ،
ومسلم في صحيحه عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة أن
nindex.php?page=hadith&LINKID=860858رجلا أفطر في رمضان وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا الحديث ، وبهذا قال
الشعبي ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وغيره : إن هذه الكفارة إنما تختص بمن أفطر بالجماع ، لحديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة أيضا قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860859جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هلكت يا رسول الله قال : وما أهلكك قال : وقعت على امرأتي في رمضان ، الحديث ، وفيه ذكر الكفارة على الترتيب ، أخرجه
مسلم وحملوا هذه القضية على القضية الأولى فقالوا : هي واحدة ، وهذا غير مسلم به بل هما قضيتان مختلفتان ; لأن مساقهما مختلف ، وقد علق الكفارة على من أفطر مجردا عن القيود فلزم مطلقا ، وبهذا قال
مالك وأصحابه
nindex.php?page=showalam&ids=13760والأوزاعي وإسحاق nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبو ثور nindex.php?page=showalam&ids=16935والطبري وابن المنذر ، وروي ذلك عن
عطاء في رواية ، وعن
الحسن nindex.php?page=showalam&ids=12300والزهري ، ويلزم
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي القول به فإنه يقول : ترك
[ ص: 300 ] الاستفصال مع تعارض الأحوال يدل على عموم الحكم ، وأوجب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي عليه مع القضاء العقوبة لانتهاك حرمة الشهر .
العاشرة : واختلفوا أيضا فيما يجب على
المرأة يطؤها زوجها في رمضان ، فقال
مالك وأبو يوسف وأصحاب الرأي : عليها مثل ما على الزوج ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : ليس عليها إلا كفارة واحدة ، وسواء طاوعته أو أكرهها ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب السائل بكفارة واحدة ولم يفصل . وروي عن
أبي حنيفة : إن طاوعته فعلى كل واحد منهما كفارة ، وإن أكرهها فعليه كفارة واحدة لا غير ، وهو قول
سحنون بن سعيد المالكي ، وقال
مالك : عليه كفارتان ، وهو تحصيل مذهبه عند جماعة أصحابه .
الحادية عشرة : واختلفوا أيضا فيمن
جامع ناسيا لصومه أو أكل ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبو حنيفة وأصحابه
وإسحاق : ليس عليه في الوجهين شيء ، لا قضاء ولا كفارة ، وقال
مالك nindex.php?page=showalam&ids=15124والليث nindex.php?page=showalam&ids=13760والأوزاعي : عليه القضاء ولا كفارة ، وروي مثل ذلك عن
عطاء . وقد روي عن
عطاء أن عليه الكفارة إن جامع ، وقال : مثل هذا لا ينسى ، وقال قوم من أهل الظاهر : سواء وطئ ناسيا أو عامدا فعليه القضاء والكفارة ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=12873ابن الماجشون عبد الملك ، وإليه ذهب
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل ; لأن الحديث الموجب للكفارة لم يفرق فيه بين الناسي والعامد . قال
ابن المنذر : لا شيء عليه .
الثانية عشرة : قال
مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبو ثور وأصحاب الرأي :
إذا أكل ناسيا فظن أن ذلك قد فطره فجامع عامدا أن عليه القضاء ولا كفارة عليه . قال
ابن المنذر : وبه نقول ، وقيل في المذهب : عليه القضاء والكفارة إن كان قاصدا لهتك حرمة صومه جرأة وتهاونا . قال
أبو عمر : وقد كان يجب على أصل
مالك ألا يكفر ; لأن من أكل ناسيا فهو عنده مفطر يقضي يومه ذلك ، فأي حرمة هتك وهو مفطر ، وعند غير
مالك : ليس بمفطر كل من أكل ناسيا لصومه .
قلت : وهو الصحيح ، وبه قال الجمهور : إن كل
من أكل أو شرب ناسيا فلا قضاء عليه وإن صومه تام ، لحديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860860إذا أكل الصائم ناسيا أو شرب ناسيا فإنما هو رزق ساقه الله تعالى إليه ولا قضاء عليه - في رواية -
nindex.php?page=hadith&LINKID=860861وليتم صومه فإن الله أطعمه وسقاه . أخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني ، وقال : إسناد صحيح وكلهم ثقات . قال
أبو بكر الأثرم :
[ ص: 301 ] سمعت
أبا عبد الله يسأل عمن أكل ناسيا في رمضان ، قال : ليس عليه شيء لحديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة . ثم قال
أبو عبد الله مالك : وزعموا أن
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالكا يقول عليه القضاء وضحك ، وقال
ابن المنذر : لا شيء عليه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن أكل أو شرب ناسيا : يتم صومه وإذا قال ( يتم صومه ) فأتمه فهو صوم تام كامل .
قلت : وإذا كان من أفطر ناسيا لا قضاء عليه وصومه صوم تام فعليه
إذا جامع عامدا القضاء والكفارة - والله أعلم - كمن لم يفطر ناسيا ، وقد احتج علماؤنا على إيجاب القضاء بأن قالوا : المطلوب منه صيام يوم تام لا يقع به خرم ، لقوله تعالى :
ثم أتموا الصيام إلى الليل وهذا لم يأت به على التمام فهو باق عليه ، ولعل الحديث في صوم التطوع لخفته ، وقد جاء في صحيحي
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ومسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860862من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فلم يذكر قضاء ولا تعرض له ، بل الذي تعرض له سقوط المؤاخذة والأمر بمضيه على صومه وإتمامه ، هذا إن كان واجبا فدل على ما ذكرناه من القضاء ، فأما صوم التطوع فلا قضاء فيه لمن أكل ناسيا ، لقوله صلى الله عليه وسلم : لا قضاء عليه .
