[ ص: 7 ] القول في تأويل قوله (
فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا )
قال
أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : "
فما لكم في المنافقين فئتين " ، فما شأنكم ، أيها المؤمنون ، في أهل النفاق فئتين مختلفتين "
والله أركسهم بما كسبوا " ، يعني بذلك : والله ردهم إلى أحكام أهل الشرك ، في إباحة دمائهم وسبي ذراريهم .
و" الإركاس " ، الرد ، ومنه قول
أمية بن أبي الصلت :
فأركسوا في حميم النار ، إنهم كانوا عصاة وقالوا الإفك والزورا
يقال منه : "أركسهم" و "ركسهم" .
وقد ذكر أنها في قراءة
عبد الله وأبي : ( والله ركسهم ) ، بغير "ألف" .
[ ص: 8 ]
واختلف أهل التأويل في الذين نزلت فيهم هذه الآية .
فقال بعضهم : نزلت في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وانصرفوا إلى
المدينة ، وقالوا لرسول الله عليه السلام ولأصحابه : (
لو نعلم قتالا لاتبعناكم ) [ سورة آل عمران : 167 ] .
ذكر من قال ذلك :
10049 - حدثني
الفضل بن زياد الواسطي قال : حدثنا
أبو داود ، عن
شعبة ، عن
عدي بن ثابت قال : سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=16474عبد الله بن يزيد الأنصاري يحدث ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=47زيد بن ثابت :
nindex.php?page=hadith&LINKID=811406أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى أحد ، رجعت طائفة ممن كان معه ، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين ، فرقة تقول : "نقتلهم" ، وفرقة تقول : "لا" . فنزلت هذه الآية : " فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا " الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة : إنها طيبة ، وإنها تنفي خبثها كما تنفي النار خبث الفضة .
10050 - حدثنا
أبو كريب قال : حدثنا
أبو أسامة قال : حدثنا
شعبة ، عن
عدي بن ثابت ، عن
عبد الله بن يزيد ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=47زيد بن ثابت قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه .
10051 - حدثني
زريق بن السخت قال : حدثنا
شبابة ، عن
عدي بن ثابت ، عن
عبد الله بن يزيد ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=47زيد بن ثابت قال : ذكروا المنافقين عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال فريق : "نقتلهم" ، وقال فريق : "لا نقتلهم" . فأنزل
[ ص: 9 ] الله تبارك وتعالى : "
فما لكم في المنافقين فئتين " إلى آخر الآية
وقال آخرون : بل نزلت في اختلاف كان بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا قدموا
المدينة من
مكة ، فأظهروا للمسلمين أنهم مسلمون ، ثم رجعوا إلى
مكة وأظهروا لهم الشرك .
ذكر من قال ذلك :
10052 - حدثنا
محمد بن عمرو قال : حدثنا
أبو عاصم ، عن
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد : "
فما لكم في المنافقين فئتين " ، قال : قوم خرجوا من
مكة حتى أتوا
المدينة يزعمون أنهم مهاجرون ، ثم ارتدوا بعد ذلك ، فاستأذنوا
[ ص: 10 ] النبي صلى الله عليه وسلم إلى
مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها . فاختلف فيهم المؤمنون ، فقائل يقول : "هم منافقون" ، وقائل يقول : "هم مؤمنون" . فبين الله نفاقهم فأمر بقتالهم ، فجاءوا ببضائعهم يريدون
المدينة ، فلقيهم
علي بن عويمر ، أو :
هلال بن عويمر الأسلمي ، وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم حلف وهو الذي حصر صدره أن يقاتل المؤمنين أو يقاتل قومه ، فدفع عنهم بأنهم يؤمون
هلالا وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد .
10053 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
أبو حذيفة قال : حدثنا
شبل ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، مثله بنحوه غير أنه قال : فبين الله نفاقهم ، وأمر بقتالهم ، فلم يقاتلوا يومئذ ، فجاءوا ببضائعهم يريدون
هلال بن عويمر الأسلمي ، وبينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف .
وقال آخرون : بل كان اختلافهم في قوم من أهل الشرك كانوا أظهروا الإسلام
بمكة ، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين .
ذكر من قال ذلك :
10054 - حدثني
محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس قوله : "
فما لكم في المنافقين فئتين " ، وذلك أن قوما كانوا
بمكة قد تكلموا بالإسلام ، وكانوا يظاهرون المشركين ، فخرجوا من
مكة يطلبون حاجة لهم ، فقالوا : إن لقينا أصحاب
محمد "عليه السلام" فليس علينا منهم بأس! وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من
مكة ، قالت فئة من
[ ص: 11 ] المؤمنين : اركبوا إلى الخبثاء فاقتلوهم ، فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم! وقالت فئة أخرى من المؤمنين : سبحان الله _ أو كما قالوا _ أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به؟ أمن أجل أنهم لم يهاجروا ويتركوا ديارهم ، تستحل دماؤهم وأموالهم لذلك! فكانوا كذلك فئتين ، والرسول عليه السلام عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء ، فنزلت : "
فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله " ، الآية .
