القول في
تأويل قوله ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ( 135 ) )
قال
أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : "
والذين إذا فعلوا فاحشة " ، أن الجنة التي وصف صفتها أعدت للمتقين ، المنفقين في السراء والضراء ، والذين إذا فعلوا فاحشة . وجميع هذه النعوت من
صفة "المتقين " ، الذين قال تعالى ذكره : "
وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين " ، كما : -
7844 - حدثنا
الحسن بن يحيى قال : أخبرنا
عبد الرزاق قال : أخبرنا
جعفر بن سليمان ، عن
ثابت البناني قال : سمعت
الحسن قرأ هذه الآية : "الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين " ، ثم قرأ : "والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم " إلى "أجر العاملين " ، فقال : إن هذين النعتين لنعت رجل واحد .
7845 - حدثنا
ابن حميد قال : حدثنا
جرير ، عن
منصور ، عن
مجاهد : "والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم " ، قال : هذان ذنبان ، "الفاحشة " ، ذنب ، "وظلموا أنفسهم " ذنب .
[ ص: 218 ]
وأما "الفاحشة " ، فهي صفة لمتروك ، ومعنى الكلام : والذين إذا فعلوا فعلة فاحشة .
ومعنى "الفاحشة " ، الفعلة القبيحة الخارجة عما أذن الله عز وجل فيه .
وأصل "الفحش " : القبح ، والخروج عن الحد والمقدار في كل شيء . ومنه قيل للطويل المفرط الطول : "إنه لفاحش الطول " ، يراد به : قبيح الطول ، خارج عن المقدار المستحسن . ومنه قيل للكلام القبيح غير القصد : "كلام فاحش " ، وقيل للمتكلم به : "أفحش في كلامه " ، إذا نطق بفحش .
وقيل : إن "الفاحشة " في هذا الموضع ، معني بها الزنا .
ذكر من قال ذلك :
7846 - حدثنا
العباس بن عبد العظيم قال : حدثنا
حبان قال : حدثنا
حماد ، عن
ثابت ، عن
جابر : "والذين إذا فعلوا فاحشة " ، قال : زنى القوم ورب الكعبة .
7847 - حدثنا
محمد قال : حدثنا
أحمد قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : "
والذين إذا فعلوا فاحشة " ، أما "الفاحشة " ، فالزنا .
وقوله : "
أو ظلموا أنفسهم " ، يعني به : فعلوا بأنفسهم غير الذي كان ينبغي لهم أن يفعلوا بها . والذي فعلوا من ذلك ، ركوبهم من معصية الله ما أوجبوا لها به عقوبته ، كما : -
7848 - حدثنا
ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن
سفيان ، عن
منصور ، عن
إبراهيم ، قوله : "
والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم " ، قال : الظلم من الفاحشة ، والفاحشة من الظلم .
[ ص: 219 ]
وقوله : "ذكروا الله " ، يعني بذلك : ذكروا وعيد الله على ما أتوا من معصيتهم إياه "
فاستغفروا لذنوبهم " ، يقول : فسألوا ربهم أن يستر عليهم ذنوبهم بصفحه لهم عن العقوبة عليها "
ومن يغفر الذنوب إلا الله " ، يقول : وهل يغفر الذنوب - أي يعفو عن راكبها فيسترها عليه - إلا الله "
ولم يصروا على ما فعلوا " ، يقول : ولم يقيموا على ذنوبهم التي أتوها ، ومعصيتهم التي ركبوها "
وهم يعلمون " ، يقول : لم يقيموا على ذنوبهم عامدين للمقام عليها ، وهم يعلمون أن الله قد تقدم بالنهي عنها ، وأوعد عليها العقوبة من ركبها .
وذكر أن هذه الآية أنزلت خصوصا بتخفيفها ويسرها أمتنا ، مما كانت
بنو إسرائيل ممتحنة به من عظيم البلاء في ذنوبها .
7849 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16568عطاء بن أبى رباح :
أنهم قالوا : يا نبي الله ، بنو إسرائيل أكرم على الله منا! كانوا إذا أذنب أحدهم أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه : "اجدع أذنك " ، "اجدع أنفك " ، "افعل "! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين " إلى قوله : " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم " ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا أخبركم بخير من ذلك " ؟ فقرأ هؤلاء الآيات .
7850 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثني
عمر بن أبي خليفة العبدي قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16621علي بن زيد بن جدعان قال : قال
ابن مسعود : كانت
[ ص: 220 ] بنو إسرائيل إذا أذنبوا أصبح مكتوبا على بابه الذنب وكفارته ، فأعطينا خيرا من ذلك ، هذه الآية .
