القول في تأويل قوله تعالى (
واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا )
قال
أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : "
واذكروا نعمة الله عليكم " ، واذكروا ما أنعم الله به عليكم من الألفة والاجتماع على الإسلام .
واختلف أهل العربية في قوله : "
إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم " .
فقال بعض نحويي
البصرة في ذلك : انقطع الكلام عند قوله : "
واذكروا نعمة الله عليكم " ، ثم فسر بقوله : "
فألف بين قلوبكم " ، وأخبر بالذي كانوا فيه قبل التأليف ، كما تقول : "أمسك الحائط أن يميل " .
وقال بعض نحويي
الكوفة : قوله "
إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم " ، تابع قوله : "
واذكروا نعمة الله عليكم " غير منقطعة منها .
[ ص: 77 ]
قال
أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن قوله : "
إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم " ، متصل بقوله : "
واذكروا نعمة الله عليكم " ، غير منقطع عنه .
وتأويل ذلك : واذكروا ، أيها المؤمنون ، نعمة الله عليكم التي أنعم بها عليكم ، حين كنتم أعداء في شرككم ، يقتل بعضكم بعضا ، عصبية في غير طاعة الله ولا طاعة رسوله ، فألف الله بالإسلام بين قلوبكم ، فجعل بعضكم لبعض إخوانا بعد إذ كنتم أعداء تتواصلون بألفة الإسلام واجتماع كلمتكم عليه ، كما : -
7582 - حدثنا
بشر قال : حدثنا
يزيد قال : حدثنا
سعيد ، عن
قتادة ، قوله : "
واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم " ، كنتم تذابحون فيها ، يأكل شديدكم ضعيفكم ، حتى جاء الله بالإسلام ، فآخى به بينكم ، وألف به بينكم . أما والله الذي لا إله إلا هو ، إن الألفة لرحمة ، وإن الفرقة لعذاب .
7583 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
إسحاق قال : حدثنا
ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع في قوله : "
واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء " ، يقتل بعضكم بعضا ، ويأكل شديدكم ضعيفكم ، حتى جاء الله بالإسلام ، فألف به بينكم ، وجمع جمعكم عليه ، وجعلكم عليه إخوانا .
قال
أبو جعفر : فالنعمة التي أنعم الله على
الأنصار التي أمرهم تعالى ذكره في هذه الآية أن يذكروها ، هي ألفة الإسلام ، واجتماع كلمتهم عليها والعداوة التي كانت بينهم ، التي قال الله عز وجل : "
إذ كنتم أعداء " فإنها عداوة الحروب التي كانت بين الحيين من
الأوس والخزرج في الجاهلية قبل الإسلام ، يزعم العلماء بأيام العرب أنها تطاولت بينهم عشرين ومائة سنة ، . كما : -
[ ص: 78 ]
7584 - حدثنا
ابن حميد قال : حدثنا
سلمة قال : قال
ابن إسحاق : كانت الحرب بين
الأوس والخزرج عشرين ومائة سنة ، حتى قام الإسلام وهم على ذلك ، فكانت حربهم بينهم وهم أخوان لأب وأم ، فلم يسمع بقوم كان بينهم من العداوة والحرب ما كان بينهم . ثم إن الله عز وجل أطفأ ذلك بالإسلام ، وألف بينهم برسوله
محمد صلى الله عليه وسلم .
فذكرهم جل ثناؤه إذ وعظهم ، عظيم ما كانوا فيه في جاهليتهم من البلاء والشقاء بمعاداة بعضهم بعضا وقتل بعضهم بعضا ، وخوف بعضهم من بعض ، وما صاروا إليه بالإسلام واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، والإيمان به وبما جاء به ، من الائتلاف والاجتماع ، وأمن بعضهم من بعض ، ومصير بعضهم لبعض إخوانا ، وكان سبب ذلك ما : -
7585 - حدثنا به
ابن حميد قال : حدثنا
سلمة قال : حدثني
ابن إسحاق قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16276عاصم بن عمر بن قتادة المدني ، عن أشياخ من قومه ، قالوا :
قدم سويد بن صامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا . قال : وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشعره ونسبه وشرفه . قال : فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به ، فدعاه إلى الله عز وجل وإلى الإسلام ، قال : فقال له سويد : فلعل الذي معك مثل الذي معي! قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وما الذي معك ؟ قال : مجلة لقمان - يعني : حكمة لقمان - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اعرضها علي " فعرضها عليه ، فقال : "إن هذا لكلام حسن ، معي أفضل من هذا ، قرآن أنزله الله علي هدى ونور . قال : فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ، ودعاه إلى الإسلام ، فلم يبعد منه ، وقال : إن هذا لقول حسن! ثم [ ص: 79 ] انصرف عنه وقدم المدينة ، فلم يلبث أن قتلته الخزرج . فإن كان قومه ليقولون : قد قتل وهو مسلم . وكان قتله قبل يوم بعاث .
7586 - حدثنا
ابن حميد قال : حدثنا
سلمة ، عن
محمد بن إسحاق قال : حدثني
الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ ، أحد
بني عبد الأشهل :
nindex.php?page=hadith&LINKID=810289أن محمود بن لبيد ، أحد بني عبد الأشهل قال : لما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة ، ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج ، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاهم فجلس إليهم فقال "هل لكم إلى خير مما جئتم له ؟ " قالوا : وما ذاك ؟ قال : "أنا رسول الله ، بعثني إلى العباد أدعوهم إلى الله أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا ، وأنزل علي الكتاب . ثم ذكر لهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن ، فقال إياس بن معاذ ، وكان غلاما حدثا : أي قوم ، هذا والله خير مما جئتم له! قال : فيأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنة من البطحاء ، فضرب بها وجه إياس بن معاذ ، وقال : دعنا منك ، فلعمري لقد جئنا لغير هذا! قال : فصمت إياس بن معاذ ، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ، وانصرفوا [ ص: 80 ] إلى المدينة ، وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج . قال . ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك . قال : فلما أراد الله إظهار دينه ، وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم ، وإنجاز موعده له ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار يعرض نفسه على قبائل العرب ، كما كان يصنع في كل موسم . فبينا هو عند العقبة ، إذ لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا .
