[ ص: 94 ] القول في
تأويل أسماء القرآن وسوره وآيه
قال
أبو جعفر : إن الله تعالى ذكره سمى تنزيله الذي أنزله على عبده
محمد صلى الله عليه وسلم أسماء أربعة :
منهن : "القرآن " ، فقال في تسميته إياه بذلك في تنزيله : (
نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين ) [ سورة يوسف : 3 ] ، وقال : (
إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ) [ سورة النمل : 76 ] .
ومنهن : "الفرقان" ، قال جل ثناؤه في وحيه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم يسميه بذلك : (
تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ) [ سورة الفرقان : 1 .
ومنهن : "الكتاب" : قال تبارك اسمه في تسميته إياه به : (
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما ) [ سورة الكهف : 1 ] .
ومنهن : "الذكر" ، قال تعالى ذكره في تسميته إياه به : (
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) [ سورة الحجر : 9 ] .
ولكل اسم من أسمائه الأربعة في كلام
العرب ، معنى ووجه غير معنى الآخر ووجهه .
فأما "القرآن" ، فإن المفسرين اختلفوا في تأويله . والواجب أن يكون تأويله على قول
ابن عباس : من التلاوة والقراءة ، وأن يكون مصدرا من قول القائل :
[ ص: 95 ] قرأت ، كقولك "الخسران" من "خسرت" ، و "الغفران" من "غفر الله لك" ، و "الكفران" من "كفرتك" ، "والفرقان" من "فرق الله بين الحق والباطل " .
117 - وذلك أن
nindex.php?page=showalam&ids=17324يحيى بن عثمان بن صالح السهمي حدثني ، قال : حدثنا
عبد الله بن صالح ، قال : حدثني
معاوية بن صالح ، عن
علي بن أبي طلحة ، عن
ابن عباس في قوله : (
فإذا قرأناه ) يقول : بيناه ، (
فاتبع قرآنه ) [ سورة القيامة : 18 ] يقول : اعمل به .
ومعنى قول
ابن عباس هذا : فإذا بيناه بالقراءة ، فاعمل بما بيناه لك بالقراءة . ومما يوضح صحة ما قلنا في تأويل حديث
ابن عباس هذا ، ما : -
118 - حدثني به
محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11عبد الله بن عباس : (
إن علينا جمعه وقرآنه ) [ سورة القيامة : 17 ] قال : أن نقرئك فلا تنسى (
فإذا قرأناه ) عليك (
فاتبع قرآنه ) يقول : إذا تلي عليك فاتبع ما فيه .
قال
أبو جعفر : فقد صرح هذا الخبر عن
ابن عباس : أن معنى "القرآن " عنده القراءة ، فإنه مصدر من قول القائل : قرأت ، على ما بيناه .
وأما على قول
قتادة ، فإن الواجب أن يكون مصدرا ، من قول القائل : قرأت الشيء ، إذا جمعته وضممت بعضه إلى بعض ، كقولك : "ما قرأت هذه الناقة سلى قط" تريد بذلك أنها لم تضمم رحما على ولد ، كما قال
عمرو بن كلثوم التغلبي :
[ ص: 96 ] تريك - إذا دخلت على خلاء ، وقد أمنت عيون الكاشحينا - ذراعي عيطل أدماء بكر ،
هجان اللون ، لم تقرأ جنينا
يعني بقوله : "لم تقرأ جنينا " ، لم تضمم رحما على ولد .
119 - وذلك أن
بشر بن معاذ العقدي حدثنا قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17360يزيد بن زريع قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12514سعيد بن أبي عروبة ، عن
قتادة في قوله تعالى : (
إن علينا جمعه وقرآنه ) يقول : حفظه وتأليفه ، (
فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ) اتبع حلاله ، واجتنب حرامه .
120 - حدثنا
محمد بن عبد الأعلى الصنعاني ، قال : حدثنا
محمد بن ثور ، قال : حدثنا
معمر ، عن
قتادة بمثله .
