[ ص: 418 ] القول في تأويل قول الله : (
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون ( 28 )
هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ( 29 ) )
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك :
فقال بعضهم بما :
576 - حدثني به
موسى بن هارون ، قال : حدثنا
عمرو بن حماد ، قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي في خبر ذكره ، عن
أبي مالك ، وعن
أبي صالح ، عن
ابن عباس ، وعن
مرة ، عن
ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : "
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " يقول : لم تكونوا شيئا فخلقكم ، ثم يميتكم ، ثم يحييكم يوم القيامة .
577 - حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15573محمد بن بشار ، قال : حدثنا
عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا
سفيان ، عن
أبي إسحاق ، عن
أبي الأحوص ، عن
عبد الله في قوله : (
أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ) [ سورة غافر : 11 ] ، قال : هي كالتي في البقرة : "
كنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم "
578 - حدثني
أبو حصين عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن يونس ، قال : حدثنا
عبثر ، قال : حدثنا
حصين ، عن
أبي مالك ، في قوله : "
أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " قال : خلقتنا ولم نكن شيئا ، ثم أمتنا ، ثم أحييتنا .
579 - حدثني
يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا
هشيم ، عن
حصين ، عن
أبي مالك ، في قوله : "
أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " قال : كانوا أمواتا فأحياهم الله ، ثم أماتهم ، ثم أحياهم .
[ ص: 419 ]
580 - حدثنا
القاسم ، قال : حدثنا
الحسين بن داود ، قال : حدثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
مجاهد في قوله : "
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " قال : لم تكونوا شيئا حين خلقكم ، ثم يميتكم الموتة الحق ، ثم يحييكم . وقوله : "
أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " مثلها .
581 - حدثنا
القاسم ، قال : حدثنا
الحسين ، قال : حدثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، قال : حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=16566عطاء الخراساني ، عن
ابن عباس ، قال : هو قوله : "
أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين "
582 - حدثت عن
عمار بن الحسن ، قال : حدثنا
عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع ، قال : حدثني
أبو العالية ، في قول الله : "
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا " يقول : حين لم يكونوا شيئا ، ثم أحياهم حين خلقهم ، ثم أماتهم ، ثم أحياهم يوم القيامة ، ثم رجعوا إليه بعد الحياة .
583 - حدثت عن
المنجاب ، قال : حدثنا
بشر بن عمارة ، عن
أبي روق ، عن
الضحاك ، عن
ابن عباس ، في قوله : "
أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " قال : كنتم ترابا قبل أن يخلقكم ، فهذه ميتة ، ثم أحياكم فخلقكم ، فهذه إحياءة . ثم يميتكم فترجعون إلى القبور ، فهذه ميتة أخرى . ثم يبعثكم يوم القيامة ، فهذه إحياءة . فهما ميتتان وحياتان ، فهو قوله : "
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون "
وقال آخرون بما :
584 - حدثنا به
أبو كريب ، قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع ، عن
سفيان ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي ، عن
أبي صالح : "
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون " قال : يحييكم في القبر ، ثم يميتكم .
وقال آخرون بما :
585 - حدثنا به
بشر بن معاذ قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17360يزيد بن زريع ، عن
سعيد ،
[ ص: 420 ] عن
قتادة ، قوله : "
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا " الآية . قال : كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم ، فأحياهم الله وخلقهم ، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها ، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة ، فهما حياتان وموتتان .
وقال بعضهم بما :
586 - حدثني به
يونس ، قال : أنبأنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد ، في قول الله تعالى : "
ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " قال : خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق ، وقرأ : (
وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) ، حتى بلغ : (
أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) [ سورة الأعراف : 172 - 173 ] . قال : فكسبهم العقل وأخذ عليهم الميثاق . قال : وانتزع ضلعا من أضلاع آدم القصيرى فخلق منه حواء ، ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال : وذلك قول الله تعالى : (
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ) [ سورة النساء : 1 ] ، قال : وبث منهما بعد ذلك في الأرحام خلقا كثيرا ، وقرأ : (
يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق ) [ سورة الزمر : 6 ] ، قال : خلقا بعد ذلك . قال : فلما أخذ عليهم الميثاق أماتهم ، ثم خلقهم في الأرحام ، ثم أماتهم ، ثم أحياهم يوم القيامة ، فذلك قول الله : (
قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا ) ،
[ ص: 421 ] وقرأ قول الله : (
وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ) [ سورة الأحزاب : 7 ] . قال : يومئذ . قال : وقرأ قول الله : (
واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا ) [ سورة المائدة : 7 ] .