قلت : هذا ما احتج به علماؤنا وهو صحيح ، لولا ما صح عن الشارع ما ذكرناه ، وقد جاء بالنص الصريح الصحيح وهو ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860863من أفطر في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة أخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني وقال : تفرد به
ابن مرزوق وهو ثقة عن الأنصاري ، فزال الاحتمال وارتفع الإشكال ، والحمد لله ذي الجلال والكمال .
الثالثة عشرة : لما بين سبحانه محظورات الصيام وهي
الأكل والشرب والجماع ، ولم يذكر المباشرة التي هي اتصال البشرة بالبشرة كالقبلة والجسة وغيرها ، دل ذلك على صحة
صوم من قبل وباشر ; لأن فحوى الكلام إنما يدل على تحريم ما أباحه الليل وهو الأشياء الثلاثة ، ولا دلالة فيه على غيرها بل هو موقوف على الدليل ; ولذلك شاع الاختلاف فيه ، واختلف علماء السلف فيه ، فمن ذلك المباشرة . قال علماؤنا : يكره لمن لا يأمن على نفسه ولا يملكها ، لئلا يكون سببا إلى ما يفسد الصوم . روى
مالك عن
نافع أن
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان ينهى عن القبلة والمباشرة للصائم ، وهذا - والله أعلم - خوف ما يحدث عنهما ، فإن قبل وسلم فلا جناح عليه ، وكذلك إن باشر . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
عائشة قالت :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860864كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل ويباشر [ ص: 302 ] وهو صائم ، وممن كره
القبلة للصائم nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=16561وعروة بن الزبير ، وقد روي عن
ابن مسعود أنه يقضي يوما مكانه ، والحديث حجة عليهم . قال
أبو عمر : ولا أعلم أحدا رخص فيها لمن يعلم أنه يتولد عليه منها ما يفسد صومه ، فإن قبل فأمنى عليه القضاء ولا كفارة ، قاله
أبو حنيفة وأصحابه
nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري والحسن nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ، واختاره
ابن المنذر وقال : لا ليس لمن أوجب عليه الكفارة حجة . قال
أبو عمر : ولو
قبل فأمذى لم يكن عليه شيء عندهم ، وقال
أحمد : من قبل فأمذى أو أمنى فعليه القضاء ولا كفارة عليه ، إلا على من جامع فأولج عامدا أو ناسيا ، وروى
ابن القاسم عن
مالك فيمن قبل أو باشر فأنعظ ولم يخرج منه ماء جملة عليه القضاء ، وروى
ابن وهب عنه لا قضاء عليه حتى يمذي . قال
القاضي أبو محمد : واتفق أصحابنا على ألا كفارة عليه ، وإن كان منيا فهل تلزمه الكفارة مع القضاء ، فلا يخلو أن يكون قبل قبلة واحدة فأنزل ، أو قبل فالتذ فعاود فأنزل ، فإن كان قبل قبلة واحدة أو باشر أو لمس مرة فقال
أشهب nindex.php?page=showalam&ids=15968وسحنون : لا كفارة عليه حتى يكرر ، وقال
ابن القاسم : يكفر في ذلك كله ، إلا في النظر فلا كفارة عليه حتى يكرر . وممن قال بوجوب الكفارة عليه إذا
قبل أو باشر أو لاعب امرأته أو جامع دون الفرج فأمنى :
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري nindex.php?page=showalam&ids=16568وعطاء nindex.php?page=showalam&ids=16418وابن المبارك nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبو ثور وإسحاق ، وهو قول
مالك في المدونة ، وحجة قول
أشهب : أن اللمس والقبلة والمباشرة ليست تفطر في نفسها ، وإنما يبقى أن تئول إلى الأمر الذي يقع به الفطر ، فإذا فعل مرة واحدة لم يقصد الإنزال وإفساد الصوم فلا كفارة عليه كالنظر إليها ، وإذا كرر ذلك فقد قصد إفساد صومه فعليه الكفارة كما لو تكرر النظر . قال
اللخمي : واتفق جميعهم في الإنزال عن النظر ألا كفارة عليه إلا أن يتابع ، والأصل أنه لا تجب الكفارة إلا على من قصد الفطر وانتهاك حرمة الصوم ، فإذا كان ذلك وجب أن ينظر إلى عادة من نزل به ذلك ، فإن كان ذلك شأنه أن ينزل عن قبلة أو مباشرة مرة ، أو كانت عادته مختلفة : مرة ينزل ، ومرة لا ينزل ، رأيت عليه الكفارة ; لأن فاعل ذلك قاصد لانتهاك صومه أو متعرض له ، وإن كانت عادته السلامة فقدر أن يكون منه خلاف العادة لم يكن عليه كفارة ، وقد يحتمل قول
مالك في وجوب الكفارة ; لأن ذلك لا يجري إلا ممن يكون ذلك طبعه واكتفى بما ظهر منه . وحمل
أشهب الأمر على الغالب من الناس أنهم يسلمون من ذلك ، وقولهم في النظر دليل على ذلك .