7851 - حدثنا
ابن حميد قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=11953يحيى بن واضح قال : حدثنا
جعفر بن سليمان ، عن
ثابت البناني قال : لما نزلت : "
ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه " ، بكى إبليس فزعا من هذه الآية .
7852 - حدثنا
الحسن بن يحيى قال : أخبرنا
عبد الرزاق قال : أخبرنا
جعفر بن سليمان عن
ثابت البناني قال : بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية : "
والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم " ، بكى .
7853 - حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12166محمد بن المثنى قال : حدثنا
محمد بن جعفر قال : حدثنا
شعبة قال : سمعت
عثمان مولى آل أبي عقيل الثقفي قال : سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=49علي بن ربيعة يحدث ، عن رجل من
فزارة يقال له أسماء - :
وابن أسماء - ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=810310عن علي قال : كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا نفعني الله بما شاء أن ينفعني [ منه ] ، فحدثني أبو بكر - وصدق أبو بكر - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما من عبد - قال شعبة : وأحسبه قال : مسلم - يذنب ذنبا ، ثم يتوضأ ، ثم يصلي ركعتين ، ثم يستغفر الله لذلك الذنب [ إلا غفر له ] وقال شعبة : وقرأ إحدى هاتين الآيتين : ( من يعمل سوءا يجز به ) ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ) .
[ ص: 221 ]
7854 - حدثنا
ابن وكيع قال : حدثنا أبي وحدثنا
الفضل بن إسحاق قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع عن
مسعر وسفيان ، عن
عثمان بن المغيرة الثقفي ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16619علي بن ربيعة الوالبي ، عن
أسماء بن الحكم الفزاري ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب قال : كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله بما شاء منه ، وإذا حدثني عنه غيره استحلفته ، فإذا حلف لي صدقته . وحدثني
أبو بكر ، وصدق
أبو بكر ، أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=810311ما من رجل يذنب ذنبا ثم يتوضأ ، ثم يصلي قال أحدهما : ركعتين ، وقال الآخر : "ثم يصلي ويستغفر الله ، إلا غفر له " . [ ص: 222 ]
7855 - حدثنا
الزبير بن بكار قال : حدثني
سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أخيه ، عن جده ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=3501773عن nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب أنه قال : ما حدثني أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سألته أن يقسم لي بالله لهو سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أبا بكر ، فإنه كان لا يكذب . قال علي رضي الله عنه : فحدثني أبو بكر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما من عبد يذنب ذنبا ثم يقوم عند ذكر ذنبه فيتوضأ ، ثم يصلي ركعتين ، ويستغفر الله من ذنبه ذلك ، إلا غفره الله له .
وأما قوله "
ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم " ، فإنه كما بينا تأويله .
وبنحو ذلك كان أهل التأويل يقولون :
7856 - حدثنا
ابن حميد قال : حدثنا
سلمة قال : حدثنا
ابن إسحاق : "
والذين إذا فعلوا فاحشة " ، أي إن أتوا فاحشة "أو ظلموا أنفسهم " بمعصية ،
[ ص: 223 ] ذكروا نهي الله عنها ، وما حرم الله عليهم ، فاستغفروا لها ، وعرفوا أنه لا يغفر الذنوب إلا هو .
وأما قوله : "
ومن يغفر الذنوب إلا الله " ، فإن اسم "الله " مرفوع ولا جحد قبله ، وإنما يرفع ما بعد "إلا " بإتباعه ما قبله إذا كان نكرة ومعه جحد ، كقول القائل : "ما في الدار أحد إلا أخوك " . فأما إذا قيل : "قام القوم إلا أباك " ، فإن وجه الكلام في "الأب " النصب . و "من " بصلته في قوله : "
ومن يغفر الذنوب إلا الله " ، معرفة . فإن ذلك إنما جاء رفعا ، لأن معنى الكلام : وهل يغفر الذنوب أحد أو : ما يغفر الذنوب أحد إلا الله . فرفع ما بعد "إلا " من [ اسم ] الله ، على تأويل الكلام لا على لفظه .
وأما قوله : " ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون "; فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويل "الإصرار " ، ومعنى هذه الكلمة .
فقال بعضهم : معنى ذلك : لم يثبتوا على ما أتوا من الذنوب ولم يقيموا عليه ، ولكنهم تابوا واستغفروا ، كما وصفهم الله به .
