[ ص: 145 ] القول في تأويل قوله تعالى (
قد بدت البغضاء من أفواههم )
قال
أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : قد بدت بغضاء هؤلاء الذين نهيتكم أيها المؤمنون ، أن تتخذوهم بطانة من دونكم لكم "
من أفواههم " ، يعني بألسنتهم . والذي بدا لهم منهم بألسنتهم ، إقامتهم على كفرهم ، وعداوتهم من خالف ما هم عليه مقيمون من الضلالة . فذلك من أوكد الأسباب في معاداتهم أهل الإيمان ، لأن ذلك عداوة على الدين ، والعداوة على الدين العداوة التي لا زوال لها إلا بانتقال أحد المتعاديين إلى ملة الآخر منهما ، وذلك انتقال من هدى إلى ضلالة كانت عند المنتقل إليها ضلالة قبل ذلك . فكان في إبدائهم ذلك للمؤمنين ، ومقامهم عليه ، أبين الدلالة لأهل الإيمان على ما هم عليه من البغضاء والعداوة .
وقد قال بعضهم : معنى قوله : "
قد بدت البغضاء من أفواههم " ، قد بدت بغضاؤهم لأهل الإيمان ، إلى أوليائهم من المنافقين وأهل الكفر ، بإطلاع بعضهم بعضا على ذلك . وزعم قائلو هذه المقالة أن الذين عنوا بهذه الآية أهل النفاق ، دون من كان مصرحا بالكفر من
اليهود وأهل الشرك .
ذكر من قال ذلك :
7691 - حدثنا
بشر قال : حدثنا
يزيد قال : حدثنا
سعيد عن
قتادة ، قوله : "
قد بدت البغضاء من أفواههم " ، يقول : قد بدت البغضاء من أفواه المنافقين إلى إخوانهم من الكفار ، من غشهم للإسلام وأهله ، وبغضهم إياهم .
7692 - حدثت عن
عمار قال : حدثنا
ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع : "
قد بدت البغضاء من أفواههم " ، يقول : من أفواه المنافقين .
وهذا القول الذي ذكرناه عن
قتادة ، قول لا معنى له . وذلك أن الله تعالى
[ ص: 146 ] ذكره إنما
نهى المؤمنين أن يتخذوا بطانة ممن قد عرفوه بالغش للإسلام وأهله والبغضاء ، إما بأدلة ظاهرة دالة على أن ذلك من صفتهم ، وإما بإظهار الموصوفين بذلك العداوة والشنآن والمناصبة لهم . فأما من لم يثبتوه معرفة أنه الذي نهاهم الله عز وجل عن مخالته ومباطنته ، فغير جائز أن يكونوا نهوا عن مخالته ومصادقته ، إلا بعد تعريفهم إياهم ، إما بأعيانهم وأسمائهم ، وإما بصفات قد عرفوهم بها .
وإذ كان ذلك كذلك وكان
إبداء المنافقين بألسنتهم ما في قلوبهم من بغضاء المؤمنين إلى إخوانهم من الكفار ، غير مدرك به المؤمنون معرفة ما هم عليه لهم ، مع إظهارهم الإيمان بألسنتهم لهم والتودد إليهم كان بينا أن الذي نهى الله المؤمنين عن اتخاذهم لأنفسهم بطانة دونهم ، هم الذين قد ظهرت لهم بغضاؤهم بألسنتهم ، على ما وصفهم الله عز وجل به ، فعرفهم المؤمنون بالصفة التي نعتهم الله بها ، وأنهم هم الذين وصفهم تعالى ذكره بأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون ، ممن كان له ذمة وعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أهل الكتاب . لأنهم لو كانوا المنافقين ، لكان الأمر فيهم على ما قد بينا . ولو كانوا الكفار ممن قد ناصب المؤمنين الحرب ، لم يكن المؤمنون متخذيهم لأنفسهم بطانة من دون المؤمنين ، مع اختلاف بلادهم وافتراق أمصارهم ، ولكنهم الذين كانوا بين أظهر المؤمنين من أهل الكتاب أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن كان له من رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وعقد من يهود
بني إسرائيل .
و"البغضاء " ، مصدر . وقد ذكر أنها في قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود : " قد بدا البغضاء من أفواههم " على وجه التذكير . وإنما جاز ذلك بالتذكير ولفظه لفظ المؤنث ، لأن المصادر تأنيثها ليس بالتأنيث اللازم ، فيجوز تذكير ما خرج منها
[ ص: 147 ] على لفظ المؤنث وتأنيثه ، كما قال عز وجل : (
وأخذ الذين ظلموا الصيحة ) [ سورة هود : 67 ] ، وكما قال : (
فقد جاءكم بينة من ربكم ) [ سورة الأنعام : 157 ] ، وفي موضع آخر : (
وأخذت الذين ظلموا الصيحة ) [ سورة هود : 94 ] ( "
وجاءتكم بينة من ربكم " ) [ سورة الأعراف : 73 ، 85 ]
وقال : "
من أفواههم " ، وإنما بدا ما بدا من البغضاء بألسنتهم ، لأن المعني به الكلام الذي ظهر للمؤمنين منهم من أفواههم ، فقال : "
قد بدت البغضاء من أفواههم " بألسنتهم .