[ ص: 303 ] قلت : ما حكاه من الاتفاق في النظر وجعله أصلا ليس كذلك ، فقد حكى
nindex.php?page=showalam&ids=11927الباجي في المنتقى " فإن نظر نظرة واحدة يقصد بها اللذة فقد قال الشيخ
أبو الحسن : عليه القضاء والكفارة . قال
nindex.php?page=showalam&ids=11927الباجي : وهو الصحيح عندي ; لأنه إذا قصد به الاستمتاع كان كالقبلة وغير ذلك من أنواع الاستمتاع ، والله أعلم " ، وقال
جابر بن زيد nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبو ثور وأصحاب الرأي فيمن ردد النظر إلى المرأة حتى أمنى : فلا قضاء عليه ولا كفارة ، قاله
ابن المنذر . قال
nindex.php?page=showalam&ids=11927الباجي : وروى في المدونة
ابن نافع عن
مالك أنه إن نظر إلى امرأة متجردة فالتذ فأنزل عليه القضاء دون الكفارة .
الرابعة عشرة : والجمهور على صحة
صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12815القاضي أبو بكر بن العربي : وذلك جائز إجماعا ، وقد كان وقع فيه بين الصحابة كلام ثم استقر الأمر على أن من أصبح جنبا فإن صومه صحيح .
قلت : أما ما ذكر من وقوع الكلام فصحيح مشهور ، وذلك قول
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة : من أصبح جنبا فلا صوم له ، أخرجه الموطأ وغيره ، وفي كتاب
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي أنه قال لما روجع : والله ما أنا قلته ،
محمد صلى الله عليه وسلم والله قاله . وقد اختلف في رجوعه عنها ، وأشهر قوليه عند أهل العلم أنه لا صوم له ، حكاه
ابن المنذر ، وروي عن
الحسن بن صالح ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة أيضا قول ثالث قال : إذا علم بجنابته ثم نام حتى يصبح فهو مفطر ، وإن لم يعلم حتى أصبح فهو صائم ، روي ذلك عن
عطاء nindex.php?page=showalam&ids=16248وطاوس nindex.php?page=showalam&ids=16561وعروة بن الزبير ، وروي عن
الحسن والنخعي أن ذلك يجزي في التطوع ويقضى في الفرض .
قلت : فهذه أربعة أقوال للعلماء فيمن أصبح جنبا ، والصحيح منها مذهب الجمهور ، لحديث
عائشة رضي الله عنها
nindex.php?page=showalam&ids=54وأم سلمة nindex.php?page=hadith&LINKID=860865أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم . وعن
عائشة رضي الله عنها قالت :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860866كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدركه الفجر في [ ص: 304 ] رمضان وهو جنب من غير حلم فيغتسل ويصوم ، أخرجهما
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ومسلم ، وهو الذي يفهم من ضرورة قوله تعالى :
فالآن باشروهن الآية ، فإنه لما مد إباحة الجماع إلى طلوع الفجر فبالضرورة يعلم أن الفجر يطلع عليه وهو جنب ، وإنما يتأتى الغسل بعد الفجر ، وقد قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : ولو
كان الذكر داخل المرأة فنزعه مع طلوع الفجر أنه لا قضاء عليه ، وقال
المزني : عليه القضاء لأنه من تمام الجماع ، والأول أصح لما ذكرنا ، وهو قول علمائنا .
الخامسة عشرة : واختلفوا في
الحائض تطهر قبل الفجر وتترك التطهر حتى تصبح ، فجمهورهم على وجوب الصوم عليها وإجزائه ، سواء تركته عمدا أو سهوا كالجنب ، وهو قول
مالك وابن القاسم ، وقال
عبد الملك : إذا طهرت الحائض قبل الفجر فأخرت غسلها حتى طلع الفجر فيومها يوم فطر ; لأنها في بعضه غير طاهرة ، وليست كالجنب لأن
الاحتلام لا ينقض الصوم ، والحيضة تنقضه . هكذا ذكره
أبو الفرج في كتابه عن
عبد الملك ، وقال
الأوزاعي : تقضي لأنها فرطت في الاغتسال ، وذكر
ابن الجلاب عن
عبد الملك أنها إن طهرت قبل الفجر في وقت يمكنها فيه الغسل ففرطت ولم تغتسل حتى أصبحت لم يضرها كالجنب ، وإن كان الوقت ضيقا لا تدرك فيه الغسل لم يجز صومها ويومها يوم فطر ، وقاله
مالك ، وهي كمن طلع عليها الفجر وهي حائض ، وقال
محمد بن مسلمة في هذه : تصوم وتقضي ، مثل قول
الأوزاعي ، وروي عنه أنه شذ فأوجب على من طهرت قبل الفجر ففرطت وتوانت وتأخرت حتى تصبح - الكفارة مع القضاء .
السادسة عشرة :
وإذا طهرت المرأة ليلا في رمضان فلم تدر أكان ذلك قبل الفجر أو بعده ، صامت وقضت ذلك اليوم احتياطا ، ولا كفارة عليها .