10055 - حدثنا
بشر بن معاذ قال : حدثنا
يزيد قال : حدثنا
سعيد ، عن
قتادة قوله : "
فما لكم في المنافقين فئتين " الآية ، ذكر لنا أنهما كانا رجلين من
قريش كانا مع المشركين
بمكة ، وكانا قد تكلما بالإسلام ولم يهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلقيهما ناس من أصحاب نبي الله وهما مقبلان إلى
مكة ، فقال بعضهم : إن دماءهما وأموالهما حلال! وقال بعضهم : لا يحل لكم! فتشاجروا فيهما ، فأنزل الله في ذلك : "
فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا " حتى بلغ"
ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم " .
10056 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
أبو سفيان ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17124معمر بن راشد قال : بلغني أن ناسا من
أهل مكة كتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد أسلموا ، وكان ذلك منهم كذبا ، فلقوهم ، فاختلف فيهم المسلمون ، فقالت طائفة : دماؤهم حلال! وقالت طائفة : دماؤهم حرام! فأنزل الله : "
فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا " .
10057 - حدثت عن
الحسين بن الفرج قال : سمعت
أبا معاذ يقول ، أخبرنا
عبيد بن سليمان قال : سمعت
الضحاك يقول في قوله : "
فما لكم في المنافقين فئتين ، هم ناس تخلفوا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وأقاموا
بمكة وأعلنوا الإيمان ولم يهاجروا ، فاختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتولاهم ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتبرأ من ولايتهم آخرون ،
[ ص: 12 ] وقالوا : تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهاجروا! فسماهم الله منافقين ، وبرأ المؤمنين من ولايتهم ، وأمرهم أن لا يتولوهم حتى يهاجروا .
وقال آخرون : بل كان اختلافهم في قوم كانوا
بالمدينة ، أرادوا الخروج عنها نفاقا .
ذكر من قال ذلك :
10058 - حدثنا
محمد بن الحسين قال : حدثنا
أحمد بن مفضل قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : "
فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا " ، قال : كان ناس من المنافقين أرادوا أن يخرجوا من
المدينة ، فقالوا للمؤمنين : إنا قد أصابنا أوجاع في
المدينة واتخمناها ، فلعلنا أن نخرج إلى الظهر حتى نتماثل ثم نرجع ، فإنا كنا أصحاب برية . فانطلقوا ، واختلف فيهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت طائفة : أعداء لله منافقون! وددنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا فقاتلناهم! وقالت طائفة : لا ، بل إخواننا غمتهم
المدينة فاتخموها ،
[ ص: 13 ] فخرجوا إلى الظهر يتنزهون ، فإذا برءوا رجعوا . فقال الله : "
فما لكم في المنافقين فئتين " ، يقول : ما لكم تكونون فيهم فئتين "
والله أركسهم بما كسبوا " .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر أهل الإفك .
ذكر من قال ذلك :
10059 - حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في قوله : "
فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا " ، حتى بلغ"
فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله " ، قال : هذا في شأن
ابن أبي حين تكلم في
عائشة بما تكلم .
10060 - وحدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد : إن هذه الآية حين أنزلت : "
فما لكم في المنافقين فئتين " ، فقرأ حتى بلغ"
فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله " ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=307سعد بن معاذ : فإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من فئته ! يريد
عبد الله بن أبي ، ابن سلول .
قال
أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك ، قول من قال : نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا ارتدوا عن الإسلام بعد إسلامهم من
أهل مكة .
[ ص: 14 ]
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن اختلاف أهل التأويل في ذلك إنما هو على قولين : أحدهما : أنهم قوم كانوا من
أهل مكة ، على ما قد ذكرنا الرواية عنهم .
والآخر : أنهم قوم كانوا من
أهل المدينة .
وفي قول الله تعالى ذكره : "
فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا " ، أوضح الدليل على أنهم كانوا من غير
أهل المدينة . لأن الهجرة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى داره ومدينته من سائر أرض الكفر . فأما من كان
بالمدينة في دار الهجرة مقيما من المنافقين وأهل الشرك ، فلم يكن عليه فرض هجرة ، لأنه في دار الهجرة كان وطنه ومقامه .
واختلف أهل العربية في نصب قوله : "فئتين" .
فقال بعضهم : هو منصوب على الحال ، كما تقول : "ما لك قائما" ، يعني : ما لك في حال القيام . وهذا قول بعض
البصريين .
وقال بعض نحويي
الكوفيين : هو منصوب على فعل "ما لك" ، قال : ولا تبال أكان المنصوب في "ما لك" معرفة أو نكرة . قال : ويجوز في الكلام أن تقول : "ما لك السائر معنا" لأنه كالفعل الذي ينصب ب "كان" و "أظن" وما أشبههما . قال : وكل موضع صلحت فيه "فعل" و "يفعل" من المنصوب ، جاز نصب المعرفة منه والنكرة ، كما تنصب "كان" و "أظن" لأنهن نواقص في المعنى ، وإن ظننت أنهن تامات .
[ ص: 15 ]
وهذا القول أولى بالصواب في ذلك ، لأن المطلوب في قول القائل : "ما لك قائما" ، "القيام" ، فهو في مذهب "كان" وأخواتها ، و "أظن" وصواحباتها .