القول في تأويل قوله (
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا )
قال
أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : "
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ " ، وما أذن الله لمؤمن ولا أباح له أن يقتل مؤمنا . يقول : ما كان ذلك له فيما جعل له ربه وأذن له فيه من الأشياء البتة ، كما : -
10088 - حدثنا
بشر بن معاذ قال : حدثنا
يزيد قال : حدثنا
سعيد ، عن
قتادة قوله : "
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ " ، يقول : ما كان له ذلك فيما أتاه من ربه ، من عهد الله الذي عهد إليه .
وأما قوله : "إلا خطأ" ، فإنه يقول : إلا أن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ ،
[ ص: 31 ] وليس له مما جعل له ربه فأباحه له . وهذا من الاستثناء الذي يسميه أهل العربية "الاستثناء المنقطع" ، كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=15626جرير بن عطية :
من البيض ، لم تظعن بعيدا ، ولم تطأ على الأرض إلا ريط برد مرحل
يعني : ولم تطأ على الأرض إلا أن تطأ ذيل البرد ، وليس ذيل البرد من الأرض .
ثم أخبر جل ثناؤه عباده بحكم
من قتل من المؤمنين خطأ ، فقال :
ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير يقول : فعليه تحرير
رقبة مؤمنة في ماله
ودية مسلمة تؤديها عاقلته
إلى أهله إلا أن يصدقوا يقول : إلا أن يصدق أهل القتيل خطأ على من لزمته دية قتيلهم ، فيعفوا عنه ويتجاوزوا عن ذنبه ، فيسقط عنه .
وموضع "أن" من قوله :
إلا أن يصدقوا نصب ، لأن معناه : فعليه ذلك إلا أن يصدقوا .
[ ص: 32 ]
وذكر أن هذه الآية نزلت في
عياش بن أبي ربيعة المخزومي ، وكان قد قتل رجلا مسلما بعد إسلامه ، وهو لا يعلم بإسلامه .
ذكر الآثار بذلك :
10089 - حدثني
محمد بن عمرو قال : حدثنا
أبو عاصم ، عن
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قول الله : "
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ " ، قال :
عياش بن أبي ربيعة ، قتل رجلا مؤمنا كان يعذبه مع
أبي جهل وهو أخوه لأمه ، فاتبع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحسب أن ذلك الرجل كان كما هو . وكان
عياش هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا ، فجاءه
أبو جهل وهو أخوه لأمه فقال : إن أمك تناشدك رحمها وحقها أن ترجع إليها وهي
أسماء ابنة مخربة ، فأقبل معه ، فربطه
أبو جهل حتى قدم
مكة . فلما رآه الكفار زادهم ذلك كفرا وافتتانا ، وقالوا : إن
أبا جهل ليقدر من
محمد على ما يشاء ويأخذ أصحابه .
10090 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
أبو حذيفة قال : حدثنا
شبل ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد بنحوه إلا أنه قال في حديثه : فاتبع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل ،
وعياش حسبه أنه كافر كما هو . وكان
عياش هاجر إلى
المدينة مؤمنا ، فجاءه
أبو جهل وهو أخوه لأمه - فقال : إن أمك تنشدك برحمها وحقها إلا رجعت إليها . وقال أيضا : ويأخذ أصحابه فيربطهم .
10091 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثني
حجاج ، عن
[ ص: 33 ] nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
مجاهد بنحوه ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن عكرمة قال : كان الحارث بن يزيد بن أنيسة ، من بني عامر بن لؤي يعذب عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل . ثم خرج الحارث بن يزيد مهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلقيه عياش بالحرة ، فعلاه بالسيف حتى سكت ، وهو يحسب أنه كافر . ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، ونزلت : " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ الآية ، فقرأها عليه ، ثم قال له : قم فحرر .
