صفحة جزء
القول في تأويل قوله عز ذكره ( أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ما للذي حارب الله ورسوله ، وسعى في الأرض فسادا ، من أهل ملة الإسلام أو ذمتهم - إلا بعض هذه الخلال التي ذكرها جل ثناؤه .

ثم اختلف أهل التأويل في هذه الخلال ، أتلزم المحارب باستحقاقه اسم "المحاربة " ، أم يلزمه ما لزمه من ذلك على قدر جرمه ، مختلفا باختلاف أجرامه؟

[ فقال بعضهم : تجب على المحارب العقوبة على قدر استحقاقه ، ويلزمه ما لزمه من ذلك على قدر جرمه ، مختلفا باختلاف أجرامه ] .

ذكر من قال ذلك :

11829 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله [ ص: 258 ] " إلى قوله : " أو ينفوا من الأرض " ، قال : إذا حارب فقتل ، فعليه القتل إذا ظهر عليه قبل توبته . وإذا حارب وأخذ المال وقتل فعليه الصلب إن ظهر عليه قبل توبته . وإذا حارب وأخذ ولم يقتل ، فعليه قطع اليد والرجل من خلاف إن ظهر عليه قبل توبته . وإذا حارب وأخاف السبيل ، فإنما عليه النفي .

11830 - حدثنا ابن وكيع وأبو السائب قالا : حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن حماد ، عن إبراهيم : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " قال : إذا خرج فأخاف السبيل وأخذ المال ، قطعت يده ورجله من خلاف . وإذا أخاف السبيل ، ولم يأخذ المال وقتل ، صلب .

11831 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن حماد ، عن إبراهيم - فيما أرى - في الرجل يخرج محاربا ، قال : إن قطع الطريق وأخذ المال ، قطعت يده ورجله . وإن أخذ المال وقتل قتل ، وإن أخذ المال وقتل ومثل ، صلب .

11832 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن عمران بن حدير ، عن أبي مجلز : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " الآية ، قال : إذا قتل وأخذ المال وأخاف السبيل ، صلب . وإذا قتل لم يعد ذلك ، قتل . وإذا أخذ المال لم يعد ذلك ، قطع . وإذا كان يفسد نفي .

11833 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا شريك ، عن سماك ، عن الحسن : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " إلى قوله : " أو ينفوا من الأرض " قال : إذا أخاف الطريق ولم يقتل ولم يأخذ المال ، نفي .

11834 - حدثنا المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم ، عن حصين قال : كان يقال : من حارب فأخاف السبيل وأخذ المال ولم يقتل ، [ ص: 259 ] قطعت يده ورجله من خلاف . وإذا أخذ المال وقتل ، صلب .

11835 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أنه كان يقول في قوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " إلى قوله : " أو ينفوا من الأرض " ، حدود أربعة أنزلها الله . فأما من أصاب الدم والمال جميعا ، صلب . وأما من أصاب الدم وكف عن المال ، قتل . ومن أصاب المال وكف عن الدم ، قطع . ومن لم يصب شيئا من هذا ، نفي .

11836 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : نهى الله نبيه عليه السلام عن أن يسمل أعين العرنيين الذين أغاروا على لقاحه ، وأمره أن يقيم فيهم الحدود كما أنزلها الله عليه . فنظر إلى من أخذ المال ولم يقتل ، فقطع يده ورجله من خلاف ، يده اليمنى ورجله اليسرى . ونظر إلى من قتل ولم يأخذ مالا فقتله . ونظر إلى من أخذ المال وقتل ، فصلبه . وكذلك ينبغي لكل من أخاف طريق المسلمين وقطع أن يصنع به إن أخذ وقد أخذ مالا قطعت يده بأخذه المال ، ورجله بإخافة الطريق . وإن قتل ولم يأخذ مالا قتل ، وإن قتل وأخذ المال ، صلب .

11837 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا فضيل بن مرزوق قال : سمعت السدي يسأل عطية العوفي ، عن رجل محارب ، خرج فأخذ ولم يصب مالا ولم يهرق دما . قال : النفي بالسيف ، وإن أخذ مالا فيده بالمال ، ورجله بما أخاف المسلمين . وإن هو قتل ولم يأخذ مالا قتل . وإن هو قتل وأخذ المال ، صلب وأكبر ظني أنه قال : تقطع يده ورجله .