فرأي
قتادة أن تأويل "القرآن" : التأليف .
قال
أبو جعفر : ولكلا القولين - أعني قول
ابن عباس وقول
قتادة - اللذين حكيناهما ، وجه صحيح في كلام
العرب . غير أن أولى قوليهما بتأويل قول الله تعالى : (
إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ( قول ابن عباس . لأن الله جل ثناؤه أمر نبيه في غير آية من تنزيله باتباع ما أوحى إليه ، ولم يرخص له في ترك اتباع شيء من أمره إلى وقت تأليفه القرآن له . فكذلك قوله : (
فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ) نظير سائر ما في آي القرآن التي أمره الله فيها باتباع ما أوحى إليه في تنزيله .
[ ص: 97 ]
ولو وجب أن يكون معنى قوله : (
فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ) فإذا ألفناه فاتبع ما ألفنا لك فيه : لوجب أن لا يكون كان لزمه فرض ) اقرأ باسم ربك الذي خلق ( ولا فرض ) يا أيها المدثر قم فأنذر ( [ سورة المدثر : 1 ، 2 قبل أن يؤلف إلى ذلك غيره من القرآن . وذلك ، إن قاله قائل ، خروج من قول أهل الملة .
وإذ صح أن حكم كل آية من آي القرآن كان لازما النبي صلى الله عليه وسلم اتباعه والعمل به ، مؤلفة كانت إلى غيرها أو غير مؤلفة - صح ما قال
ابن عباس في تأويل قوله : (
فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ) أنه يعني به : فإذا بيناه لك بقراءتنا ، فاتبع ما بيناه لك بقراءتنا - دون قول من قال : معناه ، فإذا ألفناه فاتبع ما ألفناه .
وقد قيل إن قول الشاعر :
ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
يعني به قائله : تسبيحا وقراءة .
فإن قال قائل : وكيف يجوز أن يسمى "قرآنا " بمعنى القراءة ، وإنما هو مقروء ؟
قيل : كما جاز أن يسمى المكتوب "كتابا" ، بمعنى : كتاب الكاتب ، كما قال الشاعر في صفة كتاب طلاق كتبه لامرأته :
تؤمل رجعة مني ، وفيها كتاب مثل ما لصق الغراء
[ ص: 98 ]
يريد : طلاقا مكتوبا ، فجعل "المكتوب" كتابا .
وأما تأويل اسمه الذي هو "فرقان" ، فإن تفسير أهل التفسير جاء في ذلك بألفاظ مختلفة ، هي في المعاني مؤتلفة .
121 - فقال
عكرمة ، فيما حدثنا به
ابن حميد ، قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15738حكام بن سلم ، عن
عنبسة ، عن
جابر ، عن
عكرمة : أنه كان يقول : هو النجاة .
وكذلك كان
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي يتأوله .
122 - حدثنا بذلك
محمد بن الحسين ، قال : حدثنا
أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي - وهو قول جماعة غيرهما .
وكان
ابن عباس يقول : "الفرقان " : المخرج .
123 - حدثني بذلك
يحيى بن عثمان بن صالح ، قال : حدثنا
عبد الله بن صالح ، عن
معاوية بن صالح ، عن
علي بن أبي طلحة ، عن
ابن عباس .
وكذلك كان
مجاهد يقول في تأويله بذلك .
124 - حدثنا بذلك
ابن حميد ، قال : حدثنا
حكام ، عن
عنبسة ، عن
جابر ، عن مجاهد .
وكان
مجاهد يقول في قول الله عز وجل : (
يوم الفرقان ) [ سورة الأنفال : 41 ] يوم فرق الله فيه بين الحق والباطل .
125 - حدثني بذلك
محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثني
أبو عاصم عن
عيسى بن ميمون ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد .
وكل هذه التأويلات في معنى "الفرقان " - على اختلاف ألفاظها - متقاربات المعاني . وذلك أن من جعل له مخرج من أمر كان فيه ، فقد جعل
[ ص: 99 ] له ذلك المخرج منه نجاة . وكذلك إذا نجي منه ، فقد نصر على من بغاه فيه سوءا ، وفرق بينه وبين باغيه السوء .
فجميع ما روينا - عمن روينا عنه - في معنى "الفرقان" ، قول صحيح المعاني ، لاتفاق معاني ألفاظهم في ذلك .
وأصل "الفرقان " عندنا : الفرق بين الشيئين والفصل بينهما . وقد يكون ذلك بقضاء ، واستنقاذ ، وإظهار حجة ، ونصر وغير ذلك من المعاني المفرقة بين المحق والمبطل . فقد تبين بذلك أن القرآن سمي "فرقانا " ، لفصله - بحججه وأدلته وحدود فرائضه وسائر معاني حكمه - بين المحق والمبطل . وفرقانه بينهما : بنصره المحق ، وتخذيله المبطل ، حكما وقضاء .
وأما تأويل اسمه الذي هو "كتاب " : فهو مصدر من قولك "كتبت كتابا " كما تقول : قمت قياما ، وحسبت الشيء حسابا . والكتاب : هو خط الكاتب حروف المعجم مجموعة ومفترقة . وسمي "كتابا " ، وإنما هو مكتوب ، كما قال الشاعر في البيت الذي استشهدنا به :
وفيها كتاب مثل ما لصق الغراء
يعني به مكتوبا .
وأما تأويل اسمه الذي هو "ذكر " ، فإنه محتمل معنيين : أحدهما : أنه ذكر من الله جل ذكره ، ذكر به عباده ، فعرفهم فيه حدوده وفرائضه ، وسائر ما أودعه من حكمه . والآخر : أنه ذكر وشرف وفخر لمن آمن به وصدق بما فيه ، كما قال جل ثناؤه : (
وإنه لذكر لك ولقومك ) [ سورة الزخرف : 44 ] ، يعني به أنه شرف له ولقومه .
[ ص: 100 ]
ثم
لسور القرآن أسماء سماها بها رسول الله صلى الله عليه وسلم :
126 - حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15573محمد بن بشار ، قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=14724أبو داود الطيالسي ، قال : حدثنا
أبو العوام - وحدثني
محمد بن خلف العسقلاني ، قال : حدثنا
رواد بن الجراح ، قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15991سعيد بن بشير ، جميعا - عن
قتادة ، عن
أبي المليح ، عن
واثلة بن الأسقع :
nindex.php?page=hadith&LINKID=810025أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أعطيت مكان التوراة السبع الطول ، وأعطيت مكان الزبور المئين ، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني ، وفضلت بالمفصل .
127 - حدثني
يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية ، عن
خالد الحذاء ، عن
أبي قلابة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=810026أعطيت السبع الطول مكان التوراة ، وأعطيت المثاني مكان الزبور ، وأعطيت المئين مكان الإنجيل ، وفضلت بالمفصل . قال
خالد : كانوا يسمون المفصل : العربي . قال
خالد : قال بعضهم : ليس في العربي سجدة .
[ ص: 101 ]
128 - وحدثنا
محمد بن حميد ، قال حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15738حكام بن سلم ، عن
عمرو بن أبي قيس ، عن
عاصم ، عن
المسيب ، عن
ابن مسعود قال : الطول كالتوراة ، والمئون كالإنجيل ، والمثاني كالزبور ، وسائر القرآن بعد فضل على الكتب .
129 - حدثني
أبو عبيد الوصابي ، قال : حدثنا
محمد بن حفص ، قال : أنبأنا
أبو حميد ، حدثنا
الفزاري ، عن
ليث بن أبي سليم ، عن
أبي بردة ، عن
أبي المليح ، عن
واثلة بن الأسقع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=811237قال أعطاني ربي مكان التوراة السبع الطول ، ومكان الإنجيل المثاني ، ومكان الزبور المئين ، وفضلني ربي بالمفصل .
