القول في تأويل قوله تعالى (
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم )
قال
أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ، وأقروا بما جاءهم به نبيهم من عند ربهم "
لا تتخذوا بطانة من دونكم " ، يقول : لا تتخذوا أولياء وأصدقاء لأنفسكم "
من دونكم " يقول : من دون أهل دينكم وملتكم ، يعني من غير المؤمنين .
وإنما جعل "البطانة " مثلا لخليل الرجل ، فشبهه بما ولي بطنه من ثيابه ، لحلوله منه - في اطلاعه على أسراره وما يطويه عن أباعده وكثير من أقاربه - محل ما ولي جسده من ثيابه .
فنهى الله المؤمنين به أن يتخذوا من الكفار به أخلاء وأصفياء ، ثم عرفهم ما هم عليه لهم منطوون من الغش والخيانة ، وبغيهم إياهم الغوائل ، فحذرهم بذلك منهم ومن
[ ص: 139 ] مخالتهم ، فقال تعالى ذكره : "
لا يألونكم خبالا " ، يعني لا يستطيعونكم شرا ، من "ألوت آلو ألوا " ، يقال : "ما ألا فلان كذا " ، أي : ما استطاع ، كما قال الشاعر :
جهراء لا تألو ، إذا هي أظهرت ، بصرا ، ولا من عيلة تغنيني
يعني : لا تستطيع عند الظهر إبصارا .
وإنما يعني جل ذكره بقوله : "
لا يألونكم خبالا " ، البطانة التي نهى المؤمنين
[ ص: 140 ] عن اتخاذها من دونهم ، فقال : إن هذه البطانة لا تترككم طاقتها خبالا أي لا تدع جهدها فيما أورثكم الخبال .
وأصل "الخبل " و"الخبال " ، الفساد ، ثم يستعمل في معان كثيرة ، يدل على ذلك الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم :
7679 - "
nindex.php?page=hadith&LINKID=810291من أصيب بخبل أو جراح " .
وأما قوله : "
ودوا ما عنتم " ، فإنه يعني : ودوا عنتكم ، يقول : يتمنون لكم العنت والشر في دينكم وما يسوءكم ولا يسركم .
وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين كانوا يخالطوهم حلفائهم من
اليهود وأهل النفاق منهم ، ويصافونهم المودة بالأسباب التي كانت بينهم في جاهليتهم قبل الإسلام ، فنهاهم الله عن ذلك وأن يستنصحوهم في شيء من أمورهم .
ذكر من قال ذلك :
[ ص: 141 ]
7680 - حدثنا
ابن حميد قال : حدثنا
سلمة ، عن
محمد بن إسحاق ، قال : قال
محمد بن أبي محمد ، عن
عكرمة ، أو عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس قال : كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من اليهود ، لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية ، فأنزل الله عز وجل فيهم ، ينهاهم عن مباطنتهم تخوف الفتنة عليهم منهم : "
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم " إلى قوله : "
وتؤمنون بالكتاب كله " .
7681 - حدثني
محمد بن عمرو قال : حدثنا
أبو عاصم قال : حدثنا
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قول الله عز وجل : "
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا " ، في المنافقين من أهل المدينة . نهى الله عز وجل المؤمنين أن يتولوهم .
7682 - حدثنا
بشر قال : حدثنا
يزيد قال : حدثنا
سعيد ، عن
قتادة ، قوله : "
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم " ، نهى الله عز وجل المؤمنين أن يستدخلوا المنافقين ، أو يؤاخوهم ، أو يتولوهم من دون المؤمنين .
7683 - حدثني
محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس ، قوله : "
لا تتخذوا بطانة من دونكم " ، هم المنافقون .
7684 - حدثت عن
عمار قال : حدثنا
ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
[ ص: 142 ] الربيع ، قوله : "
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا " ، يقول : لا تستدخلوا المنافقين ، تتولوهم دون المؤمنين .
7685 - حدثنا
أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا : حدثنا
هشيم قال : أخبرنا
العوام بن حوشب ، عن
الأزهر بن راشد ، عن
أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=810292لا تستضيئوا بنار أهل الشرك ، ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا قال : فلم ندر ما ذلك ، حتى أتوا
الحسن فسألوه ، فقال : نعم ، أما قوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=810293لا تنقشوا في خواتيمكم عربيا " ، فإنه يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=810294لا تنقشوا في خواتيمكم "محمد "; وأما قوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=811374ولا تستضيئوا بنار أهل الشرك " ، فإنه يعني به المشركين ، يقول : لا تستشيروهم في شيء من أموركم . قال : قال
الحسن : وتصديق ذلك في كتاب الله ، ثم تلا هذه الآية : "
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم " . .
[ ص: 143 ]
7686 - حدثنا
محمد بن الحسين قال : حدثنا
أحمد بن المفضل قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : "
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم " ، أما "البطانة " ، فهم المنافقون .
7687 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، قوله : "
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم " الآية ، قال : لا يستدخل المؤمن المنافق دون أخيه .
7688 - حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في قوله : "
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم " الآية ، قال : هؤلاء المنافقون . وقرأ قوله : "
قد بدت البغضاء من أفواههم " الآية .
قال
أبو جعفر : واختلفوا في تأويل قوله : "
ودوا ما عنتم " .
فقال بعضهم معناه : ودوا ما ضللتم عن دينكم .
ذكر من قال ذلك :
7689 - حدثنا
محمد بن الحسين قال : حدثنا
أحمد قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : "
ودوا ما عنتم " ، يقول : ما ضللتم .
وقال آخرون بما : -
[ ص: 144 ]
7690 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج : "
ودوا ما عنتم " ، يقول : في دينكم ، يعني : أنهم يودون أن تعنتوا في دينكم .
قال
أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : "
ودوا ما عنتم " ، فجاء بالخبر عن "البطانة " ، بلفظ الماضي في محل الحال ، والقطع بعد تمام الخبر ، والحالات لا تكون إلا بصور الأسماء والأفعال المستقبلة دون الماضية منها ؟ .
قيل : ليس الأمر في ذلك على ما ظننت من أن قوله : "
ودوا ما عنتم " حال من "البطانة " ، وإنما هو خبر عنهم ثان منقطع عن الأول غير متصل به . وإنما تأويل الكلام : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة صفتهم كذا ، صفتهم كذا . فالخبر عن الصفة الثانية غير متصل بالصفة الأولى ، وإن كانتا جميعا من صفة شخص واحد .
وقد زعم بعض أهل العربية أن قوله : "
ودوا ما عنتم " ، من صلة البطانة ، وقد وصلت بقوله : "
لا يألونكم خبالا " ، فلا وجه لصلة أخرى بعد تمام "البطانة " بصلته . ولكن القول في ذلك كما بينا قبل ، من أن قوله : "
ودوا ما عنتم " ، خبر مبتدأ عن "البطانة " ، غير الخبر الأول ، وغير حال من البطانة ولا قطع منها . .