القول في تأويل قوله (
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ( 82 ) )
قال
أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه
محمد صلى الله عليه وسلم : لتجدن ، يا
محمد ، أشد الناس عداوة للذين صدقوك واتبعوك وصدقوا بما جئتهم به من أهل الإسلام " اليهود والذين أشركوا " ، يعني : عبدة الأوثان الذين اتخذوا الأوثان آلهة يعبدونها من دون الله " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا " ، يقول : ولتجدن أقرب الناس مودة ومحبة .
و"المودة " "المفعلة " ، من قول الرجل : "وددت كذا أوده ودا ، وودا ، وودا ومودة " ، إذا أحببته .
"للذين آمنوا " ، يقول : للذين صدقوا الله ورسوله
محمدا صلى الله عليه وسلم "
الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون " ،
[ ص: 499 ] عن قبول الحق واتباعه والإذعان به .
وقيل : إن هذه الآية والتي بعدها نزلت في نفر قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى الحبشة ، فلما سمعوا القرآن أسلموا واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقيل : إنها نزلت في
النجاشي ملك الحبشة وأصحاب له أسلموا معه .
ذكر من قال ذلك :
12315 - حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12461محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال ، حدثنا
عبد الواحد بن زياد قال ، حدثنا
خصيف ، عن
سعيد بن جبير قال :
بعث النجاشي وفدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا . قال : فأنزل الله تعالى فيهم : " لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا " ، إلى آخر الآية . قال : فرجعوا إلى النجاشي فأخبروه ، فأسلم النجاشي ، فلم يزل مسلما حتى مات . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أخاكم النجاشي قد مات ، فصلوا عليه! فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، nindex.php?page=showalam&ids=888والنجاشي ثم .
12316 - حدثني
محمد بن عمرو قال ، حدثنا
أبو عاصم قال ، حدثنا
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قول الله : "
ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى " ، قال : هم الوفد الذين جاءوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة .
12317 - حدثني
المثنى قال ، حدثنا
عبد الله بن صالح قال ، حدثني
معاوية بن صالح ، عن
علي بن أبي طلحة ، عن
ابن عباس : "
ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى " ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
بمكة خاف على أصحابه من المشركين ، فبعث
nindex.php?page=showalam&ids=315جعفر بن أبي طالب ، وابن [ ص: 500 ] مسعود nindex.php?page=showalam&ids=5559وعثمان بن مظعون ، في رهط من أصحابه إلى
النجاشي ملك الحبشة . فلما بلغ ذلك المشركين ، بعثوا
عمرو بن العاص في رهط منهم ، ذكر أنهم سبقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى
النجاشي ، فقالوا ، إنه خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامها ، زعم أنه نبي! وإنه بعث إليك رهطا ليفسدوا عليك قومك ، فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم . قال : إن جاءوني نظرت فيما يقولون! فقدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأموا باب
النجاشي ، فقالوا : استأذن لأولياء الله! فقال ، ائذن لهم ، فمرحبا بأولياء الله! فلما دخلوا عليه سلموا ، فقال له الرهط من المشركين : ألا ترى أيها الملك أنا صدقناك؟ لم يحيوك بتحيتك التي تحيا بها! فقال لهم : ما منعكم أن تحيوني بتحيتي ؟ فقالوا : إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة! قال لهم : ما يقول صاحبكم في
عيسى وأمه؟ قال يقول : " هو عبد الله وكلمة من الله ألقاها إلى مريم وروح منه " ، ويقول في مريم : "إنها العذراء البتول" . قال : فأخذ عودا من الأرض فقال : ما زاد
عيسى وأمه على ما قال صاحبكم قدر هذا العود! فكره المشركون قوله ، وتغيرت وجوههم . قال لهم : هل تعرفون شيئا مما أنزل عليكم؟ قالوا : نعم! قال : اقرءوا ! فقرءوا ، وهنالك منهم قسيسون ورهبان وسائر
النصارى ، فعرفت كل ما قرءوا وانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق . قال الله تعالى ذكره : "
ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول " الآية .
12318 - حدثني
محمد بن الحسين قال ، حدثني
أحمد بن مفضل قال ، حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : "
ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى " ، الآية . قال : بعث
النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنى
[ ص: 501 ] عشر رجلا من الحبشة ، سبعة قسيسين وخمسة رهبانا ، ينظرون إليه ويسألونه . فلما لقوه فقرأ عليهم ما أنزل الله بكوا وآمنوا ، فأنزل الله عليه فيهم : "
وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين " ، فآمنوا ثم رجعوا إلى
النجاشي ، فهاجر
النجاشي معهم فمات في الطريق ، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون واستغفروا له .
12319 - حدثنا
القاسم قال ، حدثنا
الحسين ، حدثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج قال ، قال
عطاء في قوله : "
ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى " الآية ، هم ناس من الحبشة آمنوا ، إذ جاءتهم مهاجرة المؤمنين .
وقال آخرون : بل هذه صفة قوم كانوا على شريعة
عيسى من أهل الإيمان ، فلما بعث الله تعالى ذكره نبيه
محمدا صلى الله عليه وسلم آمنوا به .
ذكر من قال ذلك :
12320 - حدثنا
بشر بن معاذ قال ، حدثنا
يزيد قال ، حدثنا
سعيد ، عن
قتادة قوله : "
ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا " ، فقرأ حتى بلغ : "فاكتبنا مع الشاهدين " أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به
عيسى ، يؤمنون به وينتهون إليه . فلما بعث الله نبيه
محمدا صلى الله عليه وسلم ، صدقوا به وآمنوا به ، وعرفوا الذي جاء به أنه الحق ، فأثنى عليهم ما تسمعون .