قال
أبو جعفر : ولكل قول من هذه الأقوال التي حكيناها عمن رويناها عنه ، وجه ومذهب من التأويل .
فأما وجه تأويل من تأول قوله : "
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم " أي لم تكونوا شيئا ، فإنه ذهب إلى نحو قول العرب للشيء الدارس والأمر الخامل الذكر : هذا شيء ميت ، وهذا أمر ميت - يراد بوصفه بالموت : خمول ذكره ، ودروس أثره من الناس . وكذلك يقال في ضد ذلك وخلافه : هذا أمر حي ، وذكر حي - يراد بوصفه بذلك أنه نابه متعالم في الناس ، كما قال
أبو نخيلة السعدي : فأحييت لي ذكري ، وما كنت خاملا ولكن بعض الذكر أنبه من بعض
يريد بقوله : " فأحييت لي ذكري " أي : رفعته وشهرته في الناس حتى نبه فصار مذكورا حيا ، بعد أن كان خاملا ميتا . فكذلك تأويل قول من قال في قوله : "
وكنتم أمواتا " لم تكونوا شيئا ، أي كنتم خمولا لا ذكر لكم ، وذلك كان موتكم فأحياكم ، فجعلكم بشرا أحياء تذكرون وتعرفون ، ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم ، كالذي كنتم قبل أن يحييكم ، من دروس ذكركم ، وتعفي آثاركم ، وخمول أموركم ، ثم يحييكم بإعادة أجسامكم إلى هيئاتها ، ونفخ الروح فيها ،
[ ص: 422 ] وتصييركم بشرا كالذي كنتم قبل الإماتة ، تتعارفون في بعثكم وعند حشركم .
وأما وجه تأويل من تأول ذلك : أنه الإماتة التي هي خروج الروح من الجسد ، فإنه ينبغي أن يكون ذهب بقوله "
وكنتم أمواتا " إلى أنه خطاب لأهل القبور بعد إحيائهم في قبورهم . وذلك معنى بعيد ، لأن التوبيخ هنالك إنما هو توبيخ على ما سلف وفرط من إجرامهم ، لا استعتاب واسترجاع . وقوله جل ذكره : "
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا " توبيخ مستعتب عباده ، وتأنيب مسترجع خلقه من المعاصي إلى الطاعة ، ومن الضلالة إلى الإنابة ، ولا إنابة في القبور بعد الممات ، ولا توبة فيها بعد الوفاة .
وأما وجه تأويل قول
قتادة ذلك : أنهم كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم . فإنه عنى بذلك أنهم كانوا نطفا لا أرواح فيها ، فكانت بمعنى سائر الأشياء الموات التي لا أرواح فيها . وإحياؤه إياها تعالى ذكره ، نفخه الأرواح فيها ، وإماتته إياهم بعد ذلك ، قبضه أرواحهم . وإحياؤه إياهم بعد ذلك ، نفخ الأرواح في أجسامهم يوم ينفخ في الصور ، ويبعث الخلق للموعود .
وأما
ابن زيد ، فقد أبان عن نفسه ما قصد بتأويله ذلك ، وأن الإماتة الأولى عند إعادة الله جل ثناؤه عباده في أصلاب آبائهم ، بعد ما أخذهم من صلب
آدم ، وأن الإحياء الآخر هو نفخ الأرواح فيهم في بطون أمهاتهم ، وأن الإماتة الثانية هي قبض أرواحهم للعود إلى التراب ، والمصير في البرزخ إلى يوم
[ ص: 423 ] البعث ، وأن الإحياء الثالث هو نفخ الأرواح فيهم لبعث الساعة ونشر القيامة .
وهذا تأويل إذا تدبره المتدبر وجده خلافا لظاهر قول الله الذي زعم مفسره أن الذي وصفنا من قوله تفسيره . وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه - عن الذين أخبر عنهم من خلقه - أنهم قالوا : "
ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " وزعم
ابن زيد في تفسيره أن الله أحياهم ثلاث إحياءات ، وأماتهم ثلاث إماتات . والأمر عندنا - وإن كان فيما وصف من استخراج الله جل ذكره من صلب آدم ذريته ، وأخذه ميثاقه عليهم كما وصف ، فليس ذلك من تأويل هاتين الآيتين - أعني قوله : "
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا " الآية ، وقوله : "
ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " - في شيء . لأن أحدا لم يدع أن الله أمات من ذرأ يومئذ غير الإماتة التي صار بها في البرزخ إلى يوم البعث ، فيكون جائزا أن يوجه تأويل الآية إلى ما وجهه إليه
ابن زيد .
