قوله تعالى :
ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير قوله تعالى : ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم [ ص: 286 ] ( ابتغاء ) مفعول من أجله .
وتثبيتا من أنفسهم عطف عليه . وقال
مكي في المشكل : كلاهما مفعول من أجله . قال
ابن عطية : وهو مردود ، ولا يصح في " تثبيتا " أنه مفعول من أجله ؛ لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت . و ( ابتغاء ) نصب على المصدر في موضع الحال ، وكان يتوجه فيه النصب على المفعول من أجله ، لكن النصب على المصدر هو الصواب من جهة عطف المصدر الذي هو تثبيتا عليه . ولما ذكر الله تعالى صفة صدقات القوم الذين لا خلاق لصدقاتهم ، ونهى المؤمنين عن مواقعة ما يشبه ذلك بوجه ما ، عقب في هذه الآية بذكر نفقات القوم الذين تزكو صدقاتهم إذ كانت على وفق الشرع ووجهه . و ( ابتغاء ) معناه طلب . و ( مرضات ) مصدر من رضي يرضى . ( وتثبيتا ) معناه أنهم يتثبتون أين يضعون صدقاتهم ، قاله
مجاهد والحسن . قال
الحسن : كان الرجل إذا هم بصدقة تثبت ، فإن كان ذلك لله أمضاه وإن خالطه شك أمسك . وقيل : معناه تصديقا ويقينا ، قاله
ابن عباس . وقال
ابن عباس أيضا
وقتادة : معناه واحتسابا من أنفسهم . وقال
الشعبي nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي وقتادة أيضا
وابن زيد nindex.php?page=showalam&ids=12045وأبو صالح وغيرهم : ( وتثبيتا ) معناه وتيقنا أي أن نفوسهم لها بصائر فهي تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تعالى تثبيتا . وهذه الأقوال الثلاث أصوب من قول
الحسن ومجاهد ؛ لأن المعنى الذي ذهبا إليه إنما عبارته " وتثبيتا " مصدر على غير المصدر . قال
ابن عطية : وهذا لا يسوغ إلا مع ذكر المصدر والإفصاح بالفعل المتقدم ، كقوله تعالى :
والله أنبتكم من الأرض نباتا ،
وتبتل إليه تبتيلا . وأما إذا لم يقع إفصاح بفعل فليس لك أن تأتي بمصدر في غير معناه ثم تقول : أحمله على معنى كذا وكذا ، لفعل لم يتقدم له ذكر . قال
ابن عطية : هذا مهيع كلام العرب فيما علمته . وقال
النحاس : لو كان كما قال
مجاهد لكان وتثبتا من تثبت كتكرمت تكرما ، وقول
قتادة : احتسابا ، لا يعرف إلا أن يراد به أن أنفسهم تثبتهم محتسبة ، وهذا بعيد . وقول
الشعبي حسن ، أي تثبيتا من أنفسهم لهم على إنفاق ذلك في طاعة الله عز وجل ، يقال : ثبت فلانا في هذا الأمر ، أي صححت عزمه ، وقويت فيه رأيه ، أثبته تثبيتا ، أي أنفسهم موقنة بوعد الله على تثبيتهم في ذلك . وقيل :
وتثبيتا من أنفسهم أي يقرون بأن الله تعالى يثبت عليها ، أي وتثبيتا من أنفسهم لثوابها ، بخلاف المنافق الذي لا يحتسب الثواب .
قوله تعالى : كمثل جنة بربوة الجنة : البستان ، وهي قطعة أرض تنبت فيها الأشجار حتى تغطيها ، فهي مأخوذة من لفظ الجن والجنين لاستتارهم . وقد تقدم . والربوة : المكان المرتفع ارتفاعا يسيرا ، معه في الأغلب كثافة تراب ، وما كان كذلك فنباته أحسن ، ولذلك
[ ص: 287 ] خص الربوة بالذكر . قال
ابن عطية : ورياض الحزن ليست من هذا كما زعم
الطبري ، بل تلك هي الرياض المنسوبة إلى نجد ؛ لأنها خير من رياض تهامة ، ونبات نجد أعطر ، ونسيمه أبرد وأرق ، ونجد يقال لها حزن . وقلما يصلح هواء تهامة إلا بالليل ، ولذلك قالت الأعرابية : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=831686زوجي كليل تهامة " . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : ( بربوة ) أي برباوة ، وهو ما انخفض من الأرض . قال
ابن عطية : وهذه عبارة قلقة ، ولفظ الربوة هو مأخوذ من ربا يربو إذا زاد .