10092 - حدثنا
محمد بن الحسين قال : حدثنا
أحمد بن مفضل قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : "
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ " ، قال : نزلت في
عياش بن أبي ربيعة المخزومي وكان أخا
لأبي جهل بن هشام ، لأمه ، وإنه أسلم وهاجر في المهاجرين الأولين قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فطلبه
أبو جهل nindex.php?page=showalam&ids=14062والحارث بن هشام ، ومعهما رجل من
بني عامر بن لؤي . فأتوه
بالمدينة ، وكان
عياش أحب إخوته إلى أمه ، فكلموه وقالوا : "إن أمك قد حلفت أن لا يظلها بيت حتى تراك ، وهي مضطجعة في الشمس ، فأتها لتنظر إليك ثم ارجع"! وأعطوه موثقا من الله لا يهيجونه حتى يرجع إلى
المدينة ، فأعطاه بعض أصحابه بعيرا له نجيبا وقال : إن خفت منهم شيئا ، فاقعد على النجيب . فلما أخرجوه من
المدينة ، أخذوه فأوثقوه ، وجلده العامري ، فحلف ليقتلن العامري . فلم يزل محبوسا
بمكة حتى خرج يوم الفتح ، فاستقبله العامري وقد أسلم ، ولا يعلم
عياش بإسلامه ، فضربه فقتله . فأنزل الله : "
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ "
[ ص: 34 ] يقول : وهو لا يعلم أنه مؤمن"
ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا " ، فيتركوا الدية .
وقال آخرون : نزلت هذه الآية في
nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء .
ذكر من قال ذلك :
10093 - حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في قوله : "
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ " ، الآية ، قال :
نزل هذا في رجل قتله أبو الدرداء ، نزل هذا كله فيه . كانوا في سرية ، فعدل أبو الدرداء إلى شعب يريد حاجة له ، فوجد رجلا من القوم في غنم له ، فحمل عليه بالسيف فقال : لا إله إلا الله! قال : فضربه ، ثم جاء بغنمه إلى القوم . ثم وجد في نفسه شيئا ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا شققت عن قلبه! فقال : ما عسيت أجد! هل هو يا رسول الله إلا دم أو ماء؟ قال : فقد أخبرك بلسانه فلم تصدقه؟ قال : كيف بي يا رسول الله؟ قال : فكيف بلا إله إلا الله؟ قال : فكيف بي يا رسول الله؟ قال : فكيف بلا إله إلا الله؟ حتى تمنيت أن يكون ذلك مبتدأ إسلامي . قال : ونزل القرآن : " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ " حتى بلغ إلا أن يصدقوا قال : إلا أن يضعوها .
قال
أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله عرف عباده بهذه الآية ما على من قتل مؤمنا خطأ من كفارة ودية . وجائز أن تكون الآية نزلت في
عياش بن أبي ربيعة وقتيله ، وفي
nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء وصاحبه . وأي ذلك كان ، فالذي
[ ص: 35 ] عنى الله تعالى بالآية : تعريف عباده ما ذكرنا ، وقد عرف ذلك من عقل عنه من عباده تنزيله ، وغير ضائرهم جهلهم بمن نزلت فيه .
وأما " الرقبة المؤمنة " ، فإن أهل العلم مختلفون في صفتها .
فقال بعضهم : لا تكون الرقبة مؤمنة حتى تكون قد اختارت الإيمان بعد بلوغها ، وصلت وصامت ، ولا يستحق الطفل هذه الصفة .
ذكر من قال ذلك :
10094 - حدثني
يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11992أبي حيان قال : سألت
الشعبي عن قوله : "
فتحرير رقبة مؤمنة " ، قال : قد صلت وعرفت الإيمان .
10095 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
أبو صالح قال : حدثني
معاوية ، عن
علي بن أبي طلحة ، عن
ابن عباس قوله : "
فتحرير رقبة مؤمنة " ، يعني بالمؤمنة ، من عقل الإيمان وصام وصلى .
10096 - حدثنا
أبو كريب قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع ، عن
الأعمش ، عن
إبراهيم قال : ما كان في القرآن من "رقبة مؤمنة" ، فلا يجزئ إلا من صام وصلى . وما كان في القرآن من "رقبة" ليست "مؤمنة" ، فالصبي يجزئ .
10097 - حدثت عن
nindex.php?page=showalam&ids=17376يزيد بن هارون ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17240هشام بن حسان ، عن
الحسن قال : كل شيء في كتاب الله : "
فتحرير رقبة مؤمنة " ، فمن صام وصلى وعقل . وإذا قال : "فتحرير رقبة" ، فما شاء .
