القول في
تأويل قوله ( وما كان لنبي أن يغل )
اختلفت القرأة في قراءة ذلك .
فقرأته جماعة من قرأة
الحجاز والعراق : (
وما كان لنبي أن يغل ) ، بمعنى : أن يخون أصحابه فيما أفاء الله عليهم من أموال أعدائهم . واحتج بعض قارئي هذه القراءة : أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قطيفة فقدت من مغانم القوم يوم
بدر ، فقال بعض من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم : "لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها!" ، ورووا في ذلك روايات ، فمنها ما : -
8136 - حدثنا به
nindex.php?page=showalam&ids=12461محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال : حدثنا
عبد الواحد بن زياد قال : حدثنا
خصيف قال : حدثنا
مقسم قال : حدثني
ابن عباس : أن هذه الآية :
nindex.php?page=hadith&LINKID=811387 " وما كان لنبي أن يغل " ، نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر ، قال : فقال بعض الناس : أخذها! قال : فأكثروا في ذلك ، فأنزل الله عز وجل : "وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة" .
8137 - حدثنا
ابن أبي الشوارب قال : حدثنا
عبد الواحد قال : حدثنا
[ ص: 349 ] خصيف قال : سألت
سعيد بن جبير : كيف تقرأ هذه الآية : "
وما كان لنبي أن يغل " أو : "يغل"؟ قال : لا بل"يغل" ، فقد كان النبي والله يغل ويقتل .
8138 - حدثني
إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال : حدثنا
عتاب بن بشير ، عن
خصيف ، عن
مقسم ، عن
ابن عباس :
nindex.php?page=hadith&LINKID=811388 " وما كان لنبي أن يغل " ، قال : كان ذلك في قطيفة حمراء فقدت في غزوة بدر ، فقال أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : "فلعل النبي أخذها"! فأنزل الله عز وجل : " وما كان لنبي أن يغل " [ قال
سعيد : بلى والله ، إن النبي ليغل ويقتل ] .
8139 - حدثنا
أبو كريب قال : حدثنا
خلاد ، عن
زهير ، عن
خصيف ، عن
عكرمة ، عن
ابن عباس قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=810319كانت قطيفة فقدت يوم بدر ، فقالوا : "أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم!" . فأنزل الله عز وجل : " وما كان لنبي أن يغل " . [ ص: 350 ]
8140 - حدثنا
أبو كريب قال : حدثنا
مالك بن إسماعيل قال : حدثنا
زهير قال : حدثنا
خصيف ، عن
سعيد بن جبير وعكرمة في قوله : "وما كان لنبي أن يغل" ، قالا يغل قال قال
عكرمة أو غيره ، عن
ابن عباس ، قال
nindex.php?page=hadith&LINKID=810320كانت قطيفة فقدت يوم بدر ، فقالوا : أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم"! قال : فأنزل الله هذه الآية : " وما كان لنبي أن يغل " .
8141 - حدثنا
مجاهد بن موسى قال : حدثنا
يزيد ، قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16827قزعة بن سويد الباهلي ، عن
حميد الأعرج ، عن
سعيد بن جبير قال : نزلت هذه الآية : "
وما كان لنبي أن يغل " ، في قطيفة حمراء فقدت يوم
بدر من الغنيمة .
8142 - حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17206نصر بن علي الجهضمي قال : حدثنا
معتمر ، عن أبيه ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13726سليمان الأعمش قال : كان
ابن مسعود يقرأ : ( وما كان لنبي أن يغل ) ، فقال
ابن عباس : بلى ، ويقتل قال : فذكر
ابن عباس أنه إنما كانت في قطيفة قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم غلها ، يوم
بدر . فأنزل الله : "
وما كان لنبي أن يغل " .
وقال آخرون ممن قرأ ذلك كذلك ، بفتح"الياء" وضم"الغين" : إنما نزلت هذه الآية في طلائع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وجههم في وجه ، ثم غنم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقسم للطلائع ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية على نبيه صلى الله عليه وسلم ، يعلمه فيها أن فعله الذي فعله خطأ ، وأن الواجب عليه في الحكم أن يقسم للطلائع مثل ما قسم لغيرهم ، ويعرفه الواجب عليه من الحكم فيما
[ ص: 351 ] أفاء الله عليه من الغنائم ، وأنه ليس له أن يخص بشيء منها أحدا ممن شهد الوقعة - أو ممن كان ردءا لهم في غزوهم - دون أحد .