قال
أبو جعفر : والصواب في ذلك من القول عندي : أن الله تعالى وصف صفة قوم قالوا : "إنا نصارى " ، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم يجدهم أقرب الناس ودادا لأهل الإيمان بالله ورسوله ، ولم يسم لنا أسماءهم . وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحاب
النجاشي ويجوز أن يكون أريد به قوم كانوا على شريعة
[ ص: 502 ] عيسى ، فأدركهم الإسلام فأسلموا لما سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق ، ولم يستكبروا عنه .
وأما قوله تعالى : "
ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا " ، فإنه يقول : قربت مودة هؤلاء الذين وصف الله صفتهم للمؤمنين ، من أجل أن منهم قسيسين ورهبانا .
و"القسيسون " جمع "قسيس" . وقد يجمع "القسيس " ، "قسوسا " ، لأن "القس " و"القسيس " ، بمعنى واحد .
وكان
ابن زيد يقول في"القسيس " بما : -
12321 - حدثنا
يونس قال ، حدثنا
ابن وهب قال ، قال
ابن زيد : "القسيس " ، عبادهم .
وأما الرهبان ، فإنه يكون واحدا وجمعا . فأما إذا كان جمعا ، فإن واحدهم يكون"راهبا " ، ويكون"الراهب " ، حينئذ "فاعلا " من قول القائل : "رهب الله فلان " ، بمعنى خافه ، "يرهبه رهبا ورهبا " ، ثم يجمع"الراهب " ، "رهبان " مثل"راكب " و"ركبان " ، و"فارس " و"فرسان" . ومن الدليل على أنه قد يكون عند العرب جمعا قول الشاعر :
رهبان مدين لو رأوك تنزلوا والعصم من شعف العقول الفادر
[ ص: 503 ] وقد يكون"الرهبان " واحدا . وإذا كان واحدا كان جمعه"رهابين " مثل "قربان " و"قرابين " ، و"جردان" . و"جرادين" . ويجوز جمعه أيضا"رهابنة " إذا كان كذلك . ومن الدليل على أنه قد يكون عند العرب واحدا قول الشاعر :
لو عاينت رهبان دير في القلل لانحدر الرهبان يمشي ونزل
[ ص: 504 ] واختلف أهل التأويل في المعني بقوله : "ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا" .
فقال بعضهم : عني بذلك قوم كانوا استجابوا
لعيسى ابن مريم حين دعاهم ، واتبعوه على شريعته .
ذكر من قال ذلك :
12321 م - حدثني
يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا
هشيم ، عن
حصين ، عمن حدثه ، عن
ابن عباس في قوله : "
ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا " ، قال : كانوا نواتي في البحر يعني : ملاحين قال : فمر بهم
عيسى ابن مريم ، فدعاهم إلى الإسلام فأجابوه : قال : فذلك قوله : "
قسيسين ورهبانا " .
وقال آخرون : بل عني بذلك ، القوم الذين كان
النجاشي بعثهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ذكر من قال ذلك :
12322 - حدثنا
ابن حميد قال ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15738حكام بن سلم قال ، حدثنا
عنبسة ، عمن حدثه ، عن
أبي صالح في قوله : "
ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا " ، قال : ستة وستون ، أو سبعة وستون ، أو ثمان وستون من الحبشة ، كلهم
[ ص: 505 ] صاحب صومعة ، عليهم ثياب الصوف .
12323 - حدثنا
ابن وكيع قال ، حدثنا
عبد الرحمن بن مهدي ، عن
سفيان ، عن
سالم ، عن
سعيد بن جبير : "
ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا " ، قال : بعث
النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم خمسين أو سبعين من خيارهم ، فجعلوا يبكون ، فقال : هم هؤلاء !
12324 - حدثني
الحارث قال ، حدثنا
عبد العزيز قال ، حدثنا
قيس ، عن
سالم الأفطس ، عن
سعيد بن جبير : "
ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا " ، قال : هم رسل
النجاشي الذين أرسل بإسلامه وإسلام قومه ، كانوا سبعين رجلا اختارهم الخير فالخير ، فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليهم : (
يس والقرآن الحكيم ) [ سورة يس : 1 ، 2 ] ، فبكوا وعرفوا الحق ، فأنزل الله فيهم : "
ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون " ، وأنزل فيهم : (
الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ) إلى قوله : (
يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ) [ سورة القصص : 53 ، 54 ] .
قال
أبو جعفر : والصواب في ذلك من القول عندنا أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن النفر الذين أثنى عليهم من
النصارى بقرب مودتهم لأهل الإيمان بالله ورسوله ، أن ذلك إنما كان منهم لأن منهم أهل اجتهاد في العبادة ، وترهب في الديارات والصوامع ، وأن منهم علماء بكتبهم وأهل تلاوة لها ، فهم لا يبعدون من المؤمنين لتواضعهم للحق إذا عرفوه ، ولا يستكبرون عن قبوله إذا تبينوه ، لأنهم
[ ص: 506 ] أهل دين واجتهاد فيه ، ونصيحة لأنفسهم في ذات الله ، وليسوا
كاليهود الذين قد دربوا بقتل الأنبياء والرسل ، ومعاندة الله في أمره ونهيه ، وتحريف تنزيله الذي أنزله في كتبه .