قوله تعالى : ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم [ ص: 92 ] فيه أربع مسائل : الأولى : قال العلماء : لما أمر الله تعالى بالإنفاق وصحبة الأيتام والنساء بجميل المعاشرة قال : لا تمتنعوا عن شيء من المكارم تعللا بأنا حلفنا ألا نفعل كذا ، قال معناه
ابن عباس والنخعي ومجاهد والربيع وغيرهم . قال
سعيد بن جبير : ( هو الرجل يحلف ألا يبر ولا يصل ولا يصلح بين الناس ، فيقال له : بر ، فيقول : قد حلفت ) . وقال بعض المتأولين : المعنى ولا تحلفوا بالله كاذبين إذا أردتم البر والتقوى والإصلاح ، فلا يحتاج إلى تقدير " لا " بعد " أن " . وقيل : المعنى لا تستكثروا من اليمين بالله فإنه أهيب للقلوب ، ولهذا قال تعالى :
واحفظوا أيمانكم . وذم من
كثر اليمين فقال تعالى :
ولا تطع كل حلاف مهين . والعرب تمتدح بقلة الأيمان ، حتى قال قائلهم :
قليل الألايا حافظ ليمينه وإن صدرت منه الألية برت
وعلى هذا أن تبروا معناه : أقلوا الأيمان لما فيه من البر والتقوى ، فإن الإكثار يكون معه الحنث وقلة رعي لحق الله تعالى ، وهذا تأويل حسن .
مالك بن أنس : بلغني أنه الحلف بالله في كل شيء . وقيل : المعنى لا تجعلوا اليمين مبتذلة في كل حق وباطل : وقال
الزجاج وغيره : معنى الآية أن يكون الرجل إذا طلب منه فعل خير اعتل بالله فقال : علي يمين ، وهو لم يحلف
القتبي : المعنى إذا حلفتم على ألا تصلوا أرحامكم ولا تتصدقوا ولا تصلحوا ، وعلى أشباه ذلك من أبواب البر فكفروا اليمين . قلت : وهذا حسن لما بيناه ، وهو الذي يدل على سبب النزول ، على ما نبينه في المسألة بعد هذا .
الثانية : قيل :
نزلت بسبب الصديق إذ حلف ألا ينفق على مسطح حين تكلم في عائشة رضي الله عنها ، كما في حديث الإفك ، وسيأتي بيانه في " النور " ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج . وقيل : نزلت في
الصديق أيضا حين حلف ألا يأكل مع الأضياف . وقيل نزلت في
عبد الله بن رواحة [ ص: 93 ] حين حلف ألا يكلم
بشير بن النعمان وكان ختنه على أخته ، والله أعلم .
الثالثة : قوله تعالى :
عرضة لأيمانكم أي نصبا ، عن
الجوهري . وفلان عرضة ذاك ، أي عرضة لذلك ، أي مقرن له قوي عليه . والعرضة : الهمة . قال (
حسان بن ثابت ) :
وقال الله قد أعددت جندا هم الأنصار عرضتها اللقاء
وفلان عرضة للناس : لا يزالون يقعون فيه . وجعلت فلانا عرضة لكذا أي نصبته له ، وقيل : العرضة من الشدة والقوة ، ومنه قولهم للمرأة : عرضة للنكاح ، إذا صلحت له وقويت عليه ، ولفلان عرضة : أي قوة على السفر والحرب ، قال
كعب بن زهير :
من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت عرضتها طامس الأعلام مجهول
وقال
عبد الله بن الزبير :
فهذي لأيام الحروب وهذي للهوي وهذي عرضة لارتحالنا
أي عدة . وقال آخر :
فلا تجعلني عرضة للوائم
وقال
أوس بن حجر :
وأدماء مثل الفحل يوما عرضتها لرحلي وفيها هزة وتقاذف
والمعنى : لا تجعلوا
اليمين بالله قوة لأنفسكم ، وعدة في الامتناع من البر .
الرابعة :
قوله تعالى : أن تبروا وتتقوا مبتدأ وخبره محذوف ، أي البر والتقوى والإصلاح أولى وأمثل ، مثل
طاعة وقول معروف عن
الزجاج والنحاس . وقيل : محله النصب ، أي لا تمنعكم اليمين بالله عز وجل البر والتقوى والإصلاح ، عن
الزجاج أيضا . وقيل : مفعول من أجله . وقيل : معناه ألا تبروا ، فحذف " لا " ، كقوله تعالى :
يبين الله لكم أن تضلوا ؛ أي لئلا تضلوا ، قاله
الطبري والنحاس . ووجه رابع من وجوه النصب : كراهة أن تبروا ، ثم حذفت ، ذكره
النحاس والمهدوي . وقيل : هو في موضع خفض على قول
الخليل nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ، التقدير : في أن تبروا ، فأضمرت " في " وخفضت بها . و سميع أي لأقوال العباد . عليم بنياتهم .
[ ص: 94 ]