السابعة عشرة : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860867أفطر الحاجم والمحجوم . من حديث
ثوبان وحديث
شداد بن أوس وحديث
رافع بن خديج ، وبه قال
أحمد وإسحاق ، وصحح
أحمد [ ص: 305 ] حديث
شداد بن أوس ، وصحح
nindex.php?page=showalam&ids=16604علي بن المديني حديث
رافع بن خديج ، وقال
مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري : لا قضاء عليه ، إلا أنه يكره له ذلك من أجل التغرير ، وفي صحيح
مسلم من حديث
أنس أنه قيل له : أكنتم تكرهون
الحجامة للصائم ؟ قال لا ، إلا من أجل الضعف ، وقال
أبو عمر : حديث
شداد ورافع وثوبان عندنا منسوخ بحديث
ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (
nindex.php?page=hadith&LINKID=860868احتجم صائما محرما ) لأن في حديث
شداد بن أوس وغيره
nindex.php?page=hadith&LINKID=860869أنه صلى الله عليه وسلم مر عام الفتح على رجل يحتجم لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان فقال : أفطر الحاجم والمحجوم واحتجم هو صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع وهو محرم صائم ، فإذا كانت حجته صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فهي ناسخة لا محالة ; لأنه صلى الله عليه وسلم لم يدركه بعد ذلك رمضان ; لأنه توفي في ربيع الأول .
الثامنة عشرة :
قوله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل أمر يقتضي الوجوب من غير خلاف . وإلى غاية ، فإذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها فهو داخل في حكمه ، كقوله اشتريت الفدان إلى حاشيته ، أو اشتريت منك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة - والمبيع شجر ، فإن الشجرة داخلة في المبيع . بخلاف قولك : اشتريت الفدان إلى الدار ، فإن الدار لا تدخل في المحدود إذ ليس من جنسه ، فشرط تعالى تمام الصوم حتى يتبين الليل ، كما جوز الأكل حتى يتبين النهار .
التاسعة عشرة :
من تمام الصوم استصحاب النية دون رفعها ، فإن رفعها في بعض النهار ونوى الفطر إلا أنه لم يأكل ولم يشرب فجعله في المدونة مفطرا وعليه القضاء ، وفي كتاب
ابن حبيب أنه على صومه ، قال : ولا يخرجه من الصوم إلا الإفطار بالفعل وليس بالنية ، وقيل : عليه القضاء والكفارة ، وقال
سحنون : إنما يكفر من بيت الفطر ، فأما من نواه في نهاره فلا يضره ، وإنما يقضي استحسانا .
قلت : هذا حسن .
الموفية عشرين : قوله تعالى : إلى الليل إذا تبين الليل سن الفطر شرعا ، أكل أو لم يأكل . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : وقد سئل
nindex.php?page=showalam&ids=11815الإمام أبو إسحاق الشيرازي عن
رجل حلف بالطلاق ثلاثا أنه [ ص: 306 ] لا يفطر على حار ولا بارد ، فأجاب أنه بغروب الشمس مفطر لا شيء عليه ، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860870إذا جاء الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا فقد أفطر الصائم ، وسئل عنها
nindex.php?page=showalam&ids=12785الإمام أبو نصر بن الصباغ صاحب الشامل فقال : لا بد أن يفطر على حار أو بارد ، وما أجاب به
الإمام أبو إسحاق أولى ; لأنه مقتضى الكتاب والسنة .
الحادية والعشرون : فإن
ظن أن الشمس قد غابت لغيم أو غيره ثم ظهرت الشمس فعليه القضاء في قول أكثر العلماء ، وفي
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري nindex.php?page=hadith&LINKID=860871عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : أفطرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غيم ثم طلعت الشمس ، قيل
لهشام : فأمروا بالقضاء ، قال : فلا بد من قضاء ؟ . قال
عمر في الموطأ في هذا : الخطب يسير ، وقد اجتهدنا في الوقت يريد القضاء ، وروي عن
عمر أنه قال : لا قضاء عليه ، وبه قال
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري : لا قضاء عليه كالناسي ، وهو قول
إسحاق وأهل الظاهر ، وقول الله تعالى : إلى الليل يرد هذا القول ، والله أعلم .
الثانية والعشرون :
فإن أفطر وهو شاك في غروبها كفر مع القضاء ، قاله
مالك إلا أن يكون الأغلب عليه غروبها ، ومن
شك عنده في طلوع الفجر لزمه الكف عن الأكل ، فإن أكل مع شكه فعليه القضاء كالناسي ، لم يختلف في ذلك قوله ، ومن أهل العلم
بالمدينة وغيرها من لا يرى عليه شيئا حتى يتبين له طلوع الفجر ، وبه قال
ابن المنذر ، وقال
إلكيا الطبري : ( وقد ظن قوم أنه إذا أبيح له الفطر إلى أول الفجر فإذا أكل على ظن أن الفجر لم يطلع فقد أكل بإذن الشرع في وقت جواز الأكل فلا قضاء عليه ، كذلك قال
مجاهد nindex.php?page=showalam&ids=11867وجابر بن زيد ، ولا خلاف في وجوب القضاء
إذا غم عليه الهلال في أول ليلة من رمضان فأكل ثم بان أنه من رمضان ، والذي نحن فيه مثله ، وكذلك
الأسير في دار الحرب إذا أكل ظنا أنه من شعبان ثم بان خلافه ) .
