القول في تأويل قوله (
لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ( 114 ) )
قال
أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : "
لا خير في كثير من نجواهم " لا خير في كثير من نجوى الناس جميعا
إلا من أمر بصدقة أو معروف و "المعروف" ، هو كل ما أمر الله به أو ندب إليه من أعمال البر والخير ، "
أو إصلاح بين الناس " ، وهو الإصلاح بين المتباينين أو المختصمين ، بما أباح الله الإصلاح بينهما ،
[ ص: 202 ] ليتراجعا إلى ما فيه الألفة واجتماع الكلمة ، على ما أذن الله وأمر به .
ثم أخبر جل ثناؤه بما وعد من فعل ذلك فقال : "
ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما " ، يقول : ومن يأمر بصدقة أو معروف من الأمر ، أو يصلح بين الناس "
ابتغاء مرضاة الله " ، يعني : طلب رضا الله بفعله ذلك "
فسوف نؤتيه أجرا عظيما " ، يقول : فسوف نعطيه جزاء لما فعل من ذلك عظيما ، ولا حد لمبلغ ما سمى الله "عظيما" يعلمه سواه .
واختلف أهل العربية في
معنى قوله : " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة " . فقال بعض نحويي
البصرة : معنى ذلك : لا خير في كثير من نجواهم ، إلا في نجوى من أمر بصدقة ، كأنه عطف ب "من" على "الهاء والميم" التي في "نجواهم" . وذلك خطأ عند أهل العربية ، لأن "إلا" لا تعطف على "الهاء والميم" في مثل هذا الموضع ، من أجل أنه لم ينله الجحد .
وقال بعض نحويي
الكوفة : قد تكون "من" في موضع خفض ونصب . أما الخفض ، فعلى قولك : لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة . فتكون "النجوى" على هذا التأويل ، هم الرجال المناجون ، كما قال جل ثناؤه : (
ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) [ سورة المجادلة : 7 ] ، وكما قال (
وإذ هم نجوى ) [ سورة الإسراء : 47 ] .
[ ص: 203 ]
وأما النصب ، فعلى أن تجعل "النجوى" فعلا فيكون نصبا ، لأنه حينئذ يكون استثناء منقطعا ، لأن "من" خلاف "النجوى" ، فيكون ذلك نظير قول الشاعر .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وما بالربع من أحد إلا أواري لأيا ما أبينها
. . . . . . . . . . . . . . .
وقد يحتمل "من" على هذا التأويل أن يكون رفعا ، كما قال الشاعر :
وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس
[ ص: 204 ]
قال
أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك ، أن تجعل "من" في موضع خفض ، بالرد على "النجوى" وتكون "النجوى" بمعنى جمع المتناجين ، خرج مخرج "السكرى" و "الجرحى" و "المرضى" . وذلك أن ذلك أظهر معانيه .
فيكون تأويل الكلام : لا خير في كثير من المتناجين ، يا
محمد ، من الناس ، إلا فيمن أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ، فإن أولئك فيهم الخير .