10098 - حدثنا
الحسن بن يحيى قال : أخبرنا
عبد الرزاق قال : أخبرنا
الثوري ، عن
الأعمش ، عن
إبراهيم قال : كل شيء في القرآن :
فتحرير رقبة مؤمنة [ ص: 36 ] فالذي قد صلى . وما لم يكن "مؤمنة" ، فتحرير من لم يصل .
10099 - حدثنا
بشر بن معاذ قال : حدثنا
يزيد قال : حدثنا
سعيد ، عن
قتادة : "
فتحرير رقبة مؤمنة " "والرقبة المؤمنة" عند
قتادة من قد صلى . وكان يكره أن يعتق في هذا الطفل الذي لم يصل ولم يبلغ ذلك .
10100 - حدثني
يحيى بن طلحة اليربوعي قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=14919فضيل بن عياض ، عن
مغيرة ، عن
إبراهيم في قوله : "
فتحرير رقبة مؤمنة " ، قال : إذا عقل دينه .
10101 - حدثنا
المثنى قال : حدثنا
إسحاق قال : حدثنا
عبد الرزاق ، عن
معمر ، عن
قتادة قال في : "
فتحرير رقبة مؤمنة " ، لا يجزئ فيها صبي .
10102 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
عبد الله بن صالح قال : حدثني
معاوية ، عن
علي بن أبي طلحة ، عن
ابن عباس : "
فتحرير رقبة مؤمنة " ، يعني بالمؤمنة : من قد عقل الإيمان وصام وصلى . فإن لم يجد رقبة ، فصيام شهرين متتابعين ، وعليه دية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا بها عليه .
وقال آخرون : إذا كان مولودا بين أبوين مسلمين فهو مؤمن ، وإن كان طفلا .
ذكر من قال ذلك :
10103 - حدثنا
أبو كريب قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع ، عن
سفيان ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
عطاء قال : كل رقبة ولدت في الإسلام ، فهي تجزئ .
قال
أبو جعفر : وأولى القولين بالصواب في ذلك قول من قال : لا يجزئ في قتل الخطأ من الرقاب إلا من قد آمن وهو يعقل الإيمان من بالغي الرجال والنساء ، إذا كان ممن كان أبواه على ملة من الملل سوى الإسلام ، وولد بينهما
[ ص: 37 ] وهما كذلك ، ثم لم يسلما ولا واحد منهما حتى أعتق في كفارة الخطأ . وأما من ولد بين أبوين مسلمين ، فقد أجمع الجميع من أهل العلم أنه وإن لم يبلغ حد الاختيار والتمييز ، ولم يدرك الحلم ، فمحكوم له بحكم أهل الإيمان في الموارثة ، والصلاة عليه إن مات ، وما يجب عليه إن جنى ، ويجب له إن جني عليه ، وفي المناكحة . فإذ كان ذلك من جميعهم إجماعا ، فواجب أن يكون له من الحكم فيما يجزئ فيه من كفارة الخطأ إن أعتق فيها من حكم أهل الإيمان ، مثل الذي له من حكم الإيمان في سائر المعاني التي ذكرناها وغيرها . ومن أبى ذلك ، عكس عليه الأمر فيه ، ثم سئل الفرق بين ذلك من أصل أو قياس . فلن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في غيره مثله .
وأما "الدية المسلمة" إلى أهل القتيل ، فهي المدفوعة إليهم ، على ما وجب لهم ، موفرة غير منتقصة حقوق أهلها منها .
وذكر عن
ابن عباس أنه كان يقول : هي الموفرة .
10104 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج قال : قال
ابن عباس قوله : "
ودية مسلمة إلى أهله " ، قال : موفرة .
وأما قوله :
إلا أن يصدقوا ، فإنه يعني به : إلا أن يتصدقوا بالدية على القاتل ، أو على عاقلته ، فأدغمت "التاء" من قوله : "يتصدقوا" في "الصاد" فصارتا "صادا" .
[ ص: 38 ]
وقد ذكر أن ذلك في قراءة
أبي ، ( إلا أن يتصدقوا ) .
10105 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
إسحاق قال : حدثنا
بكر بن الشرود حرف
أبي : ( إلا أن يتصدقوا ) .