القول في تأويل قوله تعالى (
يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ( 106 )
وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون ( 107 ) )
قال
أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : أولئك لهم عذاب عظيم في يوم تبيض وجوه وتسود وجوه .
وأما قوله : "
فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم " ، فإن معناه : فأما الذين اسودت وجوههم ، فيقال لهم : أكفرتم بعد إيمانكم ؟ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون . ولا بد ل "أما " من جواب بالفاء ، فلما أسقط الجواب سقطت "الفاء " معه . وإنما جاز ترك ذكر "فيقال " لدلالة ما ذكر من الكلام عليه .
[ ص: 94 ]
وأما معنى قوله جل ثناؤه : "
أكفرتم بعد إيمانكم " ، فإن أهل التأويل اختلفوا فيمن عني به .
فقال بعضهم : عني به أهل قبلتنا من المسلمين .
ذكر من قال ذلك :
7601 - حدثنا
بشر قال : حدثنا
يزيد قال : حدثنا
سعيد ، عن
قتادة ، قوله : "
يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " ، الآية ، لقد كفر أقوام بعد إيمانهم كما تسمعون ، ولقد ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=811372والذي نفس محمد بيده ، ليردن على الحوض ممن صحبني أقوام ، حتى إذا رفعوا إلي ورأيتهم ، اختلجوا دوني ، فلأقولن : رب! أصحابي! أصحابي! فليقالن : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك "! وقوله : "
وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله " ، هؤلاء أهل طاعة الله ، والوفاء بعهد الله ، قال الله عز وجل : "
ففي رحمة الله هم فيها خالدون " .
7602 - حدثنا
محمد بن الحسين قال : حدثنا
أحمد بن المفضل قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : "
يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " ، فهذا من كفر من أهل القبلة حين اقتتلوا .
7603 - حدثنا
ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن
حماد بن سلمة nindex.php?page=showalam&ids=14358والربيع بن صبيح ، عن
أبي مجالد ، عن
أبي أمامة : "
فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم " ، قال : هم
الخوارج .
وقال آخرون : عنى بذلك : كل من كفر بالله بعد الإيمان الذي آمن ،
[ ص: 95 ] حين أخذ الله من صلب
آدم ذريته وأشهدهم على أنفسهم بما بين في كتابه .
ذكر من قال ذلك :
7604 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
علي بن الهيثم قال : أخبرنا
ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع ، عن
أبي العالية ، عن
أبي بن كعب ، في قوله : "
يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " ، قال : صاروا يوم القيامة فريقين ، فقال لمن اسود وجهه ، وعيرهم : "
أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " ، قال : هو الإيمان الذي كان قبل الاختلاف في زمان
آدم ، حين أخذ منهم عهدهم وميثاقهم ، وأقروا كلهم بالعبودية ، وفطرهم على الإسلام ، فكانوا أمة واحدة مسلمين ، يقول : "
أكفرتم بعد إيمانكم " ، يقول : بعد ذلك الذي كان في زمان
آدم . وقال في الآخرين : الذين استقاموا على إيمانهم ذلك ، فأخلصوا له الدين والعمل ، فبيض الله وجوههم ، وأدخلهم في رضوانه وجنته .
وقال آخرون : بل الذين عنوا بقوله : "
أكفرتم بعد إيمانكم " ، المنافقون .
ذكر من قال ذلك :
7605 - حدثني
محمد بن سنان قال : حدثنا
أبو بكر الحنفي ، عن
عباد ، عن
الحسن : "
يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " الآية ، قال : هم المنافقون ، كانوا أعطوا كلمة الإيمان بألسنتهم ، وأنكروها بقلوبهم وأعمالهم .
قال
أبو جعفر : وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بالصواب ، القول الذي ذكرناه عن
أبي بن كعب أنه عنى بذلك جميع الكفار ، وأن الإيمان الذي يوبخون على ارتدادهم عنه ، هو الإيمان الذي أقروا به يوم قيل لهم : (
ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ) [ سورة الأعراف : 172 ] .
[ ص: 96 ]
وذلك أن الله جل ثناؤه جعل جميع أهل الآخرة فريقين : أحدهما سودا وجوهه ، والآخر بيضا وجوهه . فمعلوم - إذ لم يكن هنالك إلا هذان الفريقان - أن جميع الكفار داخلون في فريق من سود وجهه ، وأن جميع المؤمنين داخلون في فريق من بيض وجهه . فلا وجه إذا لقول قائل : "عنى بقوله : "
أكفرتم بعد إيمانكم " ، بعض الكفار دون بعض " ، وقد عم الله جل ثناؤه الخبر عنهم جميعهم ، وإذا دخل جميعهم في ذلك ، ثم لم يكن لجميعهم حالة آمنوا فيها ثم ارتدوا كافرين بعد إلا حالة واحدة ، كان معلوما أنها المرادة بذلك .
فتأويل الآية إذا : أولئك لهم عذاب عظيم في يوم تبيض وجوه قوم وتسود وجوه آخرين . فأما الذين اسودت وجوههم ، فيقال : أجحدتم توحيد الله وعهده وميثاقه الذي واثقتموه عليه ، بأن لا تشركوا به شيئا ، وتخلصوا له العبادة - بعد إيمانكم يعني : بعد تصديقكم به ؟ "
فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " ، يقول : بما كنتم تجحدون في الدنيا ما كان الله قد أخذ ميثاقكم بالإقرار به والتصديق "
وأما الذين ابيضت وجوههم " . ممن ثبت على عهد الله وميثاقه ، فلم يبدل دينه ، ولم ينقلب على عقبيه بعد الإقرار بالتوحيد ، والشهادة لربه بالألوهة ، وأنه لا إله غيره "
ففي رحمة الله " ، يقول : فهم في رحمة الله ، يعني : في جنته ونعيمها وما أعد الله لأهلها فيها "
هم فيها خالدون " ، أي : باقون فيها أبدا بغير نهاية ولا غاية .