الثالثة والعشرون : قوله تعالى : إلى الليل فيه ما يقتضي
النهي عن الوصال ، إذ الليل غاية الصيام ، وقالته
عائشة ، وهذا موضع اختلف فيه ، فمن واصل
عبد الله بن الزبير nindex.php?page=showalam&ids=12402وإبراهيم التيمي وأبو الجوزاء وأبو الحسن الدينوري وغيرهم . كان
ابن الزبير يواصل سبعا ، فإذا أفطر شرب السمن والصبر حتى يفتق أمعاءه ، قال : وكانت تيبس أمعاؤه ، وكان
أبو الجوزاء يواصل سبعة أيام وسبع ليال ولو قبض على ذراع الرجل الشديد لحطمها ، وظاهر القرآن والسنة يقتضي المنع ، قال صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860872إذا غابت الشمس من ها هنا وجاء الليل من ها هنا فقد أفطر [ ص: 307 ] الصائم . خرجه
مسلم من حديث
عبد الله بن أبي أوفى . ونهى عن الوصال ، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860873لو تأخر الهلال لزدتكم كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا . أخرجه
مسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ، وفي حديث
أنس :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860874لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم . خرجه
مسلم أيضا ، وقال صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860875إياكم والوصال إياكم والوصال تأكيدا في المنع لهم منه ، أخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ، وعلى كراهية الوصال - لما ذكرنا ولما فيه من ضعف القوى وإنهاك الأبدان - جمهور العلماء ، وقد حرمه بعضهم لما فيه من مخالفة الظاهر والتشبه بأهل الكتاب ، قال صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860876إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر . خرجه
مسلم وأبو داود . وفي
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860877لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر قالوا : فإنك تواصل يا رسول الله ؟ قال : لست كهيئتكم إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني . قالوا : وهذا إباحة لتأخير الفطر إلى السحر ، وهو غاية في الوصال لمن أراده ، ومنع من اتصال يوم بيوم ، وبه قال
أحمد وإسحاق nindex.php?page=showalam&ids=16472وابن وهب صاحب
مالك . واحتج من أجاز الوصال بأن قال : إنما كان النهي عن الوصال لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام ، فخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلفوا الوصال وأعلى المقامات فيفتروا أو يضعفوا عما كان أنفع منه من الجهاد والقوة على العدو ، ومع حاجتهم في ذلك الوقت ، وكان هو يلتزم في خاصة نفسه الوصال وأعلى مقامات الطاعات ، فلما سألوه عن وصالهم أبدى لهم فارقا بينه وبينهم ، وأعلمهم أن حالته في ذلك غير حالاتهم فقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860878لست مثلكم إني أبيت يطعمني ربي [ ص: 308 ] ويسقيني ، فلما كمل الإيمان في قلوبهم واستحكم في صدورهم ورسخ ، وكثر المسلمون وظهروا على عدوهم ، واصل أولياء الله وألزموا أنفسهم أعلى المقامات والله أعلم .
قلت : ترك الوصال مع ظهور الإسلام وقهر الأعداء أولى ، وذلك أرفع الدرجات وأعلى المنازل والمقامات ، والدليل على ذلك ما ذكرناه ، وأن الليل ليس بزمان صوم شرعي ، حتى لو شرع إنسان فيه الصوم بنية ما أثيب عليه ، والنبي صلى الله عليه وسلم ما أخبر عن نفسه أنه واصل ، وإنما الصحابة ظنوا ذلك فقالوا : إنك تواصل ، فأخبر أنه يطعم ويسقى ، وظاهر هذه الحقيقة : وأنه صلى الله عليه وسلم يؤتى بطعام الجنة وشرابها ، وقيل : إن ذلك محمول على ما يرد على قلبه من المعاني واللطائف ، وإذا احتمل اللفظ الحقيقة والمجاز فالأصل الحقيقة حتى يرد دليل يزيلها ، ثم لما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم وهو على عادته كما أخبر عن نفسه ، وهم على عادتهم حتى يضعفوا ويقل صبرهم فلا يواصلوا ، وهذه حقيقة التنكيل حتى يدعوا تعمقهم وما أرادوه من التشديد على أنفسهم ، وأيضا لو تنزلنا على أن المراد بقوله : ( أطعم وأسقى ) المعنى لكان مفطرا حكما ، كما أن من
اغتاب في صومه أو شهد بزور مفطر حكما ، ولا فرق بينهما ، قال صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860794من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ، وعلى هذا الحد ما واصل النبي صلى الله عليه وسلم ولا أمر به ، فكان تركه أولى ، وبالله التوفيق .
الرابعة والعشرون : ويستحب
للصائم إذا أفطر أن يفطر على رطبات أو تمرات أو حسوات من الماء ، لما رواه
أبو داود عن
أنس قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860879كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي ، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات ، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء ، وأخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني وقال فيه : إسناد صحيح ، وروى
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني عن
ابن عباس قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860880كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال : لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا فتقبل منا إنك أنت السميع العليم ، وعن
ابن عمر قال
nindex.php?page=hadith&LINKID=860881كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا أفطر : ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله . خرجه
أبو داود أيضا . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني : تفرد به
الحسين بن واقد إسناده
[ ص: 309 ] حسن ، وروى
ابن ماجه عن
عبد الله بن الزبير قال : أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند
nindex.php?page=showalam&ids=307سعد بن معاذ فقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860882أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة ، وروي أيضا عن
زيد بن خالد الجهني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860883من فطر صائما كان له مثل أجرهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئا وروي أيضا عن
nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860884إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12531ابن أبي مليكة : سمعت
عبد الله بن عمرو يقول إذا أفطر : اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي ، وفي صحيح
مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860885للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه .
