القول في تأويل قوله تعالى (
ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور ( 109 ) )
قال
أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : أنه يعاقب الذين كفروا بعد إيمانهم بما ذكر أنه معاقبهم به من العذاب العظيم وتسويد الوجوه ، ويثيب أهل الإيمان به الذين ثبتوا على التصديق والوفاء بعهودهم التي عاهدوا عليها بما وصف أنه مثيبهم به من الخلود في جنانه ، من غير ظلم منه لأحد الفريقين فيما فعل ، لأنه لا حاجة به إلى الظلم . وذلك أن الظالم إنما يظلم غيره ليزداد إلى عزه عزة بظلمه إياه ، أو إلى سلطانه سلطانا ، أو إلى ملكه ملكا ، أو إلى نقصان في بعض أسبابه يتمم بها ظلم غيره فيه ما كان ناقصا من أسبابه عن التمام . فأما من كان له جميع ما بين أقطار المشارق والمغارب ، وما في الدنيا والآخرة ، فلا معنى لظلمه أحدا ، فيجوز أن يظلم شيئا ، لأنه ليس من أسبابه شيء ناقص يحتاج إلى تمام ، فيتم ذلك بظلم
[ ص: 99 ] غيره ، تعالى الله علوا كبيرا . ولذلك قال جل ثناؤه عقيب قوله : "
وما الله يريد ظلما للعالمين " ، "
ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور " .
واختلف أهل العربية في وجه تكرير الله تعالى ذكره اسمه مع قوله : "
وإلى الله ترجع الأمور " ظاهرا ، وقد تقدم اسمه ظاهرا مع قوله : "
ولله ما في السماوات وما في الأرض " .
فقال بعض أهل العربية من
أهل البصرة : ذلك نظير قول العرب : "أما زيد فذهب زيد " ، وكما قال الشاعر :
لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
فأظهر في موضع الإضمار .
وقال بعض نحويي
الكوفة : ليس ذلك نظير هذا البيت ، لأن موضع "الموت "
[ ص: 100 ] الثاني في البيت موضع كناية ، لأنه كلمة واحدة ، وليس ذلك كذلك في الآية ، لأن قوله : "
ولله ما في السماوات وما في الأرض " خبر ، ليس من قوله : "
وإلى الله ترجع الأمور " في شيء ، وذلك أن كل واحدة من القصتين مفارق معناها معنى الأخرى ، مكتفية كل واحدة منهما بنفسها ، غير محتاجة إلى الأخرى . وما قال الشاعر : "لا أرى الموت " ، محتاج إلى تمام الخبر عنه .
قال
أبو جعفر : وهذا القول الثاني عندنا أولى بالصواب ، لأن كتاب الله عز وجل لا توجه معانيه وما فيه من البيان ، إلى الشواذ من الكلام والمعاني ، وله في الفصيح من المنطق والظاهر من المعاني المفهوم ، وجه صحيح موجود .
وأما قوله : "
وإلى الله ترجع الأمور " فإنه يعني تعالى ذكره : إلى الله مصير أمر جميع خلقه ، الصالح منهم والطالح ، والمحسن والمسيء ، فيجازي كلا على قدر استحقاقهم منه الجزاء ، بغير ظلم منه أحدا منهم .