قال
ابن حميد قال :
سلمة قال :
محمد بن إسحاق ، فحدثني
nindex.php?page=showalam&ids=16276عاصم بن عمر بن قتادة ; عن أشياخ من قومه قالوا :
لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : "من أنتم ؟ " قالوا : نفر من الخزرج قال : أمن موالي يهود ؟ قالوا : نعم قال : أفلا تجلسون حتى أكلمكم ؟ قالوا : بلى! . قال : فجلسوا معه ، فدعاهم إلى الله ، وعرض عليهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن . قال : وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام ، أن يهود كانوا معهم ببلادهم ، وكانوا أهل كتاب وعلم ، وكانوا أهل شرك ، أصحاب أوثان ، وكانوا قد غزوهم ببلادهم . فكانوا إذا كان بينهم شيء ، قالوا لهم : إن نبيا الآن مبعوث قد أظل زمانه ، نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم ! . فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله عز وجل ، قال بعضهم لبعض : يا قوم ، تعلمون والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود ، فلا يسبقنكم إليه! فأجابوه فيما دعاهم إليه ، بأن صدقوه وقبلوا منه [ ص: 81 ] ما عرض عليهم من الإسلام ، وقالوا له : إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، وعسى الله أن يجمعهم بك ، وسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين; فإن يجمعهم الله عليه ، فلا رجل أعز منك . ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم ، قد آمنوا وصدقوا وهم فيما ذكر لي ستة نفر . قال :
فلما قدموا المدينة على قومهم ، ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعوهم إلى الإسلام ، حتى فشا فيهم ، فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم . حتى إذا كان العام المقبل ، وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا فلقوه بالعقبة ، وهي العقبة الأولى ، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء ، وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب .
7587 - حدثنا
الحسن بن يحيى قال : أخبرنا
عبد الرزاق قال : أخبرنا
معمر ، عن
أيوب ، عن
عكرمة : أنه
لقي النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر من الأنصار فآمنوا به وصدقوه ، فأراد أن يذهب معهم ، فقالوا : يا رسول الله ، إن [ ص: 82 ] بين قومنا حربا ، وإنا نخاف إن جئت على حالك هذه أن لا يتهيأ الذي تريد . فوعدوه العام المقبل ، وقالوا : يا رسول الله ، نذهب ، فلعل الله أن يصلح تلك الحرب! قال : فذهبوا ففعلوا ، فأصلح الله عز وجل تلك الحرب ، وكانوا يرون أنها لا تصلح وهو يوم بعاث . فلقوه من العام المقبل سبعين رجلا قد آمنوا ، فأخذ عليهم النقباء اثني عشر نقيبا ، فذلك حين يقول : " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم " .
7588 - حدثني
محمد بن الحسين قال : حدثنا
أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : أما : "
إذ كنتم أعداء " ، ففي حرب ابن سمير "
فألف بين قلوبكم " ، بالإسلام .
7589 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثنا
أبو سفيان ، عن
معمر ، عن
أيوب ، عن
عكرمة بنحوه وزاد فيه :
فلما كان من أمر عائشة ما كان ، فتثاور الحيان ، فقال بعضهم لبعض : موعدكم الحرة! فخرجوا إليها ، فنزلت هذه الآية : " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا [ ص: 83 ] " ، الآية . فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يتلوها عليهم حتى اعتنق بعضهم بعضا ، وحتى إن لهم لخنينا يعني البكاء .
"
وسمير " الذي زعم
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي أن قوله "
إذ كنتم أعداء " عنى به حربه ، هو
سمير بن زيد بن مالك ، أحد
بني عمرو بن عوف الذي ذكره
مالك بن العجلان في قوله :
إن سميرا ، أرى عشيرته قد حدبوا دونه وقد أنفوا إن يكن الظن صادقي ببني
النجار لم يطعموا الذي علفوا
[ ص: 84 ]
وقد ذكر علماء
الأنصار : أن مبدأ العداوة التي هيجت الحروب التي كانت بين قبيلتيها
الأوس والخزرج وأولها ، كان بسبب قتل مولى
لمالك بن العجلان الخزرجي ، يقال له : "
الحر بن سمير " من
مزينة ، وكان حليفا
لمالك بن العجلان ، ثم اتصلت تلك العداوة بينهم إلى أن أطفأها الله بنبيه
محمد صلى الله عليه وسلم . فذلك معنى قول
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : "حرب
ابن سمير " .
وأما قوله : "
فأصبحتم بنعمته إخوانا " ، فإنه يعني : فأصبحتم بتأليف الله عز وجل بينكم بالإسلام وكلمة الحق ، والتعاون على نصرة أهل الإيمان ، والتآزر على من خالفكم من أهل الكفر ، إخوانا متصادقين ، لا ضغائن بينكم ولا تحاسد ، كما : -
7590 - حدثني
بشر قال : حدثنا
يزيد قال : حدثنا
سعيد ، عن
قتادة ، [ ص: 85 ] قوله : "
فأصبحتم بنعمته إخوانا " ، وذكر لنا أن رجلا قال
nindex.php?page=showalam&ids=10لابن مسعود : كيف أصبحتم ؟ قال : أصبحنا بنعمة الله إخوانا .