قلت : عبارة
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي ليست بشيء ؛ لأن بناء " ر بو " معناه الزيادة في كلام العرب ، ومنه الربو للنفس العالي . ربا يربو إذا أخذه الربو . وربا الفرس إذا أخذه الربو من عدو أو فزع . وقال
الفراء في قوله تعالى : أخذهم أخذة رابية ؛ أي زائدة ، كقولك : أربيت إذا أخذت أكثر مما أعطيت . وربوت في بني فلان وربيت أي نشأت فيهم . وقال
الخليل : الربوة أرض مرتفعة طيبة وخص الله تعالى بالذكر التي لا يجري فيها ماء من حيث العرف في بلاد العرب ، فمثل لهم ما يحسونه ويدركونه . وقال
ابن عباس : الربوة المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار ؛ لأن قوله تعالى :
أصابها وابل إلى آخر الآية يدل على أنها ليس فيها ماء جار ، ولم يرد جنس التي تجري فيها الأنهار ؛ لأن الله تعالى قد ذكر ربوة ذات قرار ومعين . والمعروف من كلام العرب أن الربوة ما ارتفع عما جاوره ، سواء جرى فيها ماء أو لم يجر . وفيها خمس لغات " ربوة " بضم الراء ، وبها قرأ
ابن كثير وحمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ونافع وأبو عمرو . و " ربوة " بفتح الراء ، وبها قرأ
عاصم وابن عامر والحسن . " وربوة " بكسر الراء ، وبها قرأ
ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=11813وأبو إسحاق السبيعي . و " رباوة " بالفتح ، وبها قرأ
أبو جعفر وأبو عبد الرحمن ، وقال الشاعر :
من منزلي في روضة برباوة بين النخيل إلى بقيع الغرقد
؟ و " رباوة " بالكسر ، وبها قرأ
الأشهب العقيلي . قال
الفراء : ويقال برباوة وبرباوة ، وكله من الرابية ، وفعله ربا يربو .
قوله تعالى : ( أصابها ) يعني الربوة . وابل أي مطر شديد قال الشاعر (
أعشى بن ميمون ) :
ما روضة من رياض الحزن معشبة خضراء جاد عليها وابل هطل
( فآتت ) أي أعطت . ( أكلها ) بضم الهمزة : الثمر الذي يؤكل ، ومنه قوله تعالى :
تؤتي أكلها كل حين . والشيء المأكول من كل شيء يقال له أكل . والأكلة : اللقمة ،
[ ص: 288 ] ومنه الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=831687فإن كان الطعام مشفوها قليلا فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين يعني لقمة أو لقمتين ، خرجه
مسلم . وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص ، كسرج الفرس وباب الدار . وإلا فليس الثمر مما تأكله الجنة . وقرأ
نافع وابن كثير وأبو عمرو " أكلها " بضم الهمزة وسكون الكاف ، وكذلك كل مضاف إلى مؤنث ، وفارقهما
أبو عمرو فيما أضيف إلى مذكر مثل أكله أو كان غير مضاف إلى شيء مثل
أكل خمط فثقل
أبو عمرو ذلك وخففاه . وقرأ
عاصم وابن عامر وحمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي في جميع ما ذكرناه بالتثقيل . ويقال : أكل وأكل بمعنى . ( ضعفين ) أي أعطت ضعفي ثمر غيرها من الأرضين . وقال بعض أهل العلم : حملت مرتين في السنة ، والأول أكثر ، أي أخرجت من الزرع ما يخرج غيرها في سنتين .
قوله تعالى :
فإن لم يصبها وابل فطل تأكيد منه تعالى لمدح هذه الربوة بأنها إن لم يصبها وابل فإن الطل يكفيها وينوب مناب الوابل في إخراج الثمرة ضعفين ، وذلك لكرم الأرض وطيبها . قال
المبرد وغيره : تقديره فطل يكفيها . وقال
الزجاج : فالذي يصيبها طل . والطل : المطر الضعيف المستدق من القطر الخفيف ، قاله
ابن عباس وغيره ، وهو مشهور اللغة . وقال قوم منهم
مجاهد : الطل : الندى . قال
ابن عطية : وهو تجوز وتشبيه . قال
النحاس : وحكى أهل اللغة وبلت وأوبلت ، وطلت وأطلت . وفي الصحاح : الطل أضعف المطر ، والجمع الطلال ، تقول منه : طلت الأرض وأطلها الندى فهي مطلولة . قال
nindex.php?page=showalam&ids=15151الماوردي : وزرع الطل أضعف من زرع المطر وأقل ريعا ، وفيه - وإن قل - تماسك ونف . قال بعضهم : في الآية تقديم وتأخير ومعناه كمثل جنة بربوة أصابها وابل فإن لم يصبها وابل فطل فآتت أكلها ضعفين . يعني اخضرت أوراق البستان وخرجت ثمرتها ضعفين .
قلت : التأويل الأول أصوب ولا حاجة إلى التقديم والتأخير . فشبه تعالى نمو نفقات هؤلاء المخلصين الذين يربي الله صدقاتهم كتربية الفلو والفصيل بنمو نبات الجنة بالربوة الموصوفة ، بخلاف الصفوان الذي انكشف عنه ترابه فبقي صلدا . وخرج
مسلم وغيره عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=830944لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه [ ص: 289 ] فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل أو أعظم خرجه الموطأ أيضا .
قوله تعالى : ( والله بما تعملون بصير ) وعد ووعيد . وقرأ
الزهري " يعملون " بالياء كأنه يريد به الناس أجمع ، أو يريد المنفقين فقط ، فهو وعد محض .