الخامسة والعشرون :
ويستحب له أن يصوم من شوال ستة أيام ، لما رواه
مسلم nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي وأبو داود nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه عن
nindex.php?page=showalam&ids=50أبي أيوب الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860886من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان له كصيام الدهر هذا حديث حسن صحيح من حديث
سعد بن سعيد الأنصاري المدني ، وهو ممن لم يخرج له
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري شيئا ، وقد جاء بإسناد جيد مفسرا من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11806أبي أسماء الرحبي عن
nindex.php?page=showalam&ids=99ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860887جعل الله الحسنة بعشر أمثالها فشهر رمضان بعشرة أشهر وستة أيام بعد الفطر تمام السنة . رواه
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي ، واختلف في صيام هذه الأيام ، فكرهها
مالك في موطئه
[ ص: 310 ] خوفا أن يلحق أهل الجهالة برمضان ما ليس منه ، وقد وقع ما خافه حتى إنه كان في بعض بلاد
خراسان يقومون لسحورها على عادتهم في رمضان ، وروى
مطرف عن
نافع أنه كان يصومها في خاصة نفسه ، واستحب صيامها
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، وكرهه
أبو يوسف .
السادسة والعشرون :
قوله تعالى : ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد بين جل وتعالى أن الجماع يفسد الاعتكاف . وأجمع أهل العلم على أن من
جامع امرأته وهو معتكف عامدا لذلك في فرجها أنه مفسد لاعتكافه ، واختلفوا فيما عليه إذا فعل ذلك ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري nindex.php?page=showalam&ids=12300والزهري : عليه ما على المواقع أهله في رمضان ، فأما
المباشرة من غير جماع فإن قصد بها التلذذ فهي مكروهة ، وإن لم يقصد لم يكره ; لأن
nindex.php?page=hadith&LINKID=860888عائشة كانت ترجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتكف ، وكانت لا محالة تمس بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها ، فدل بذلك على أن المباشرة بغير شهوة غير محظورة ، هذا قول
عطاء nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي وابن المنذر . قال
أبو عمر : وأجمعوا على أن
المعتكف لا يباشر ولا يقبل ، واختلفوا فيما عليه إن فعل ، فقال
مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي : إن فعل شيئا من ذلك فسد اعتكافه ، قاله
المزني ، وقال في موضع آخر من مسائل الاعتكاف : لا يفسد الاعتكاف من الوطء إلا ما يوجب الحد ، واختاره المزني قياسا على أصله في الحج والصوم .
السابعة والعشرون : قوله تعالى : وأنتم عاكفون جملة في موضع الحال ،
والاعتكاف في اللغة : الملازمة ، يقال عكف على الشيء إذا لازمه مقبلا عليه . قال الراجز :
عكف النبيط يلعبون الفنزجا
وقال الشاعر :
وظل بنات الليل حولي عكفا عكوف البواكي بينهن صريع
ولما كان المعتكف ملازما للعمل بطاعة الله مدة اعتكافه لزمه هذا الاسم ، وهو في عرف الشرع : ملازمة طاعة مخصوصة في وقت مخصوص على شرط مخصوص في موضع مخصوص ، وأجمع العلماء على أنه ليس بواجب ، وهو قربة من القرب ونافلة من النوافل عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأزواجه ، ويلزمه إن ألزمه نفسه ، ويكره الدخول فيه لمن يخاف عليه العجز عن الوفاء بحقوقه .
الثامنة والعشرون : أجمع العلماء على أن
الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد ، لقول الله تعالى :
في المساجد واختلفوا في
المراد بالمساجد ، فذهب قوم إلى أن الآية خرجت
[ ص: 311 ] على نوع من المساجد ، وهو ما بناه نبي
كالمسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم
ومسجد إيلياء ، روي هذا عن
حذيفة بن اليمان nindex.php?page=showalam&ids=15990وسعيد بن المسيب ، فلا يجوز الاعتكاف عندهم في غيرها ، وقال آخرون : لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجماعة ; لأن الإشارة في الآية عندهم إلى ذلك الجنس من المساجد ، روي هذا عن
علي بن أبي طالب nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود ، وهو قول
عروة والحكم وحماد nindex.php?page=showalam&ids=12300والزهري nindex.php?page=showalam&ids=11958وأبي جعفر محمد بن علي ، وهو أحد قولي
مالك ، وقال آخرون : الاعتكاف في كل مسجد جائز ، يروى هذا القول عن
سعيد بن جبير وأبي قلابة وغيرهم ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبي حنيفة وأصحابهما ، وحجتهم حمل الآية على عمومها في كل مسجد له إمام ومؤذن ، وهو أحد قولي
مالك وبه يقول
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية وداود بن علي nindex.php?page=showalam&ids=16935والطبري وابن المنذر ، وروى
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني عن
الضحاك عن
حذيفة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860889كل مسجد له مؤذن وإمام فالاعتكاف فيه يصلح . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني :
والضحاك لم يسمع من
حذيفة .
