[ ص: 309 ] القول في تأويل قوله عز وجل (
ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك )
قال
أبو جعفر : يقول جل ثناؤه لنبيه
محمد صلى الله عليه وسلم : يا أيها الرسول لا يحزنك تسرع من تسرع من هؤلاء المنافقين الذين يظهرون بألسنتهم تصديقك ، وهم معتقدون تكذيبك إلى الكفر بك ، ولا تسرع
اليهود إلى جحود نبوتك . ثم وصف جل وعز صفتهم ،
ونعتهم له بنعوتهم الذميمة وأفعالهم الرديئة ، وأخبره معزيا له على ما يناله من الحزن بتكذيبهم إياه ، مع علمهم بصدقه ، أنهم أهل استحلال الحرام والمآكل الرديئة والمطاعم الدنيئة من الرشى والسحت ، وأنهم أهل إفك وكذب على الله ، وتحريف لكتابه . ثم أعلمه أنه محل بهم خزيه في عاجل الدنيا ، وعقابه في آجل الآخرة . فقال : هم"سماعون للكذب " ، يعني هؤلاء المنافقين من
اليهود ، يقول : هم يسمعون الكذب ، و"سمعهم الكذب " ، سمعهم قول أحبارهم : أن حكم الزاني المحصن في التوراة التحميم والجلد"سماعون لقوم آخرين لم يأتوك " ، يقول : يسمعون لأهل الزاني الذين أرادوا الاحتكام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم القوم الآخرون الذين لم يكونوا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا مصرين على أن يأتوه ، كما قال
مجاهد : -
11927 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثني
حجاج عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، قال
مجاهد : "
سماعون لقوم آخرين لم يأتوك " ، مع من أتوك .
[ ص: 310 ]
واختلف أهل التأويل في"السماعين للكذب السماعين لقوم آخرين" .
فقال بعضهم : "سماعون لقوم آخرين " ، يهود فدك . و"القوم الآخرون " الذين لم يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يهود المدينة .
ذكر من قال ذلك :
11928 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
إسحاق قال ، حدثنا
عبد الله بن الزبير ، عن
ابن عيينة قال ، حدثنا
زكريا nindex.php?page=showalam&ids=16878ومجالد ، عن
الشعبي ، عن
جابر في قوله : "
ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين " ، قال : يهود
المدينة "
لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه " ، قال : يهود
فدك ، يقولون ليهود
المدينة : "إن أوتيتم هذا فخذوه" .
وقال آخرون : المعني بذلك قوم من
اليهود ، كان أهل المرأة التي بغت ، بعثوا بهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحكم فيها . والباعثون بهم هم"القوم الآخرون " ، وهم أهل المرأة الفاجرة ، لم يكونوا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ذكر من قال ذلك :
11929 - حدثني
محمد بن الحسين قال ، حدثنا
أحمد بن مفضل قال ، حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي قوله : "
ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون " ، فإن بني إسرائيل أنزل الله عليهم : "إذا زنى منكم أحد فارجموه " ، فلم يزالوا بذلك حتى زنى رجل من خيارهم ، فلما اجتمعت بنو إسرائيل يرجمونه ، قام الخيار والأشراف فمنعوه . ثم زنى رجل من الضعفاء ،
[ ص: 311 ] فاجتمعوا ليرجموه ، فاجتمعت الضعفاء فقالوا : لا ترجموه حتى تأتوا بصاحبكم فترجمونهما جميعا! فقالت بنو إسرائيل : إن هذا الأمر قد اشتد علينا ، فتعالوا فلنصلحه! فتركوا الرجم ، وجعلوا مكانه أربعين جلدة بحبل مقير ، ويحملونه على حمار ووجهه إلى ذنبه ، ويسودون وجهه ، ويطوفون به . فكانوا يفعلون ذلك حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم وقدم
المدينة ، فزنت امرأة من أشراف
اليهود يقال لها : "
بسرة " ، فبعث أبوها ناسا من أصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : سلوه عن الزنا وما نزل إليه فيه ، فإنا نخاف أن يفضحنا ويخبرنا بما صنعنا ، فإن أعطاكم الجلد فخذوه ، وإن أمركم بالرجم فاحذروه! فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه ، فقال : الرجم! فأنزل الله عز وجل : "
ومن الذين هادوا سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه " ، حين حرفوا الرجم فجعلوه جلدا .
قال
أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : إن"السماعين للكذب " ، هم"السماعون لقوم آخرين" .
وقد يجوز أن يكون أولئك كانوا من يهود
المدينة ، والمسموع لهم من يهود فدك ويجوز أن يكون كانوا من غيرهم . غير أنه أي ذلك كان ، فهو من صفة قوم من يهود ، سمعوا الكذب على الله في حكم المرأة التي كانت بغت فيهم وهي محصنة ، وأن حكمها في التوراة التحميم والجلد ، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحكم اللازم لها ، وسمعوا ما يقول فيها قوم المرأة الفاجرة قبل أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم محتكمين إليه فيها . وإنما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك
[ ص: 312 ] لهم ، ليعلموا أهل المرأة الفاجرة ما يكون من جوابه لهم . فإن لم يكن من حكمه الرجم رضوا به حكما فيهم . وإن كان من حكمه الرجم ، حذروه وتركوا الرضى به وبحكمه .
وبنحو الذي قلنا كان
ابن زيد يقول .
11930 - حدثني
يونس قال ، أخبرنا
ابن وهب قال ، قال
ابن زيد في قوله : "
سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين " ، قال : لقوم آخرين لم يأتوه من أهل الكتاب ، هؤلاء سماعون لأولئك القوم الآخرين الذين لم يأتوه ، يقولون لهم الكذب : "
محمد كاذب ، وليس هذا في التوراة ، فلا تؤمنوا به" .