صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : "فمن لم يجد " ، لكفارة يمينه التي لزمه تكفيرها من الطعام والكسوة والرقاب ما يكفرها به على ما فرضنا عليه وأوجبناه في كتابنا وعلى لسان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم "فصيام ثلاثة أيام " ، يقول : فعليه صيام ثلاثة أيام .

ثم اختلف أهل العلم في معنى قوله : "فمن لم يجد " ، ومتى يستحق الحانث في يمينه الذي قد لزمته الكفارة ، اسم "غير واجد " ، حتى يكون ممن له الصيام في ذلك .

فقال بعضهم : إذا لم يكن للحانث في وقت تكفيره عن يمينه إلا قدر قوته وقوت عياله يومه وليلته ، فإن له أن يكفر بالصيام . فإن كان عنده في ذلك الوقت قوته وقوت عياله يومه وليلته ، ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين أو ما يكسوهم ، لزمه التكفير بالإطعام أو الكسوة ، ولم يجزه الصيام حينئذ .

وممن قال ذلك الشافعي :

12491 - حدثنا بذلك عنه الربيع .

وهذا القول قصد إن شاء الله من أوجب الطعام على من كان عنده درهمان ، [ ص: 558 ] من أوجبه على من عنده ثلاثة دراهم . وبنحو ذلك : -

12492 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن حماد بن سلمة ، عن عبد الكريم ، عن سعيد بن جبير ، قال : إذا لم يكن له إلا ثلاثة دراهم أطعم قال : يعني في الكفارة .

12493 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني معتمر بن سليمان قال : قلت لعمر بن راشد : الرجل يحلف ولا يكون عنده من الطعام إلا بقدر ما يكفر ، قال : كان قتادة يقول : يصوم ثلاثة أيام .

12494 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان قال ، حدثنا يونس بن عبيد ، عن الحسن قال ، إذا كان عنده درهمان .

12495 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا معتمر ، عن حماد ، عن عبد الكريم أبي أمية ، عن سعيد بن جبير قال : ثلاثة دراهم .

وقال آخرون : جائز لمن لم يكن عنده مائتا درهم أن يصوم ، وهو ممن لا يجد .

وقال آخرون : جائز لمن لم يكن عنده فضل عن رأس ماله يتصرف به لمعاشه ما يكفر به بالإطعام أن يصوم ، إلا أن يكون له كفاية ، ومن المال ما يتصرف به لمعاشه ، ومن الفضل عن ذلك ما يكفر به عن يمينه . وهذا قول كان يقوله بعض متأخري المتفقهة .

[ ص: 559 ] قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن من لم يكن عنده في حال حنثه في يمينه إلا قدر قوته وقوت عياله يومه وليلته ، لا فضل له عن ذلك ، يصوم ثلاثة أيام ، وهو ممن دخل في جملة من لا يجد ما يطعم أو يكسو أو يعتق . وإن كان عنده في ذلك الوقت من الفضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته ، ما يطعم أو يكسو عشرة مساكين ، أو يعتق رقبة ، فلا يجزيه حينئذ الصوم ، لأن إحدى الحالات الثلاث حينئذ من إطعام أو كسوة أو عتق ، حق قد أوجبه الله تعالى ذكره في ماله وجوب الدين . وقد قامت الحجة بأن المفلس إذا فرق ماله بين غرمائه : أنه لا يترك ذلك اليوم إلا ما لابد له من قوته وقوت عياله يومه وليلته . فكذلك حكم المعدم بالدين الذي أوجبه الله تعالى ذكره في ماله بسبب الكفارة التي لزمت ماله .

واختلف أهل العلم في صفة الصوم الذي أوجبه الله في كفارة اليمين . فقال بعضهم : صفته أن يكون مواصلا بين الأيام الثلاثة غير مفرقها .

ذكر من قال ذلك :

12496 - حدثنا محمد بن العلاء قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد قال : كل صوم في القرآن فهو متتابع ، إلا قضاء رمضان ، فإنه عدة من أيام أخر .

12497 - حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس قال : كان أبي بن كعب يقرأ : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

12498 - حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسدي قال ، حدثنا عبيد الله بن [ ص: 560 ] موسى ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب ، أنه كان يقرأ : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

12499 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن قزعة ، عن سويد ، عن سيف بن سليمان ، عن مجاهد ، قال : في قراءة عبد الله : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

12500 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن ابن عون ، عن إبراهيم قال : في قراءتنا : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

12501 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن إبراهيم ، مثله .

12502 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في قراءة أصحاب عبد الله : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

12503 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عامر قال : في قراءة عبد الله : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

12504 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن حميد ، عن معمر ، عن أبي إسحاق في قراءة عبد الله : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

12505 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن حميد ، عن معمر ، [ ص: 561 ] عن الأعمش قال : كان أصحاب عبد الله يقرؤن : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) .

12506 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع قال ، سمعت سفيان ، يقول : إذا فرق صيام ثلاثة أيام لم يجزه . قال : وسمعته يقول في رجل صام في كفارة يمين ثم أفطر ، قال ، يستقبل الصوم .

12507 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : "فصيام ثلاثة أيام " ، قال : إذا لم يجد طعاما ، وكان في بعض القراءة : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) . وبه كان يأخذ قتادة .

12508 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : هو بالخيار في هؤلاء الثلاثة ، الأول فالأول ، فإن لم يجد من ذلك شيئا فصيام ثلاثة أيام متتابعات .

وقال آخرون : جائز لمن صامهن أن يصومهن كيف شاء ، مجتمعات ومفترقات .

ذكر من قال ذلك :

12509 - حدثني يونس قال ، أخبرنا أشهب قال ، قال مالك : كل ما ذكر الله في القرآن من الصيام ، فأن يصام تباعا أعجب . فإن فرقها رجوت أن تجزئ عنه .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تعالى [ ص: 562 ] ذكره أوجب على من لزمته كفارة يمين ، إذا لم يجد إلى تكفيرها بالإطعام أو الكسوة أو العتق سبيلا أن يكفرها بصيام ثلاثة أيام ، ولم يشرط في ذلك متتابعة . فكيفما صامهن المكفر مفرقة ومتتابعة أجزأه . لأن الله تعالى ذكره إنما أوجب عليه صيام ثلاثة أيام ، فكيفما أتى بصومهن أجزأ .

فأما ما روى عن أبي وابن مسعود من قراءتهما : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) ، فذلك خلاف ما في مصاحفنا . وغير جائز لنا أن نشهد لشيء ليس في مصاحفنا من الكلام أنه من كتاب الله . غير أني أختار للصائم في كفارة اليمين أن يتابع بين الأيام الثلاثة ، ولا يفرق . لأنه لا خلاف بين الجميع أنه إذا فعل ذلك فقد أجزأ ذلك عنه من كفارته ، وهم في غير ذلك مختلفون . ففعل ما لا يختلف في جوازه أحب إلي ، وإن كان الآخر جائزا .

التالي السابق


الخدمات العلمية