التاسعة والعشرون :
وأقل الاعتكاف عند
مالك nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبي حنيفة يوم وليلة ، فإن
قال : لله علي اعتكاف ليلة لزمه اعتكاف ليلة ويوم ، وكذلك إن
نذر اعتكاف يوم لزمه يوم وليلة ، وقال
سحنون : من نذر اعتكاف ليلة فلا شيء عليه ، وقال
أبو حنيفة وأصحابه : إن نذر يوما فعليه يوم بغير ليلة ، وإن نذر ليلة فلا شيء عليه ، كما قال
سحنون . قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : عليه ما نذر ، إن نذر ليلة فليلة ، وإن نذر يوما فيوما . قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : أقله لحظة ولا حد لأكثره ، وقال بعض أصحاب
أبي حنيفة : يصح الاعتكاف ساعة ، وعلى هذا القول فليس من شرطه صوم ، وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل في أحد قوليه ، وهو قول
داود بن علي nindex.php?page=showalam&ids=13382وابن علية ، واختاره
ابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=12815وابن العربي ، واحتجوا بأن اعتكاف رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في رمضان ، ومحال أن يكون صوم رمضان لرمضان ولغيره ، ولو
نوى المعتكف في رمضان بصومه التطوع والفرض فسد صومه عند
مالك وأصحابه ، ومعلوم أن
ليل المعتكف يلزمه فيه من اجتناب مباشرة النساء ما يلزمه في نهاره ، وأن ليله داخل في اعتكافه ، وأن الليل ليس بموضع صوم ، فكذلك نهاره ليس بمفتقر إلى الصوم ، وإن صام فحسن ، وقال
مالك nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبو حنيفة وأحمد في القول الآخر : لا يصح إلا بصوم ، وروي عن
ابن عمر nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=25وعائشة رضي الله عنهم ، وفي الموطأ عن
nindex.php?page=showalam&ids=14946القاسم بن محمد nindex.php?page=showalam&ids=17191ونافع مولى عبد الله بن عمر : لا اعتكاف إلا بصيام ، لقول الله تعالى في كتابه :
وكلوا واشربوا إلى قوله : في المساجد وقالا : فإنما ذكر الله الاعتكاف مع الصيام . قال
يحيى قال
مالك :
[ ص: 312 ] وعلى ذلك الأمر عندنا ، واحتجوا بما رواه
عبد الله بن بديل عن
nindex.php?page=showalam&ids=16666عمرو بن دينار عن
ابن عمر nindex.php?page=hadith&LINKID=860890أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوما عند الكعبة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اعتكف وصم . أخرجه
أبو داود ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني : تفرد به
ابن بديل عن
عمرو وهو ضعيف ، وعن
عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860891لا اعتكاف إلا بصيام . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني : تفرد به
سويد بن عبد العزيز عن
سفيان بن حسين عن
الزهري عن
عروة عن
عائشة . وقالوا : ليس من شرط الصوم عندنا أن يكون للاعتكاف ، بل يصح أن يكون الصوم له ولرمضان ولنذر ولغيره ، فإذا نذره الناذر فإنما ينصرف إلى مقتضاه في أصل الشرع ، وهذا كمن نذر صلاة فإنها تلزمه ، ولم يكن عليه أن يتطهر لها خاصة بل يجزئه أن يؤديها بطهارة لغيرها .
الموفية ثلاثين :
وليس للمعتكف أن يخرج من معتكفه إلا لما لا بد له منه ، لما روى الأئمة عن
عائشة قالت :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860892كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان تريد الغائط والبول ، ولا خلاف في هذا بين الأمة ولا بين الأئمة ، فإذا خرج المعتكف لضرورة وما لا بد له منه ورجع في فوره بعد زوال الضرورة بنى على ما مضى من اعتكافه ولا شيء عليه ، ومن الضرورة المرض البين والحيض . واختلفوا في خروجه لما سوى ذلك ، فمذهب
مالك ما ذكرنا ، وكذلك مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبي حنيفة ، وقال
سعيد بن جبير والحسن والنخعي : يعود المريض ويشهد الجنائز ، وروي عن
علي وليس بثابت عنه ، وفرق
إسحاق بين الاعتكاف الواجب والتطوع ، فقال في
الاعتكاف الواجب : لا يعود المريض ولا يشهد الجنائز ، وقال في التطوع : يشترط حين يبتدئ حضور الجنائز وعيادة المرضى والجمعة ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : يصح اشتراط الخروج من معتكفه لعيادة مريض وشهود الجنائز وغير ذلك من حوائجه ، واختلف فيه عن
أحمد ، فمنع منه مرة وقال مرة : أرجو ألا يكون به بأس ، وقال
الأوزاعي كما قال
مالك : لا يكون في الاعتكاف شرط . قال
ابن المنذر : لا يخرج المعتكف من اعتكافه إلا لما لا بد له منه ، وهو الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج له .
[ ص: 313 ] الحادية والثلاثون : واختلفوا في
خروجه للجمعة ، فقالت طائفة : يخرج للجمعة ويرجع إذا سلم ; لأنه خرج إلى فرض ولا ينتقض اعتكافه . ورواه ابن
الجهم عن
مالك ، وبه قال
أبو حنيفة ، واختاره
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي وابن المنذر ، ومشهور مذهب
مالك أن من
أراد أن يعتكف عشرة أيام أو نذر ذلك لم يعتكف إلا في المسجد الجامع ، وإذا اعتكف في غيره لزمه الخروج إلى الجمعة وبطل اعتكافه ، وقال
عبد الملك : يخرج إلى الجمعة فيشهدها ويرجع مكانه ويصح اعتكافه .