11838 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن عطاء الخراساني ، وقتادة في قوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " الآية ، [ ص: 260 ] قال : هذا اللص الذي يقطع الطريق ، فهو محارب . فإن قتل وأخذ مالا صلب . وإن قتل ولم يأخذ مالا قتل . وإن أخذ مالا ولم يقتل قطعت يده ورجله . وإن أخذ قبل أن يفعل شيئا ، من ذلك ، نفي .

11839 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن قيس بن سعد ، عن سعيد بن جبير قال : من خرج في الإسلام محاربا لله ورسوله فقتل وأصاب مالا فإنه يقتل ويصلب . ومن قتل ولم يصب مالا فإنه يقتل كما قتل . ومن أصاب مالا ولم يقتل ، فإنه يقطع من خلاف . وإن أخاف سبيل المسلمين نفي من بلده إلى غيره ، لقول الله جل وعز : " أو ينفوا من الأرض " .

11840 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " ، قال : كان ناس يسعون في الأرض فسادا ، وقتلوا وقطعوا السبيل ، فصلب أولئك . وكان آخرون حاربوا واستحلوا المال ولم يعدوا ذلك ، فقطعت أيديهم وأرجلهم . وآخرون حاربوا واعتزلوا ولم يعدوا ذلك ، فأولئك أخرجوا من الأرض .

11841 - حدثنا هناد قال : حدثنا أبو أسامة ، عن أبي هلال . قال : حدثنا قتادة ، عن مورق العجلي في المحارب قال : إن كان خرج فقتل وأخذ المال ، صلب . وإن كان قتل ولم يأخذ المال ، قتل . وإن كان أخذ المال ولم يقتل ، قطع . وإن كان خرج مشاقا للمسلمين : نفي .

11842 - حدثنا هناد قال : حدثنا أبو معاوية ، عن حجاج ، عن عطية العوفي ، عن ابن عباس قال : إذا خرج المحارب وأخاف الطريق وأخذ المال ، قطعت يده [ ص: 261 ] ورجله من خلاف . فإن هو خرج فقتل وأخذ المال ، قطعت يده ورجله من خلاف ثم صلب . وإن خرج فقتل ولم يأخذ المال ، قتل . وإن أخاف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ المال ، نفي .

11843 - حدثنا ابن البرقي قال : حدثنا ابن أبي مريم قال : أخبرنا نافع بن يزيد قال : حدثني أبو صخر ، عن محمد بن كعب القرظي ، وعن أبي معاوية ، عن سعيد بن جبير في هذه الآية : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا " قالا : إن أخاف المسلمين فقطع المال ولم يسفك ، قطع . وإذا سفك دما : قتل وصلب . وإن جمعهما فاقتطع مالا وسفك دما ، قطع ثم قتل ثم صلب ، كأن الصلب مثلة ، وكأن القطع : " السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " ، وكأن القتل : " النفس بالنفس " . وإن امتنع ، فإن من الحق على الإمام وعلى المسلمين أن يطلبوه حتى يأخذوه ، فيقيموا عليه حكم كتاب الله : " أو ينفوا من الأرض " ، من أرض الإسلام إلى أرض الكفر .

قال أبو جعفر : واعتل قائلو هذه المقالة لقولهم هذا ، بأن قالوا : إن الله أوجب على القاتل القود ، وعلى السارق القطع . وقالوا : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خلال : رجل قتل فقتل ، ورجل زنى بعد إحصان فرجم ، ورجل كفر بعد إسلامه " . قالوا : فحظر النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجل مسلم إلا بإحدى هذه الخلال الثلاث . فأما أن يقتل من أجل إخافته السبيل من غير أن يقتل أو يأخذ مالا فذلك تقدم على الله ورسوله بالخلاف عليهما في الحكم . قالوا : ومعنى قول من قال : "الإمام فيه بالخيار ، إذا قتل وأخاف السبيل وأخذ المال" ، فهنالك خيار الإمام في قولهم بين القتل ، أو [ ص: 262 ] القتل والصلب ، أو قطع اليد والرجل من خلاف . وأما صلبه باسم المحاربة من غير أن يفعل شيئا من قتل أو أخذ مال ، فذلك ما لم يقله عالم .

وقال آخرون : الإمام فيه بالخيار : أن يفعل أي هذه الأشياء التي ذكرها الله في كتابه .

ذكر من قال ذلك :

11844 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا جويبر ، عن عطاء ، وعن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد ، في المحارب : أن الإمام مخير فيه ، أي ذلك شاء فعل .