ذكر من قال ذلك :
8143 - حدثني
محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس ، قوله : "
وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة " ، يقول : ما كان للنبي أن يقسم لطائفة من المسلمين ويترك طائفة ويجور في القسم ، ولكن يقسم بالعدل ، ويأخذ فيه بأمر الله ، ويحكم فيه بما أنزل الله . يقول : ما كان الله ليجعل نبيا يغل من أصحابه ، فإذا فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم استنوا به .
8144 - حدثنا
يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا
هشيم ، عن
جويبر ، عن
الضحاك : أنه كان يقرأ : "
ما كان لنبي أن يغل " ، قال : أن يعطي بعضا ، ويترك بعضا ، إذا أصاب مغنما .
8145 - حدثنا
ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن
سلمة بن نبيط ، عن
الضحاك قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم طلائع ، فغنم النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يقسم للطلائع ، فأنزل الله عز وجل : "
وما كان لنبي أن يغل " .
8146 - حدثت عن
الحسين قال : سمعت
أبا معاذ قال : أخبرنا
عبيد بن سليمان ، عن
الضحاك : "ما كان لنبي أن يغل " ، يقول : ما كان لنبي أن يقسم لطائفة من أصحابه ويترك طائفة ، ولكن يعدل ويأخذ في ذلك بأمر الله عز وجل ، ويحكم فيه بما أنزل الله .
8147 - حدثني
يحيى بن أبي طالب قال : أخبرنا
يزيد قال : أخبرنا
[ ص: 352 ] جويبر ، عن
الضحاك في قوله : "
وما كان لنبي أن يغل " ، قال : ما كان له إذا أصاب مغنما أن يقسم لبعض أصحابه ويدع بعضا ، ولكن يقسم بينهم بالسوية .
وقال آخرون ممن قرأ ذلك بفتح"الياء" وضم"الغين" : إنما أنزل ذلك تعريفا للناس أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يكتم من وحي الله شيئا .
ذكر من قال ذلك :
8148 - حدثنا
ابن حميد قال : حدثنا
سلمة ، عن
ابن إسحاق : "
وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون " ، أي : ما كان لنبي أن يكتم الناس ما بعثه الله به إليهم عن رهبة من الناس ولا رغبة ، ومن يعمل ذلك يأت به يوم القيامة .
قال
أبو جعفر : فتأويل قراءة من قرأ ذلك كذلك : ما ينبغي لنبي أن يكون غالا - بمعنى أنه ليس من أفعال الأنبياء خيانة أممهم .
يقال منه : "غل الرجل فهو يغل" ، إذا خان ، "غلولا" . ويقال أيضا منه : "أغل الرجل فهو يغل إغلالا" ، كما قال
شريح : "
ليس على المستعير غير المغل ضمان " ، يعني : غير الخائن . ويقال منه : "أغل الجازر" ، إذا سرق من اللحم شيئا مع الجلد .
وبما قلنا في ذلك جاء تأويل أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
8149 - حدثنا
محمد بن الحسين قال : حدثنا
أحمد بن المفضل قال : حدثنا
[ ص: 353 ] أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : "
وما كان لنبي أن يغل " ، يقول : ما كان ينبغي له أن يخون ، فكما لا ينبغي له أن يخون فلا تخونوا .
8150 - حدثني
محمد بن عمرو قال : حدثنا
أبو عاصم قال : حدثنا
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قوله : "
وما كان لنبي أن يغل " ، قال : أن يخون .
وقرأ ذلك آخرون : (
وما كان لنبي أن يغل ) بضم"الياء" وفتح"الغين" ، وهي قراءة عظم قرأة أهل
المدينة والكوفة .
واختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله .
فقال بعضهم : معناه : ما كان لنبي أن يغله أصحابه ، ثم أسقط"الأصحاب" ، فبقي الفعل غير مسمى فاعله . وتأويله : وما كان لنبي أن يخان .
ذكر من قال ذلك :
8151 - حدثني
يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا
هشيم قال : أخبرنا
عوف ، عن
الحسن أنه كان يقرأ : "وما كان لنبي أن يغل" قال عوف ، قال الحسن : أن يخان .
