القول في
تأويل قوله تعالى : ( فتلقى آدم من ربه كلمات )
قال
أبو جعفر : أما تأويل قوله : "
فتلقى آدم " فقيل : إنه أخذ وقبل . وأصله التفعل من اللقاء ، كما يتلقى الرجل الرجل مستقبله عند قدومه من غيبته أو سفره ، فكأن ذلك كذلك في قوله : " فتلقى " كأنه استقبله فتلقاه بالقبول حين أوحى إليه أو أخبر به . فمعنى ذلك إذا : فلقى الله
آدم كلمات توبة ، فتلقاها
آدم من ربه وأخذها عنه تائبا ، فتاب الله عليه بقيله إياها ، وقبوله إياها من ربه . كما :
774 - حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=17418يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن [ ص: 542 ] زيد في قوله : "
فتلقى آدم من ربه كلمات " الآية . قال : لقاهما هذه الآية : (
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) [ سورة الأعراف : 23 ] .
وقد قرأ بعضهم : " فتلقى آدم من ربه كلمات " فجعل الكلمات هي المتلقية
آدم . وذلك ، وإن كان من وجهة العربية جائزا - إذ كان كل ما تلقاه الرجل فهو له متلق ، وما لقيه فقد لقيه ، فصار للمتكلم أن يوجه الفعل إلى أيهما شاء ، ويخرج من الفعل أيهما أحب - فغير جائز عندي في القراءة إلا رفع " آدم " على أنه المتلقي الكلمات ، لإجماع الحجة من القرأة وأهل التأويل من علماء السلف والخلف ، على توجيه التلقي إلى
آدم دون الكلمات . وغير جائز الاعتراض عليها فيما كانت عليه مجمعة ، بقول من يجوز عليه السهو والخطأ .
واختلف أهل التأويل في أعيان الكلمات التي تلقاها .
آدم من ربه . فقال بعضهم بما :
775 - حدثنا به
أبو كريب ، قال : حدثنا
ابن عطية ، عن
قيس ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12526ابن أبي ليلى ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=15342المنهال بن عمرو ، عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس : "
فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه " قال : أي رب! ألم تخلقني بيدك ؟ قال : بلى ، قال : أي رب ، ألم تنفخ في من روحك ؟ قال : بلى ، قال : أي رب ، ألم تسكني جنتك ؟ قال : بلى . قال : أي رب ، ألم تسبق رحمتك غضبك ؟ قال : بلى . قال : أرأيت إن أنا تبت وأصلحت ، أراجعي أنت إلى الجنة ؟ قال : نعم .
[ ص: 543 ]
قال : فهو قوله : "
فتلقى آدم من ربه كلمات "
776 - وحدثني
علي بن الحسن ، قال : حدثنا
مسلم ، قال : حدثنا
محمد بن مصعب ، عن
قيس بن الربيع ، عن
عاصم بن كليب ، عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس ، نحوه .
777 - وحدثني
محمد بن سعد قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس قوله : "
فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه " قال : إن
آدم قال لربه إذ عصاه : رب أرأيت إن أنا تبت وأصلحت ؟ فقال له ربه : إني راجعك إلى الجنة .
778 - وحدثنا
بشر بن معاذ ، قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17360يزيد بن زريع ، عن
سعيد ، عن
قتادة قوله : " فتلقى آدم من ربه كلمات " ذكر لنا أنه قال : يا رب ، أرأيت إن أنا تبت وأصلحت ؟ قال : إني إذا راجعك إلى الجنة ، قال : وقال الحسن : إنهما قالا "
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين "
779 - وحدثني
المثنى ، قال : حدثنا
آدم العسقلاني ، قال : حدثنا
أبو جعفر ، عن
الربيع ، عن
أبي العالية في قوله : "
فتلقى آدم من ربه كلمات " قال : إن
آدم لما أصاب الخطيئة قال : يا رب ، أرأيت إن تبت وأصلحت ؟ فقال الله : إذا أرجعك إلى الجنة . فهي من الكلمات . ومن الكلمات أيضا : "
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين "
780 - وحدثني
موسى بن هارون ، قال : حدثنا
عمرو بن حماد ، قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : "
فتلقى آدم من ربه كلمات " قال : رب ، ألم تخلقني بيدك ؟ قيل له : بلى . قال : ونفخت في من روحك ؟ قيل له : بلى . قال وسبقت رحمتك
[ ص: 544 ] غضبك ؟ قيل له : بلى . قال : رب هل كنت كتبت هذا علي ؟ قيل له : نعم . قال : رب ، إن تبت وأصلحت ، هل أنت راجعي إلى الجنة ؟ قيل له : نعم . قال الله تعالى : (
ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ) [ سورة طه : 122 ] .
وقال آخرون بما :
781 - حدثنا به
nindex.php?page=showalam&ids=15573محمد بن بشار ، قال : حدثنا
عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا
سفيان ، عن
عبد العزيز بن رفيع ، قال : حدثني من سمع
nindex.php?page=showalam&ids=16531عبيد بن عمير يقول : قال
آدم : يا رب ، خطيئتي التي أخطأتها ، أشيء كتبته علي قبل أن تخلقني ، أو شيء ابتدعته من قبل نفسي ؟ قال : بلى ، شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك . قال : فكما كتبته علي فاغفره لي . قال : فهو قول الله : "
فتلقى آدم من ربه كلمات " .