11845 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم ، عن عبيدة ، عن إبراهيم : الإمام مخير في المحارب ، أي ذلك شاء فعل . إن شاء قتل ، وإن شاء قطع ، وإن شاء نفى ، وإن شاء صلب .

11846 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن عاصم ، عن الحسن في قوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " ، إلى قوله : " أو ينفوا من الأرض " ، قال : يأخذ الإمام بأيها أحب .

11847 - حدثنا سفيان قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن الحسن : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " قال : الإمام مخير فيها .

11848 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، مثله .

11849 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن قيس بن سعد قال : قال عطاء : يصنع الإمام في ذلك ما شاء . إن شاء قتل ، أو قطع ، أو نفى ، لقول الله : " أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض " ، فذلك إلى الإمام الحاكم ، يصنع فيه ما شاء . [ ص: 263 ]

11850 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " الآية ، قال : من شهر السلاح في قبة الإسلام ، وأخاف السبيل ، ثم ظفر به وقدر عليه ، فإمام المسلمين فيه بالخيار : إن شاء قتله ، وإن شاء صلبه ، وإن شاء قطع يده ورجله .

11851 - حدثنا هناد قال : حدثنا أبو أسامة قال : أخبرنا أبو هلال قال : أخبرنا قتادة ، عن سعيد بن المسيب : أنه قال في المحارب : ذلك إلى الإمام ، إذا أخذه يصنع به ما شاء .

11852 - حدثنا هناد قال : حدثنا أبو أسامة ، عن أبي هلال قال : حدثنا هارون ، عن الحسن في المحارب قال : ذاك إلى الإمام ، يصنع به ما شاء .

11853 - حدثنا هناد قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن عاصم ، عن الحسن : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " ، قال : ذلك إلى الإمام .

قال أبو جعفر : واعتل قائلو هذه المقالة بأن قالوا : وجدنا العطوف التي ب"أو" في القرآن بمعنى التخيير ، في كل ما أوجب الله به فرضا منها ، وذلك كقوله في كفارة اليمين : ( فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة ) [ سورة المائدة : 89 ] ، وكقوله : ( 6 فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) [ سورة البقرة : 196 ] ، [ ص: 264 ] وكقوله : ( فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ) [ سورة المائدة : 95 ] . قالوا : فإذا كانت العطوف التي ب"أو" في القرآن ، في كل ما أوجب الله به فرضا منها في سائر القرآن بمعنى التخيير ، فكذلك ذلك في آية المحاربين ، الإمام مخير فيما رأى الحكم به على المحارب إذا قدر عليه قبل التوبة .

قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب في ذلك عندنا تأويل من أوجب على المحارب من العقوبة على قدر استحقاقه ، وجعل الحكم على المحاربين مختلفا باختلاف أفعالهم . فأوجب على مخيف السبيل منهم إذا قدر عليه قبل التوبة ، وقبل أخذ مال أو قتل النفي من الأرض . وإذا قدر عليه بعد أخذ المال وقتل النفس المحرم قتلها الصلب ، لما ذكرت من العلة قبل لقائلي هذه المقالة .

فأما ما اعتل به القائلون : إن الإمام فيه بالخيار ، من أن "أو" في العطف تأتي بمعنى التخيير في الفرض ، فقول لا معنى له ، لأن "أو" في كلام العرب قد تأتي بضروب من المعاني ، لولا كراهة إطالة الكتاب بذكرها لذكرتها ، وقد بينت كثيرا من معانيها فيما مضى ، وسنأتي على باقيها فيما يستقبل في أماكنها إن شاء الله .

فأما في هذا الموضع ، فإن معناها التعقيب ، وذلك نظير قول القائل : "إن [ ص: 265 ] جزاء المؤمنين عند الله يوم القيامة أن يدخلهم الجنة ، أو يرفع منازلهم في عليين ، أو يسكنهم مع الأنبياء والصديقين" ، فمعلوم أن قائل ذلك غير قاصد بقيله إلى أن جزاء كل مؤمن آمن بالله ورسوله ، فهو في مرتبة واحدة من هذه المراتب ، ومنزلة واحدة من هذه المنازل بإيمانه ، بل المعقول عنه أن معناه : أن جزاء المؤمن لن يخلو عند الله عز ذكره من بعض هذه المنازل . فالمقتصد منزلته دون منزلة السابق بالخيرات ، والسابق بالخيرات أعلى منه منزلة ، والظالم لنفسه دونهما ،

وكل في الجنة كما قال جل ثناؤه : ( جنات عدن يدخلونها ) [ سورة فاطر : 33 ] . فكذلك معنى العطوف ب"أو" في قوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " ، الآية ، إنما هو التعقيب .