8152 - حدثنا
بشر قال : حدثنا
يزيد قال : حدثنا
سعيد ، عن
قتادة قوله : "وما كان لنبي أن يغل" ، يقول : وما كان لنبي أن يغله أصحابه الذين معه من المؤمنين - ذكر لنا أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم
بدر ، وقد غل طوائف من أصحابه .
8153 - حدثنا
الحسن بن يحيى قال : أخبرنا
عبد الرزاق قال : أخبرنا
معمر ، عن
قتادة ، في قوله : "
وما كان لنبي أن يغل " ، قال : أن يغله أصحابه .
8154 - حدثت عن
عمار قال : حدثنا
ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
[ ص: 354 ] الربيع ، قوله : "
وما كان لنبي أن يغل " ، قال
الربيع بن أنس ، يقول : ما كان لنبي أن يغله أصحابه الذين معه - قال : ذكر لنا ، والله أعلم : أن هذه الآية أنزلت على نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم
بدر ، وقد غل طوائف من أصحابه .
وقال آخرون منهم : معنى ذلك : وما كان لنبي أن يتهم بالغلول فيخون ويسرق . وكأن متأولي ذلك كذلك ، وجهوا قوله : "
وما كان لنبي أن يغل " إلى أنه مراد به : "يغلل" ، ثم خففت"العين" من"يفعل" ، فصارت"يفعل" كما قرأ من قرأ قوله : (
فإنهم لا يكذبونك ) [ سورة الأنعام : 33 ] بتأول : يكذبونك .
قال
أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي ، قراءة من قرأ : (
وما كان لنبي أن يغل ) بمعنى :
ما الغلول من صفات الأنبياء ، ولا يكون نبيا من غل .
وإنما اخترنا ذلك ، لأن الله عز وجل أوعد عقيب قوله : "
وما كان لنبي أن يغل " أهل الغلول فقال : "
ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة " ، الآية والتي بعدها . فكان في وعيده عقيب ذلك أهل الغلول ، الدليل الواضح على أنه إنما نهى بذلك عن الغلول ، وأخبر عباده أن الغلول ليس من صفات أنبيائه بقوله : "
وما كان لنبي أن يغل " . لأنه لو كان إنما نهى بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغلول ، لعقب ذلك بالوعيد على التهمة وسوء الظن برسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا بالوعيد على الغلول . وفي تعقيبه ذلك بالوعيد على الغلول ، بيان بين ، أنه إنما عرف المؤمنين وغيرهم من عباده أن الغلول منتف من صفة الأنبياء وأخلاقهم ، لأن ذلك جرم عظيم ، والأنبياء لا تأتي مثله .
[ ص: 355 ]
فإن قال قائل ممن قرأ ذلك كذلك : فأولى منه"وما كان لنبي أن يخونه أصحابه" ، إن كان ذلك كما ذكرت ، ولم يعقب الله قوله : "وما كان لنبي أن يغل" إلا بالوعيد على الغلول ، ولكنه إنما وجب الحكم بالصحة لقراءة من قرأ : "يغل" بضم"الياء" وفتح"الغين" ، لأن معنى ذلك : وما كان للنبي أن يغله أصحابه ، فيخونوه في الغنائم؟
قيل له : أفكان لهم أن يغلوا غير النبي صلى الله عليه وسلم فيخونوه ، حتى خصوا بالنهي عن خيانة النبي صلى الله عليه وسلم؟
فإن قالوا : "نعم" ، خرجوا من قول أهل الإسلام . لأن الله لم يبح خيانة أحد في قول أحد من أهل الإسلام قط .
وإن قال قائل : لم يكن ذلك لهم في نبي ولا غيره .
قيل : فما وجه خصوصهم إذا بالنهي عن خيانة النبي صلى الله عليه وسلم ، وغلوله وغلول بعض اليهود بمنزلة فيما حرم الله على الغال من أموالهما ، وما يلزم المؤتمن من أداء الأمانة إليهما؟
وإذا كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن معنى ذلك هو ما قلنا ، من أن الله عز وجل نفى بذلك أن يكون الغلول والخيانة من صفات أنبيائه ، ناهيا بذلك عباده عن الغلول ، وآمرا لهم بالاستنان بمنهاج نبيهم ، كما قال
ابن عباس في الرواية التي ذكرناها من رواية عطية ، ثم عقب تعالى ذكره نهيهم عن الغلول بالوعيد عليه فقال : "ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة" ، الآيتين معا .