782 - وحدثنا
ابن سنان ، قال : حدثنا
مؤمل ، قال : حدثنا
سفيان ، عن
عبد العزيز بن رفيع ، قال : أخبرني من سمع
nindex.php?page=showalam&ids=16531عبيد بن عمير ، بمثله .
783 - وحدثنا
ابن سنان ، قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع بن الجراح ، قال : حدثنا
سفيان ، عن
عبد العزيز بن رفيع ، عمن سمع
nindex.php?page=showalam&ids=16531عبيد بن عمير يقول : قال
آدم ، فذكر نحوه .
784 - وحدثنا
المثنى ، قال : حدثنا
أبو نعيم ، قال : حدثنا
سفيان ، عن
عبد العزيز بن رفيع ، قال : أخبرني من سمع
nindex.php?page=showalam&ids=16531عبيد بن عمير ، بنحوه .
785 - وحدثنا
الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا
عبد الرزاق ، قال : أخبرنا
الثوري ، عن
عبد العزيز ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16531عبيد بن عمير بمثله .
وقال آخرون بما :
786 - حدثني به
أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي ، قال : حدثنا
عبد الرحمن [ ص: 545 ] بن شريك ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا
حصين بن عبد الرحمن ، عن
حميد بن نبهان ، عن
عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية ، أنه قال : قوله : "
فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه " قال آدم : اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، أستغفرك وأتوب إليك ، تب علي إنك أنت التواب الرحيم .
787 - وحدثني
المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا
أبو غسان ، قال : أنبأنا
أبو زهير - وحدثنا
أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : أخبرنا
أبو أحمد ، قال : حدثنا
سفيان ، وقيس - جميعا عن
خصيف ، عن
مجاهد في قوله : "
فتلقى آدم من ربه كلمات " قال قوله : "
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا " حتى فرغ منها .
788 - وحدثني
المثنى ، قال : حدثنا
أبو حذيفة ، قال : حدثني
شبل ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، كان يقول في قول الله : "
فتلقى آدم من ربه كلمات " الكلمات : اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين ، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، ربي إني ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين . اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، رب إني ظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم .
789 - وحدثنا
ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن
النضر بن عربي ، عن
مجاهد : "
فتلقى آدم من ربه كلمات " هو قوله : "
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا " الآية .
790 - وحدثنا
القاسم ، قال : حدثنا
الحسين ، قال : حدثني
حجاج ، عن
[ ص: 546 ] nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
مجاهد : "
فتلقى آدم من ربه كلمات " قال : أي رب ، أتتوب علي إن تبت ؟ قال : نعم . فتاب آدم ، فتاب عليه ربه .
791 - وحدثنا
الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا
عبد الرزاق ، قال : أخبرنا
معمر ، عن
قتادة في قوله : "
فتلقى آدم من ربه كلمات " قال : هو قوله : "
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين "
792 - حدثني
يونس ، قال أخبرنا
ابن وهب ، قال قال
ابن زيد : هو قوله : "
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين "
وهذه الأقوال التي حكيناها عمن حكيناها عنه ، وإن كانت مختلفة الألفاظ ، فإن معانيها متفقة في أن الله جل ثناؤه لقى
آدم كلمات ، فتلقاهن
آدم من ربه فقبلهن وعمل بهن ، وتاب بقيله إياهن وعمله بهن إلى الله من خطيئته ، معترفا بذنبه ، متنصلا إلى ربه من خطيئته ، نادما على ما سلف منه من خلاف أمره ، فتاب الله عليه بقبوله الكلمات التي تلقاهن منه ، وندمه على سالف الذنب منه .
والذي يدل عليه كتاب الله ، أن الكلمات التي تلقاهن
آدم من ربه ، هن الكلمات التي أخبر الله عنه أنه قالها متنصلا بقيلها إلى ربه ، معترفا بذنبه ، وهو قوله : "
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين " وليس ما قاله من خالف قولنا هذا - من الأقوال التي حكيناها - بمدفوع قوله ، ولكنه قول لا شاهد عليه من حجة يجب التسليم لها ، فيجوز لنا إضافته إلى
آدم ، وأنه مما تلقاه من ربه عند إنابته إليه من ذنبه . وهذا الخبر الذي أخبر الله عن
آدم - من قيله الذي لقاه إياه فقاله تائبا إليه من خطيئته - تعريف منه جل ذكره جميع المخاطبين
[ ص: 547 ] بكتابه ،
كيفية التوبة إليه من الذنوب ، وتنبيه للمخاطبين بقوله : (
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ) [ سورة البقرة : 28 ] ، على موضع التوبة مما هم عليه من الكفر بالله ، وأن خلاصهم مما هم عليه مقيمون من الضلالة نظير خلاص أبيهم
آدم من خطيئته ، مع تذكيره إياهم به السالف إليهم من النعم التي خص بها أباهم آدم وغيره من آبائهم .