القول في تأويل قوله (
غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد )
قال
أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .
فقال بعضهم : معنى ذلك : "
يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " "
غير محلي الصيد وأنتم حرم " "
أحلت لكم بهيمة الأنعام " فذلك ، على قولهم ، من المؤخر الذي معناه التقديم . ف"غير" منصوب على قول قائلي هذه المقالة على الحال مما في قوله : "أوفوا" من ذكر"الذين آمنوا" .
وتأويل الكلام على مذهبهم : أوفوا ، أيها المؤمنون ، بعقود الله التي عقدها عليكم في كتابه ، لا محلين الصيد وأنتم حرم .
وقال آخرون : معنى ذلك : أحلت لكم بهيمة الأنعام الوحشية من الظباء والبقر والحمر "غير محلي الصيد" ، غير مستحلي اصطيادها ، وأنتم حرم إلا
[ ص: 460 ] ما يتلى عليكم" . ف"غير" ، على قول هؤلاء ، منصوب على الحال من"الكاف والميم" اللتين في قوله : "لكم" ، بتأويل : أحلت لكم ، أيها الذين آمنوا ، بهيمة الأنعام ، لا مستحلي اصطيادها في حال إحرامكم .
وقال آخرون : معنى ذلك : أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها "
إلا ما يتلى عليكم " ، إلا ما كان منها وحشيا ، فإنه صيد ، فلا يحل لكم وأنتم حرم . فكأن من قال ذلك ، وجه الكلام إلى معنى : أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها "
إلا ما يتلى عليكم " ، إلا ما يبين لكم من وحشيها ، غير مستحلي اصطيادها في حال إحرامكم . فتكون"غير" منصوبة ، على قولهم ، على الحال من"الكاف والميم" في قوله : "إلا ما يتلى عليكم" .
ذكر من قال ذلك :
10935 - حدثنا
سفيان بن وكيع قال : حدثنا
عبيد الله ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11960أبي جعفر الرازي ، عن
الربيع بن أنس قال : جلسنا إلى
مطرف بن الشخير ، وعنده رجل ، فحدثهم فقال : "
أحلت لكم بهيمة الأنعام " صيدا "
غير محلي الصيد وأنتم حرم " ، فهو عليكم حرام . يعني بقر الوحش والظباء وأشباهه .
10936 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
إسحاق قال : حدثنا
عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع بن أنس في قوله : "
أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم " ، قال : الأنعام كلها حل ، إلا ما كان منها وحشيا ، فإنه صيد ، فلا يحل إذا كان محرما .
قال
أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب على ما تظاهر به تأويل
[ ص: 461 ] أهل التأويل في قوله : "
أحلت لكم بهيمة الأنعام " ، من أنها الأنعام وأجنتها وسخالها ، وعلى دلالة ظاهر التنزيل قول من قال : معنى ذلك : أوفوا بالعقود ، غير محلي الصيد وأنتم حرم ، فقد أحلت لكم بهيمة الأنعام في حال إحرامكم أو غيرها من أحوالكم ، إلا ما يتلى عليكم تحريمه من الميتة منها والدم ، وما أهل لغير الله به .
وذلك أن قوله : "إلا ما يتلى عليكم" ، لو كان معناه : "إلا الصيد" ، لقيل : "إلا ما يتلى عليكم من الصيد غير محليه" . وفي ترك الله وصل قوله : "إلا ما يتلى عليكم" بما ذكرت ، وإظهار ذكر الصيد في قوله : "غير محلي الصيد" ، أوضح الدليل على أن قوله : "إلا ما يتلى عليكم" ، خبر متناهية قصته ، وأن معنى قوله : "
غير محلي الصيد " ، منفصل منه .
وكذلك لو كان قوله : (
أحلت لكم بهيمة الأنعام ) ، مقصودا به قصد الوحش ، لم يكن أيضا لإعادة ذكر الصيد في قوله : "غير محلي الصيد" وجه ، وقد مضى ذكره قبل ، ولقيل : "
أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محليه وأنتم حرم " . وفي إظهاره ذكر الصيد في قوله : "غير محلي الصيد" ، أبين الدلالة على صحة ما قلنا في معنى ذلك .
فإن قال قائل : فإن العرب ربما أظهرت ذكر الشيء باسمه وقد جرى ذكره باسمه ؟ قيل : ذلك من فعلها ضرورة شعر ، وليس ذلك بالفصيح المستعمل من كلامهم . وتوجيه كلام الله إلى الأفصح من لغات من نزل كلامه بلغته ، أولى ما وجد إلى ذلك سبيل من صرفه إلى غير ذلك .
قال
أبو جعفر : فمعنى الكلام إذا : يا أيها الذين آمنوا أوفوا بعقود الله التي عقد عليكم مما حرم وأحل ، لا محلين الصيد في حرمكم ، ففيما أحل لكم من بهيمة الأنعام المذكاة دون ميتتها ، متسع لكم ومستغنى عن الصيد في حال إحرامكم .