قلت : وهو صحيح لقوله تعالى :
وأنتم عاكفون في المساجد نعم ، وأجمع العلماء على أن
الاعتكاف ليس بواجب وأنه سنة ، وأجمع الجمهور من الأئمة على أن الجمعة فرض على الأعيان ، ومتى اجتمع واجبان أحدهما آكد من الآخر قدم الآكد ، فكيف إذا اجتمع مندوب وواجب ، ولم يقل أحد بترك الخروج إليها ، فكان الخروج إليها في معنى حاجة الإنسان .
الثانية والثلاثون :
المعتكف إذا أتى كبيرة فسد اعتكافه ; لأن الكبيرة ضد العبادة ، كما أن الحدث ضد الطهارة والصلاة ، وترك ما حرم الله تعالى عليه أعلى منازل الاعتكاف في العبادة . قاله
ابن خويز منداد عن
مالك .
الثالثة والثلاثون : روى
مسلم عن
عائشة قالت :
nindex.php?page=hadith&LINKID=860893كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه . . . الحديث ، واختلف العلماء في
وقت دخول المعتكف في اعتكافه ، فقال
الأوزاعي بظاهر هذا الحديث ، وروي عن
الثوري nindex.php?page=showalam&ids=15124والليث بن سعد في أحد قوليه ، وبه قال
ابن المنذر وطائفة من التابعين . وقال
أبو ثور : إنما يفعل هذا من نذر عشرة أيام ، فإن زاد عليها فقبل غروب الشمس ، وقال
مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبو حنيفة وأصحابهم : إذا أوجب على نفسه اعتكاف شهر ، دخل المسجد قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم . قال
مالك : وكذلك كل من أراد أن يعتكف يوما أو أكثر ، وبه قال
أبو حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=12873وابن الماجشون ; لأن أول ليلة أيام الاعتكاف داخلة فيها ، وأنه زمن للاعتكاف فلم يتبعض كاليوم ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : إذا قال لله علي يوم دخل قبل طلوع الفجر وخرج بعد غروب الشمس ، خلاف قوله في الشهر ، وقال
الليث في أحد قوليه وزفر : يدخل قبل طلوع الفجر ، والشهر واليوم عندهم سواء ، وروي مثل ذلك عن
أبي يوسف وبه قال
nindex.php?page=showalam&ids=14960القاضي عبد الوهاب ، وأن الليلة إنما تدخل
[ ص: 314 ] في الاعتكاف على سبيل التبع ، بدليل أن
الاعتكاف لا يكون إلا بصوم وليس الليل بزمن للصوم ، فثبت أن المقصود بالاعتكاف هو النهار دون الليل .
قلت : وحديث
عائشة يرد هذا القول وهو الحجة عند التنازع ، وهو حديث ثابت لا خلاف في صحته .
الرابعة والثلاثون :
استحب مالك لمن اعتكف العشر الأواخر أن يبيت ليلة الفطر في المسجد حتى يغدو منه إلى المصلى ، وبه قال
أحمد ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي nindex.php?page=showalam&ids=13760والأوزاعي : يخرج إذا غابت الشمس ، ورواه
سحنون عن
ابن القاسم ; لأن العشر يزول بزوال الشهر ، والشهر ينقضي بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان ، وقال
سحنون : إن ذلك على الوجوب ، فإن خرج ليلة الفطر بطل اعتكافه ، وقال
ابن الماجشون : وهذا يرده ما ذكرنا من انقضاء الشهر ، ولو كان المقام ليلة الفطر من شرط صحة الاعتكاف لما صح اعتكاف لا يتصل بليلة الفطر ، وفي الإجماع على جواز ذلك دليل على أن
مقام ليلة الفطر للمعتكف ليس شرطا في صحة الاعتكاف ، فهذه جمل كافية من أحكام الصيام والاعتكاف اللائقة بالآيات ، فيها لمن اقتصر عليها كفاية ، والله الموفق للهداية .
الخامسة والثلاثون :
قوله تعالى : تلك حدود الله أي هذه الأحكام حدود الله فلا تخالفوها ، " فتلك " إشارة إلى هذه الأوامر والنواهي ، والحدود : الحواجز . والحد : المنع ، ومنه سمي الحديد حديدا ; لأنه يمنع من وصول السلاح إلى البدن ، وسمي البواب والسجان حدادا ; لأنه يمنع من في الدار من الخروج منها ، ويمنع الخارج من الدخول فيها ، وسميت حدود الله لأنها تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها ، وأن يخرج منها ما هو منها ، ومنها سميت الحدود في المعاصي ; لأنها تمنع أصحابها من العود إلى أمثالها ، ومنه سميت الحاد في العدة ; لأنها تمتنع من الزينة .
السادسة والثلاثون :
قوله تعالى : كذلك يبين الله آياته للناس أي كما بين هذه الحدود يبين جميع الأحكام لتتقوا مجاوزتها ، والآيات : العلامات الهادية إلى الحق .
ولعلهم ترج في حقهم ، فظاهر ذلك عموم ومعناه خصوص فيمن يسره الله للهدى ، بدلالة الآيات التي تتضمن أن الله يضل من يشاء .