قال
أبو جعفر : والسبع الطول : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ،
[ ص: 102 ]
والأنعام ، والأعراف ،
ويونس ، في قول
سعيد بن جبير .
130 - حدثني بذلك
يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا
هشيم ، عن
أبي بشر ، عن
سعيد بن جبير .
وقد روي عن
ابن عباس قول يدل على موافقته قول
سعيد هذا .
131 - وذلك ما حدثنا به
nindex.php?page=showalam&ids=15573محمد بن بشار ، قال : حدثنا
ابن أبي عدي ، ويحيى بن سعيد ، ومحمد بن جعفر ، وسهل بن يوسف ، قالوا : حدثنا
عوف ، قال : حدثني
يزيد الفارسي ، قال : حدثني
nindex.php?page=hadith&LINKID=810027ابن عباس : قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال ، وهي من المثاني ، وإلى براءة وهي من المئين ، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطرا : "بسم الله الرحمن الرحيم " ، ووضعتموهما في السبع الطول ؟ ما حملكم على ذلك ؟ قال عثمان : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد ، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا ببعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا . وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة بقصتها ، فظننت أنها منها . فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها ، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ، ولم أكتب بينهما سطر : "بسم الله الرحمن الرحيم " ، ووضعتهما في السبع الطول " .
فهذا الخبر ينبئ عن
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان بن عفان رحمة الله عليه ، أنه لم يكن تبين له أن
[ ص: 103 ] الأنفال وبراءة من السبع الطول ، ويصرح عن
ابن عباس أنه لم يكن يرى ذلك منها .
وإنما سميت هذه السور السبع الطول ، لطولها على سائر سور القرآن .
وأما "المئون : فهي ما كان من سور القرآن عدد آيه مائة آية ، أو تزيد عليها شيئا أو تنقص منها شيئا يسيرا .
وأما "المثاني : فإنها ما ثنى المئين فتلاها ، وكان المئون لها أوائل ، وكان المثاني لها ثواني . وقد قيل : إن المثاني سميت مثاني ، لتثنية الله جل ذكره فيها الأمثال والخبر والعبر ، وهو قول
ابن عباس .
132 - حدثنا بذلك
أبو كريب ، قال : حدثنا
ابن يمان ، عن
سفيان ، عن
عبد الله بن عثمان ، عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس .
وروي عن
سعيد بن جبير ، أنه كان يقول : إنما سميت مثاني لأنها ثنيت فيها الفرائض والحدود .
133 - حدثنا بذلك
nindex.php?page=showalam&ids=15573محمد بن بشار ، قال : حدثنا
محمد بن جعفر ، قال : حدثنا
شعبة ، عن
أبي بشر ، عن
سعيد بن جبير .
وقد قال جماعة يكثر تعدادهم : القرآن كله مثان .
وقال جماعة أخرى : بل المثاني فاتحة الكتاب ، لأنها تثنى قراءتها في كل صلاة .
وسنذكر أسماء قائلي ذلك وعللهم ، والصواب من القول فيما اختلفوا فيه من ذلك ، إذا انتهينا إلى تأويل قوله تعالى : (
ولقد آتيناك سبعا من المثاني ) [ سورة الحجر : 87 ] إن شاء الله ذلك .
وبمثل ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسماء سور القرآن التي ذكرت ، جاء شعر الشعراء . فقال بعضهم :
[ ص: 104 ] حلفت بالسبع اللواتي طولت وبمئين بعدها قد أمئيت
وبمثان ثنيت فكررت وبالطواسين التي قد ثلثت
وبالحواميم اللواتي سبعت وبالمفصل اللواتي فصلت
قال
أبو جعفر رحمة الله عليه : وهذه الأبيات تدل على صحة التأويل الذي تأولناه في هذه الأسماء .
وأما "المفصل " : فإنها سميت مفصلا لكثرة الفصول التي بين سورها ب "بسم الله الرحمن الرحيم " .