وقال بعضهم : الموتة الأولى مفارقة نطفة الرجل جسده إلى رحم المرأة ، فهي ميتة من لدن فراقها جسده إلى نفخ الروح فيها . ثم يحييها الله بنفخ الروح فيها فيجعلها بشرا سويا بعد تارات تأتي عليها . ثم يميته الميتة الثانية بقبض الروح منه ، فهو في البرزخ ميت إلى يوم ينفخ في الصور ، فيرد في جسده روحه ، فيعود حيا سويا لبعث القيامة . فذلك موتتان وحياتان . وإنما دعا هؤلاء إلى هذا القول ، لأنهم قالوا : موت ذي الروح مفارقة الروح إياه . فزعموا أن كل شيء من ابن آدم حي
[ ص: 424 ] ما لم يفارق جسده الحي ذا الروح ، فكل ما فارق جسده الحي ذا الروح ، فارقته الحياة فصار ميتا . كالعضو من أعضائه - مثل اليد من يديه والرجل من رجليه - لو قطعت فأبينت ، والمقطوع ذلك منه حي ، كان الذي بان من جسده ميتا لا روح فيه بفراقه سائر جسده الذي فيه الروح . قالوا : فكذلك نطفته حية بحياته ما لم تفارق جسده ذا الروح ، فإذا فارقته مباينة له صارت ميتة نظير ما وصفنا من حكم اليد والرجل وسائر أعضائه . وهذا قول ووجه من التأويل ، لو كان به قائل من أهل القدوة الذين يرتضى للقرآن تأويلهم .
وأولى ما ذكرنا - من الأقوال التي بينا - بتأويل قول الله جل ذكره : "
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم " الآية ، القول الذي ذكرناه عن
ابن مسعود وعن
ابن عباس : من أن معنى قوله : "
وكنتم أمواتا " أموات الذكر ، خمولا في أصلاب آبائكم نطفا ، لا تعرفون ولا تذكرون : فأحياكم بإنشائكم بشرا سويا حتى ذكرتم وعرفتم وحييتم ، ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم رفاتا لا تعرفون ولا تذكرون في البرزخ إلى يوم تبعثون ، ثم يحييكم بعد ذلك بنفخ الأرواح فيكم لبعث الساعة وصيحة القيامة ، ثم إلى الله ترجعون بعد ذلك ، كما قال : "
ثم إليه ترجعون " لأن الله جل ثناؤه يحييهم في قبورهم قبل حشرهم ، ثم يحشرهم لموقف الحساب ، كما قال جل ذكره : (
يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون ) [ سورة المعارج : 43 ] وقال : (
ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون ) [ سورة يس : 51 ] . والعلة التي من أجلها اخترنا هذا التأويل ، ما قد قدمنا ذكره للقائلين به ، وفساد ما خالفه بما قد أوضحناه قبل .
وهذه الآية توبيخ من الله جل ثناؤه للقائلين : "
آمنا بالله وباليوم الآخر " الذين أخبر الله عنهم أنهم مع قيلهم ذلك بأفواههم ، غير مؤمنين به . وأنهم إنما يقولون ذلك خداعا لله وللمؤمنين ، فعذلهم الله بقوله : "
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم " ووبخهم واحتج عليهم - في نكيرهم ما أنكروا من ذلك وجحودهم ما جحدوا بقلوبهم المريضة - فقال : كيف تكفرون بالله فتجحدون قدرته على إحيائكم بعد إماتتكم ، [ لبعث القيامة ، ومجازاة المسيء منكم بالإساءة والمحسن
[ ص: 425 ] بالإحسان ، وقد كنتم نطفا أمواتا في أصلاب آبائكم ، فأنشأكم خلقا سويا ، وجعلكم أحياء ، ثم أماتكم بعد إنشائكم . فقد علمتم أن من فعل ذلك بقدرته ، غير معجزه - بالقدرة التي فعل ذلك بكم - إحياؤكم بعد إماتتكم ] وإعادتكم بعد إفنائكم ، وحشركم إليه لمجازاتكم بأعمالكم .
ثم عدد ربنا تعالى ذكره عليهم وعلى أوليائهم من أحبار اليهود - الذين جمع بين قصصهم وقصص المنافقين في كثير من آي هذه السورة التي افتتح الخبر عنهم فيها بقوله : "
إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون "نعمه التي سلفت منه إليهم وإلى آبائهم ، التي عظمت منهم مواقعها . ثم سلب كثيرا منهم كثيرا منها ، بما ركبوا من الآثام ، واجترموا من الأجرام ، وخالفوا من الطاعة إلى المعصية ، محذرهم بذلك تعجيل العقوبة لهم ، كالتي عجلها للأسلاف والأفراط قبلهم ، ومخوفهم حلول مثلاته بساحتهم كالذي أحل بأوليهم ، ومعرفهم ما لهم من النجاة في سرعة الأوبة إليه ، وتعجيل التوبة ، من الخلاص لهم يوم القيامة من العقاب .
