القول في تأويل قوله (
أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا )
قال
أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك .
فقرأه بعض
أهل المدينة وعامة
قرأة الكوفيين : (
أن صدوكم ) بفتح"الألف "
[ ص: 488 ] من"أن" ، بمعنى : لا يجرمنكم بغض قوم بصدهم إياكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا .
وكان بعض قرأة الحجاز والبصرة يقرأ ذلك : (
ولا يجرمنكم شنآن قوم إن صدوكم ) ، بكسر"الألف" من"إن" ، بمعنى : ولا يجرمنكم شنآن قوم إن هم أحدثوا لكم صدا عن المسجد الحرام أن تعتدوا فزعموا أنها في قراءة
ابن مسعود : ( إن يصدوكم ) ، فقرأوا ذلك كذلك اعتبارا بقراءته .
قال
أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ، أنهما قراءتان معروفتان مشهورتان في قرأة الأمصار ، صحيح معنى كل واحدة منهما .
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صد عن البيت هو وأصحابه يوم الحديبية ، وأنزلت عليه"سورة المائدة" بعد ذلك ، فمن قرأ ( أن صدوكم ) بفتح"الألف" من"أن" ، فمعناه : لا يحملنكم بغض قوم ، أيها الناس ، من أجل أن صدوكم يوم الحديبية عن المسجد الحرام ، أن تعتدوا عليهم .
ومن قرأ : ( إن صدوكم ) بكسر"الألف" ، فمعناه : لا يجرمنكم شنآن قوم إن صدوكم عن المسجد الحرام إذا أردتم دخوله . لأن الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من
قريش يوم فتح
مكة ، قد حاولوا صدهم عن المسجد الحرام . فتقدم الله إلى المؤمنين في قول من قرأ ذلك بكسر"إن" بالنهي عن الاعتداء عليهم ، إن هم صدوهم عن المسجد الحرام ، قبل أن يكون ذلك من الصادين .
غير أن الأمر ، وإن كان كما وصفت ، فإن قراءة ذلك بفتح"الألف" ، أبين معنى . لأن هذه السورة لا تدافع بين أهل العلم في أنها نزلت بعد يوم الحديبية .
[ ص: 489 ] وإذ كان ذلك كذلك ، فالصد قد كان تقدم من المشركين ، فنهى الله المؤمنين عن الاعتداء على الصادين من أجل صدهم إياهم عن المسجد الحرام .
وأما قوله : "أن تعتدوا" ، فإنه يعني : أن تجاوزوا الحد الذي حده الله لكم في أمرهم .
فتأويل الآية إذا : ولا يحملنكم بغض قوم ، لأن صدوكم عن
المسجد الحرام ، أيها المؤمنون ، أن تعتدوا حكم الله فيهم ، فتجاوزوه إلى ما نهاكم عنه ، ولكن الزموا طاعة الله فيما أحببتم وكرهتم .
وذكر أنها نزلت في النهي عن الطلب بذحول الجاهلية .
ذكر من قال ذلك :
10997 - حدثني
محمد بن عمرو قال : حدثنا
أبو عاصم قال : حدثنا
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قول الله : "أن تعتدوا" ، رجل مؤمن من حلفاء
محمد ، قتل حليفا
لأبي سفيان من
هذيل يوم الفتح
بعرفة ، لأنه كان يقتل حلفاء
محمد ، فقال
محمد صلى الله عليه وسلم : لعن الله من قتل بذحل الجاهلية .
10998 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
أبو حذيفة قال : حدثنا
شبل ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : هذا منسوخ
ذكر من قال ذلك :
[ ص: 490 ]
10999 - حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في قوله : "ولا يجرمنكم شنآن قوم أن تعتدوا" ، قال : بغضاؤهم ، حتى تأتوا ما لا يحل لكم . وقرأ : "أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا" ، وقال : هذا كله قد نسخ ، نسخه الجهاد .
قال
أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول
مجاهد أنه غير منسوخ ، لاحتماله : أن تعتدوا الحق فيما أمرتكم به . وإذا احتمل ذلك ، لم يجز أن يقال : "هو منسوخ" ، إلا بحجة يجب التسليم لها .