قال
أبو جعفر : ثم تسمى كل سورة من سور القرآن "سورة " ، وتجمع سورا " ، على تقدير "خطبة وخطب " ، "وغرفة وغرف " .
والسورة ، بغير همز : المنزلة من منازل الارتفاع . ومن ذلك سور المدينة ، سمي بذلك الحائط الذي يحويها ، لارتفاعه على ما يحويه . غير أن السورة من سور المدينة لم يسمع في جمعها "سور" ، كما سمع في جمع سورة من القرآن "سور" . قال
العجاج في جمع السورة من البناء :
فرب ذي سرادق محجور سرت إليه في أعالي السور
فخرج تقدير جمعها على تقدير جمع برة وبسرة ، لأن ذلك يجمع برا وبسرا . وكذلك لم يسمع في جمع سورة من القرآن سور ، ولو جمعت كذلك لم يكن خطأ في القياس ، إذا أريد به جميع القرآن . وإنما تركوا - فيما نرى - جمعه كذلك ، لأن كل جمع كان بلفظ الواحد المذكر مثل : بر وشعير وقصب وما أشبه ذلك ، فإن
[ ص: 105 ] جماعه يجري مجرى الواحد من الأشياء غيره . لأن حكم الواحد منه منفردا قلما يصاب ، فجرى جماعه مجرى الواحد من الأشياء غيره ثم جعلت الواحدة منه كالقطعة من جميعه ، فقيل : برة وشعيرة وقصبة ، يراد به قطعة منه . ولم تكن سور القرآن موجودة مجتمعة اجتماع البر والشعير وسور المدينة ، بل كل سورة منها موجودة منفردة بنفسها ، انفراد كل غرفة من الغرف وخطبة من الخطب ، فجعل جمعها جمع الغرف والخطب ، المبني جمعها من واحدها .
ومن الدلالة على أن معنى السورة المنزلة من الارتفاع ، قول نابغة بني ذبيان :
ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب
يعني بذلك : أن الله أعطاه منزلة من منازل الشرف التي قصرت عنها منازل الملوك .
وقد همز بعضهم السورة من القرآن . وتأويلها ، في لغة من همزها ، القطعة التي قد أفضلت من القرآن عما سواها وأبقيت . وذلك أن سؤر كل شيء : البقية منه تبقى بعد الذي يؤخذ منه ، ولذلك سميت الفضلة من شراب الرجل - يشربه ثم يفضلها فيبقيها في الإناء - سؤرا . ومن ذلك قول
أعشى بني ثعلبة ، يصف امرأة فارقته فأبقت في قلبه من وجدها بقية :
فبانت وقد أسأرت في الفؤاد صدعا على نأيها مستطيرا
[ ص: 106 ]
وقال
الأعشى في مثل ذلك :
بانت ، وقد أسأرت في النفس حاجتها ، بعد ائتلاف; وخير الود ما نفعا
وأما الآية من آي القرآن ، فإنها تحتمل وجهين في كلام
العرب :
أحدهما : أن تكون سميت آية ، لأنها علامة يعرف بها تمام ما قبلها وابتداؤها ، كالآية التي تكون دلالة على الشيء يستدل بها عليه ، كقول الشاعر :
ألكني إليها عمرك الله يا فتى بآية ما جاءت إلينا تهاديا
يعني : بعلامة ذلك . ومنه قوله جل ذكره : (
ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك ) [ سورة المائدة : 114 ] أي علامة منك لإجابتك دعاءنا وإعطائك إيانا سؤلنا .
والآخر منهما : القصة ، كما قال
كعب بن زهير بن أبي سلمى :
ألا أبلغا هذا المعرض آية : أيقظان قال القول إذ قال أم حلم
يعني بقوله "آية " : رسالة مني وخبرا عني .
فيكون معنى الآيات : القصص ، قصة تتلو قصة ، بفصول ووصول .