فبدأ بعد تعديده عليهم ما عدد من نعمه التي هم فيها مقيمون ، بذكر أبينا وأبيهم
آدم أبي البشر صلوات الله عليه ، وما سلف منه من كرامته إليه ، وآلائه لديه ، وما أحل به وبعدوه إبليس من عاجل عقوبته بمعصيتهما التي كانت منهما ، ومخالفتهما أمره الذي أمرهما به . وما كان من تغمده آدم برحمته إذ تاب وأناب إليه . وما كان من إحلاله بإبليس من لعنته في العاجل ، وإعداده له ما أعد له من العذاب المقيم في الآجل ، إذ استكبر وأبى التوبة إليه والإنابة ، منبها لهم على حكمه
[ ص: 426 ] في المنيبين إليه بالتوبة ، وقضائه في المستكبرين عن الإنابة ، إعذارا من الله بذلك إليهم ، وإنذارا لهم ، ليتدبروا آياته وليتذكر منهم أولو الألباب . وخاصا أهل الكتاب - بما ذكر من قصص
آدم وسائر القصص التي ذكرها معها وبعدها ، مما علمه أهل الكتاب وجهلته الأمة الأمية من مشركي عبدة الأوثان - بالاحتجاج عليهم - دون غيرهم من سائر أصناف الأمم ، الذين لا علم عندهم بذلك - لنبيه
محمد صلى الله عليه وسلم ، ليعلموا بإخباره إياهم بذلك ، أنه لله رسول مبعوث ، وأن ما جاءهم به فمن عنده ، إذ كان ما اقتص عليهم من هذه القصص ، من مكنون علومهم ، ومصون ما في كتبهم ، وخفي أمورهم التي لم يكن يدعي معرفة علمها غيرهم وغير من أخذ عنهم وقرأ كتبهم .
وكان معلوما من
محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن قط كاتبا ، ولا لأسفارهم تاليا ، ولا لأحد منهم مصاحبا ولا مجالسا ، فيمكنهم أن يدعوا أنه أخذ ذلك من كتبهم أو عن بعضهم ، فقال جل ذكره - في تعديده عليهم ما هم فيه مقيمون من نعمه ، مع كفرهم به ، وتركهم شكره عليها بما يجب له عليهم من طاعته : (
هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم ) [ سورة البقرة : 29 ] . فأخبرهم جل ذكره أنه خلق لهم ما في الأرض جميعا ، لأن
الأرض وجميع ما فيها لبني آدم منافع . أما في الدين ، فدليل على وحدانية ربهم ، وأما في الدنيا فمعاش وبلاغ لهم إلى طاعته وأداء فرائضه .
فلذلك قال جل ذكره : "
هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا "
[ ص: 427 ]
وقوله : " هو " مكني من اسم الله جل ذكره عائد على اسمه في قوله : "
كيف تكفرون بالله " ومعنى خلقه ما خلق جل ثناؤه ، إنشاؤه عينه ، وإخراجه من حال العدم إلى الوجود . و " ما " بمعنى " الذي "
فمعنى الكلام إذا : كيف تكفرون بالله وكنتم نطفا في أصلاب آبائكم فجعلكم بشرا أحياء ، ثم يميتكم ، ثم هو محييكم بعد ذلك وباعثكم يوم الحشر للثواب والعقاب ، وهو المنعم عليكم بما خلق لكم في الأرض من معايشكم وأدلتكم على وحدانية ربكم .
و " كيف " بمعنى التعجب والتوبيخ ، لا بمعنى الاستفهام ، كأنه قال : ويحكم كيف تكفرون بالله ، كما قال : (
فأين تذهبون ) [ سورة التكوير : 26 ] . وحل قوله : "
وكنتم أمواتا فأحياكم " محل الحال . وفيه ضمير " قد " ولكنها حذفت لما في الكلام من الدليل عليها . وذلك أن " فعل " إذا حلت محل الحال كان معلوما أنها مقتضية " قد " كما قال جل ثناؤه : (
أو جاءوكم حصرت صدورهم ) [ سورة النساء : 90 ] ، بمعنى : قد حصرت صدورهم . وكما تقول للرجل : أصبحت كثرت ماشيتك ، تريد : قد كثرت ماشيتك .
وبنحو الذي قلنا في قوله : "
هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا " كان قتادة يقول :
587 - حدثنا
بشر بن معاذ ، قال : حدثنا
يزيد ، عن
سعيد ، عن
قتادة ، قوله : "
هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا " نعم والله سخر لكم ما في الأرض .