فتأويله : إن الذي يحارب الله ورسوله ويسعى في الأرض فسادا ، لن يخلو من أن يستحق الجزاء بإحدى هذه الخلال الأربع التي ذكرها الله عز ذكره لا أن الإمام محكم فيه ومخير في أمره كائنة ما كانت حالته ، عظمت جريرته أو خفت ، لأن ذلك لو كان كذلك ، لكان للإمام قتل من شهر السلاح مخيفا السبيل وصلبه ، وإن لم يأخذ مالا ولا قتل أحدا ، وكان له نفي من قتل وأخذ المال وأخاف السبيل . وذلك قول إن قاله قائل ، خلاف ما صحت به الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل قتل رجلا فقتل به ، أو زنى بعد إحصان فرجم ، أو ارتد عن دينه " وخلاف قوله : [ ص: 266 ] " القطع في ربع دينار فصاعدا " ، وغير المعروف من أحكامه .

فإن قال قائل : فإن هذه الأحكام التي ذكرت ، كانت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير المحارب ، وللمحارب حكم غير ذلك منفرد به .

قيل له : فما الحكم الذي انفرد به المحارب في سننه؟

فإن ادعى عنه صلى الله عليه وسلم حكما خلاف الذي ذكرنا ، أكذبه جميع أهل العلم ، لأن ذلك غير موجود بنقل واحد ولا جماعة .

وإن زعم أن ذلك الحكم هو ما في ظاهر الكتاب ، قيل له : فإن أحسن حالاتك إن سلم لك ، أن ظاهر الآية قد يحتمل ما قلت وما قاله من خالفك فما برهانك على أن تأويلك أولى بتأويل الآية من تأويله؟

وبعد ، فإذ كان الإمام مخيرا في الحكم على المحارب ، من أجل أن "أو" بمعنى التخيير في هذا الموضع عندك ، أفله أن يصلبه حيا ، ويتركه على الخشبة مصلوبا حتى يموت من غير قتله؟ .

فإن قال : "ذلك له" ، خالف في ذلك الأمة .

وإن زعم أن ذلك ليس له ، وإنما له قتله ثم صلبه ، أو صلبه ثم قتله ترك علته من أن الإمام إنما كان له الخيار في الحكم على المحارب من أجل أن "أو" تأتي بمعنى التخيير .

وقيل له : فكيف كان له الخيار في القتل أو النفي أو القطع ، ولم يكن له الخيار في الصلب وحده ، حتى تجمع إليه عقوبة أخرى؟ [ ص: 267 ]

وقيل له : هل بينك وبين من جعل الخيار حيث أبيت ، وأبى ذلك حيث جعلته له فرق من أصل أو قياس؟ فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم الآخر مثله .

وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيح ما قلنا في ذلك ، بما في إسناده نظر ، وذلك ما" -

11854 - حدثنا به علي بن سهل قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، عن ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب : أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية ، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين ، وهم من بجيلة . قال أنس : فارتدوا عن الإسلام ، وقتلوا الراعي ، وساقوا الإبل ، وأخافوا السبيل ، وأصابوا الفرج الحرام . قال أنس : فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام عن القضاء فيمن حارب ، فقال : من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته ، ورجله بإخافته . ومن قتل فاقتله . ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام ، فاصلبه . [ ص: 268 ]

وأما قوله : " أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف " ، فإنه يعني به جل ثناؤه : أنه تقطع أيديهم مخالفا في قطعها قطع أرجلهم . وذلك أن تقطع أيمن أيديهم ، وأشمل أرجلهم . فذلك "الخلاف" بينهما في القطع .

ولو كان مكان " من " في هذا الموضع " على" أو" الباء " ، فقيل : " أو تقطع أيديهم وأرجلهم على خلاف أو : بخلاف " ، لأديا عما أدت عنه " من " من المعنى .

واختلف أهل التأويل في معنى"النفي" الذي ذكر الله في هذا الموضع .

فقال بعضهم : هو أن يطلب حتى يقدر عليه ، أو يهرب من دار الإسلام .