ذكر من قال ذلك :
7857 - حدثنا
بشر قال : حدثنا
يزيد قال : حدثنا
سعيد ، عن
قتادة قوله : "
ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون " ، فإياكم والإصرار ، فإنما هلك المصرون ، الماضون قدما ، لا تنهاهم مخافة الله عن حرام حرمه الله عليهم ، ولا يتوبون من ذنب أصابوه ، حتى أتاهم الموت وهم على ذلك .
[ ص: 224 ]
7858 - حدثنا
الحسن بن يحيى قال : أخبرنا
عبد الرزاق قال : أخبرنا
معمر ، عن
قتادة في قوله : "
ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون " ؟ قال : قدما قدما في معاصي الله!! لا تنهاهم مخافة الله ، حتى جاءهم أمر الله .
7859 - حدثنا
ابن حميد قال : حدثنا
سلمة ، عن
ابن إسحاق : "
ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون " ، أي : لم يقيموا على معصيتي ، كفعل من أشرك بي ، فيما عملوا به من كفر بي .
وقال آخرون : معنى ذلك : لم يواقعوا الذنب إذا هموا به .
ذكر من قال ذلك :
7860 - حدثنا
الحسن بن يحيى قال : أخبرنا
عبد الرزاق قال : أخبرنا
معمر ، عن
الحسن في قوله : "
ولم يصروا على ما فعلوا " ، قال : إتيان العبد ذنبا إصرار ، حتى يتوب .
7861 - حدثني
محمد بن عمرو قال : حدثنا
أبو عاصم ، عن
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قول الله عز وجل : "
ولم يصروا على ما فعلوا " ، قال : لم يواقعوا .
وقال آخرون : معنى "الإصرار " ، السكوت على الذنب وترك الاستغفار .
ذكر من قال ذلك :
7862 - حدثنا
محمد بن الحسين قال : حدثنا
أحمد بن المفضل قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : "
ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون " ، أما "يصروا " فيسكتوا ولا يستغفروا .
[ ص: 225 ]
قال
أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندنا ، قول من قال : "الإصرار " ، الإقامة على الذنب عامدا ، وترك التوبة منه . ولا معنى لقول من قال : "الإصرار على الذنب هو مواقعته " ، لأن الله عز وجل مدح بترك
الإصرار على الذنب مواقع الذنب ، فقال : "
والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون " ، ولو كان المواقع الذنب مصرا بمواقعته إياه ، لم يكن للاستغفار وجه مفهوم . لأن الاستغفار من الذنب إنما هو التوبة منه والندم ، ولا يعرف للاستغفار من ذنب لم يواقعه صاحبه ، وجه .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=810312ما أصر من استغفر ، وإن عاد في اليوم سبعين مرة " .
7863 - حدثني بذلك
الحسين بن يزيد السبيعي قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12194عبد الحميد الحماني ، عن
عثمان بن واقد ، عن
أبي نصيرة ، عن مولى لأبي بكر ، عن
أبي بكر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 226 ]
فلو كان مواقع الذنب مصرا ، لم يكن لقوله
nindex.php?page=hadith&LINKID=810312 "ما أصر من استغفر ، وإن عاد في اليوم سبعين مرة " ، معنى لأن مواقعة الذنب إذا كانت هي الإصرار ، فلا يزيل الاسم الذي لزمه معنى غيره ، كما لا يزيل عن الزاني اسم "زان " وعن القاتل اسم "قاتل " ، توبته منه ، ولا معنى غيرها . وقد أبان هذا الخبر أن المستغفر من ذنبه غير مصر عليه ، فمعلوم بذلك أن "الإصرار " غير المواقعة ، وأنه المقام عليه ، على ما قلنا قبل .
واختلف أهل التأويل ، في تأويل قوله : "
وهم يعلمون " .
فقال بعضهم : معناه : وهم يعلمون أنهم قد أذنبوا .
ذكر من قال ذلك :
7864 - حدثنا
محمد بن الحسين قال : حدثنا
أحمد بن المفضل قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : أما "وهم يعلمون " ، فيعلمون أنهم قد أذنبوا ، ثم أقاموا فلم يستغفروا .
وقال آخرون : معنى ذلك : وهم يعلمون أن الذي أتوا معصية لله .
ذكر من قال ذلك :
7865 - حدثنا
ابن حميد قال : حدثنا
سلمة ، عن
ابن إسحاق : "وهم يعلمون " ، قال : يعلمون ما حرمت عليهم من عبادة غيري .
قال
أبو جعفر : وقد تقدم بياننا أولى ذلك بالصواب .
[ ص: 227 ]