ذكر من قال ذلك :

11855 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " أو ينفوا من الأرض " ، قال : يطلبهم الإمام بالخيل والرجال حتى يأخذهم فيقيم فيهم الحكم ، أو ينفوا من أرض المسلمين .

11856 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : نفيه : أن يطلب .

11857 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " أو ينفوا من الأرض " ، يقول : أو يهربوا حتى يخرجوا من دار الإسلام إلى دار الحرب .

11858 - حدثني علي بن سهل قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : أخبرني عبد الله بن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن كتاب أنس بن مالك إلى عبد الملك بن مروان : أنه كتب إليه : "ونفيه ، أن يطلبه الإمام حتى يأخذه ، فإذا أخذه أقام عليه إحدى هذه المنازل التي ذكر الله جل وعز بما استحل" . [ ص: 269 ]

11859 - حدثني علي بن سهل قال : حدثنا الوليد قال : فذكرت ذلك لليث بن سعد فقال : نفيه ، طلبه من بلد إلى بلد حتى يؤخذ ، أو يخرجه طلبه من دار الإسلام إلى دار الشرك والحرب ، إذا كان محاربا مرتدا عن الإسلام قال الوليد : وسألت مالك بن أنس ، فقال مثله .

11860 - حدثني علي قال : حدثنا الوليد قال : قلت لمالك بن أنس ، والليث بن سعد : وكذلك يطلب المحارب المقيم على إسلامه ، يضطره بطلبه من بلد إلى بلد حتى يصير إلى ثغر من ثغور المسلمين أو أقصى حوز المسلمين ، فإن هم طلبوه دخل دار الشرك؟ قالا لا يضطر مسلم إلى ذلك .

11861 - حدثنا هناد بن السري قال : حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك : " أو ينفوا من الأرض " قال : أن يطلبوه حتى يعجزوا .

11862 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثني عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول ، فذكر نحوه .

11863 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن عاصم ، عن الحسن : " أو ينفوا من الأرض " ، قال : ينفى حتى لا يقدر عليه .

11864 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : " أو ينفوا من الأرض " ، قال : أخرجوا من الأرض . أينما أدركوا أخرجوا حتى يلحقوا بأرض العدو .

11865 - حدثنا الحسن قال : حدثنا عبد الرزاق قال : حدثنا معمر ، [ ص: 270 ] عن الزهري في قوله : " أو ينفوا من الأرض " ، قال : نفيه : أن يطلب فلا يقدر عليه ، كلما سمع به في أرض طلب .

11866 - حدثني علي بن سهل قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : أخبرني سعيد ، عن قتادة : " أو ينفوا من الأرض " ، قال : إذا لم يقتل ولم يأخذ مالا طلب حتى يعجز .

11867 - حدثني ابن البرقي قال : حدثنا ابن أبي مريم قال : أخبرني نافع بن يزيد قال : حدثني أبو صخر ، عن محمد بن كعب القرظي ، وعن أبي معاوية ، عن سعيد بن جبير : "أو ينفوا من الأرض" ، من أرض الإسلام إلى أرض الكفر .

وقال آخرون : معنى"النفي" في هذا الموضع : أن الإمام إذا قدر عليه نفاه من بلدته إلى بلدة أخرى غيرها .

ذكر من قال ذلك :

11868 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن قيس بن سعد ، عن سعيد بن جبير : " أو ينفوا من الأرض " ، قال : من أخاف سبيل المسلمين ، نفي من بلده إلى غيره ، لقول الله جل وعز : " أو ينفوا من الأرض " .

11869 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني الليث قال : حدثني يزيد بن أبي حبيب وغيره ، عن حيان بن سريج : أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز في اللصوص ، ووصف له لصوصيتهم ، وحبسهم في السجون ، قال : قال الله في كتابه : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف " ، وترك : " أو ينفوا من الأرض " . فكتب إليه عمر بن عبد العزيز : "أما بعد ، فإنك كتبت إلي تذكر قول الله جل وعز : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا [ ص: 271 ] أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف " ، وتركت قول الله : " أو ينفوا من الأرض " ، فنبي أنت ، يا حيان ؟!! لا تحرك الأشياء عن مواضعها ، أتجردت للقتل والصلب كأنك عبد بني عقيل ، من غير ما أشبهك به؟ إذا أتاك [ ص: 272 ] كتابي هذا ، فانفهم إلى شغب " .

11870 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : حدثني الليث ، عن يزيد وغيره ، بنحو هذا الحديث غير أن يونس قال في حديثه : "كأنك عبد بني أبي عقال ، من غير أن أشبهك به" .

11871 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، أن الصلت ، كاتب حيان بن سريج ، أخبرهم : أن حيان كتب إلى عمر بن عبد العزيز : "أن ناسا من القبط قامت عليهم البينة بأنهم حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا ، وأن الله يقول : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا " فقرأ حتى بلغ ، " وأرجلهم من خلاف " ، وسكت عن النفي . وكتب إليه : "فإن رأى أمير المؤمنين أن يمضي قضاء الله فيهم ، فليكتب بذلك" . فلما قرأ عمر بن عبد العزيز كتابه قال : لقد اجتزأ حيان ثم كتب إليه : "إنه قد بلغني كتابك وفهمته ، ولقد اجتزأت ، كأنما كتبت بكتاب يزيد بن أبي مسلم ، أو علج صاحب العراق ، من غير أن أشبهك بهما ، فكتبت [ ص: 273 ] بأول الآية ، ثم سكت عن آخرها ، وإن الله يقول : " أو ينفوا من الأرض " ، فإن كانت قامت عليهم البينة بما كتبت به ، فاعقد في أعناقهم حديدا ، ثم غيبهم إلى شغب وبدا . "

قال أبو جعفر : "شغب و"بدا" ، موضعان . [ ص: 274 ]

وقال آخرون : معنى" النفي من الأرض " ، في هذا الموضع : الحبس .

ذكر من روى ذلك عنه :

وهو قول أبي حنيفة وأصحابه .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : معنى"النفي من الأرض " في هذا الموضع ، هو نفيه من بلد إلى بلد غيره ، وحبسه في السجن في البلد الذي نفي إليه ، حتى تظهر توبته من فسوقه ، ونزوعه عن معصيته ربه .

وإنما قلت ذلك أولى الأقوال بالصحة ، لأن أهل التأويل اختلفوا في معنى ذلك على أحد الأوجه الثلاثة التي ذكرت . وإذ كان ذلك كذلك وكان معلوما أن الله جل ثناؤه إنما جعل جزاء المحارب : القتل أو الصلب أو قطع اليد والرجل من خلاف ، بعد القدرة عليه ، لا في حال امتناعه كان معلوما أن النفي أيضا إنما هو جزاؤه بعد القدرة عليه ، لا قبلها . ولو كان هربه من الطلب نفيا له من الأرض ، كان قطع يده ورجله من خلاف في حال امتناعه وحربه على وجه القتال ، بمعنى إقامة الحد عليه بعد القدرة عليه . وفي إجماع الجميع أن ذلك لا يقوم مقام نفيه الذي جعله الله عز وجل حدا له بعد القدرة عليه ، [ بطل أن يكون نفيه من الأرض هربه من الطلب ] .

وإذ كان كذلك ، فمعلوم أنه لم يبق إلا الوجهان الآخران ، وهو النفي من بلدة إلى أخرى غيرها ، أو السجن . فإذ كان كذلك ، فلا شك أنه إذا [ ص: 275 ] نفي من بلدة إلى أخرى غيرها ، فلم ينف من الأرض ، بل إنما نفي من أرض دون أرض . وإذ كان ذلك كذلك وكان الله جل ثناؤه إنما أمر بنفيه من الأرض كان معلوما أنه لا سبيل إلى نفيه من الأرض إلا بحبسه في بقعة منها عن سائرها ، فيكون منفيا حينئذ عن جميعها ، إلا مما لا سبيل إلى نفيه منه .

وأما معنى"النفي" ، في كلام العرب ، فهو الطرد ، ومن ذلك قول أوس بن حجر :


ينفون عن طرق الكرام كما تنفي المطارق ما يلي القرد



ومنه قيل للدراهم الرديئة وغيرها من كل شيء : "النفاية" . وأما المصدر من "نفيت" ، فإنه "النفي" "والنفاية" ، ويقال : "الدلو ينفي الماء" ، ويقال لما تطاير من الماء من الدلو : "النفي" ، ومنه قول الراجز :


[ ص: 276 ] كأن متنيه من النفي     مواقع الطير على الصفي



ومنه قيل : "نفى شعره" ، إذا سقط ، يقال : "حال لونك ، ونفى شعرك" .

التالي السابق


الخدمات العلمية