[ ص: 344 ] القول في تأويل قوله (
وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ( 38 ) )
قال
أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - لنبيه
محمد - صلى الله عليه وسلم - : قل لهؤلاء المعرضين عنك ، المكذبين بآيات الله : أيها القوم ، لا تحسبن الله غافلا عما تعملون ، أو أنه غير مجازيكم على ما تكسبون . وكيف يغفل عن أعمالكم ، أو يترك مجازاتكم عليها ، وهو غير غافل عن عمل شيء دب على الأرض صغير أو كبير ، ولا عمل طائر طار بجناحيه في الهواء ، بل جعل ذلك كله أجناسا مجنسة وأصنافا مصنفة ، تعرف كما تعرفون ، وتتصرف فيما سخرت له كما تتصرفون ، ومحفوظ عليها ما عملت من عمل لها وعليها ، ومثبت كل ذلك من أعمالها في أم الكتاب . ثم إنه - تعالى ذكره - مميتها ثم منشرها ومجازيها يوم القيامة جزاء أعمالها . يقول : فالرب الذي لم يضيع حفظ أعمال البهائم والدواب في الأرض ، والطير في الهواء - حتى حفظ عليها حركاتها وأفعالها ، وأثبت ذلك منها في أم الكتاب ، وحشرها ثم جازاها على ما سلف منها في دار البلاء - أحرى أن لا يضيع أعمالكم ، ولا يفرط في حفظ أفعالكم التي تجترحونها - أيها الناس - حتى يحشركم فيجازيكم على جميعها ، إن خيرا فخيرا ، وإن شرا فشرا ، إذ كان قد خصكم من نعمه ، وبسط عليكم من فضله ، ما لم يعم به غيركم في الدنيا ، وكنتم بشكره أحق ، وبمعرفة واجبه عليكم أولى ؛ لما أعطاكم من العقل - الذي به بين الأشياء تميزون - والفهم
[ ص: 345 ] الذي لم يعطه البهائم والطير ، الذي به بين مصالحكم ومضاركم تفرقون .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
13211 - حدثني
محمد بن عمرو قال : حدثنا
أبو عاصم قال : حدثنا
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قوله : "
أمم أمثالكم " أصناف مصنفة تعرف بأسمائها .
13212 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
أبو حذيفة قال : حدثنا
شبل ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد مثله .
13213 - حدثنا
الحسن بن يحيى قال : أخبرنا
عبد الرزاق قال : أخبرنا
معمر ، عن
قتادة في قوله : "
وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم " يقول : الطير أمة ، والإنس أمة ، والجن أمة .
13214 - حدثني
محمد بن الحسين قال : حدثنا
أحمد بن مفضل قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي قوله : "
إلا أمم أمثالكم " يقول : إلا خلق أمثالكم .
13215 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال حدثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج في قوله : "
وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم " قال : الذرة فما فوقها من ألوان ما خلق الله من الدواب .
وأما قوله : "
ما فرطنا في الكتاب من شيء " فإن معناه : ما ضيعنا إثبات شيء منه . كالذي :
13216 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
عبد الله بن صالح قال حدثني
معاوية بن صالح ، عن
علي بن أبي طلحة ، عن
ابن عباس : "
ما فرطنا في الكتاب من شيء " ما تركنا شيئا إلا قد كتبناه في أم الكتاب .
13217 - حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال قال
ابن زيد في قوله :
[ ص: 346 ] "
ما فرطنا في الكتاب من شيء " قال : لم نغفل الكتاب ، ما من شيء إلا وهو في الكتاب .
13218 - وحدثني به
يونس مرة أخرى قال : في قوله : "
فرطنا في الكتاب من شيء " قال : كلهم مكتوب في أم الكتاب .
وأما قوله : "
ثم إلى ربهم يحشرون " فإن أهل التأويل اختلفوا في معنى " حشرهم " الذي عناه الله - تعالى ذكره - في هذا الموضع .
فقال بعضهم : " حشرها " موتها .
ذكر من قال ذلك :
13219 - حدثني
محمد بن عمارة الأسدي قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16527عبيد الله بن موسى ، عن
إسرائيل عن
سعيد ، عن
مسروق ، عن
عكرمة ، عن
ابن عباس : "
وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم " قال
ابن عباس : موت البهائم حشرها .
13220 - حدثني
محمد بن سعد قال حدثني أبي قال حدثني عمي قال حدثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس : "
ثم إلى ربهم يحشرون " قال : يعني بالحشر الموت .
13221 - حدثنا عن
الحسين بن الفرج قال سمعت
أبا معاذ الفضل بن خالد قال : حدثنا
عبيد بن سليمان قال سمعت
الضحاك يقول في قوله : "
ثم إلى ربهم يحشرون "
[ ص: 347 ] يعني بالحشر الموت .
وقال آخرون : "
الحشر " في هذا الموضع يعني به : الجمع لبعث الساعة وقيام القيامة .
ذكر من قال ذلك :
13222 - حدثنا
محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا
محمد بن ثور ، عن
معمر وحدثنا
الحسن بن يحيى قال : أخبرنا
عبد الرزاق قال : أخبرنا
معمر عن
جعفر بن برقان ، عن
يزيد بن الأصم ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة في قوله : "
إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون " قال : يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة ، البهائم والدواب والطير وكل شيء ، فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء ، ثم يقول : " كوني ترابا " فلذلك يقول الكافر :
يا ليتني كنت ترابا [ سورة النبأ : 40 ] .
13223 - حدثنا
محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا
محمد بن ثور ، عن
معمر وحدثنا
الحسن بن يحيى قال : أخبرنا
عبد الرزاق قال : أخبرنا
معمر ، عن
الأعمش ، عمن ذكره ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=812168عن أبي ذر قال : بينا أنا عند رسول الله صلى الله عليه [ ص: 348 ] وسلم إذ انتطحت عنزان ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أتدرون فيما انتطحتا ؟ قالوا : لا ندري . قال : " لكن الله يدري ، وسيقضي بينهما .
13224 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
إسحاق بن سليمان قال : حدثنا
فطر بن خليفة ، عن
منذر الثوري ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=812169عن أبي ذر قال : انتطحت شاتان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي : يا أبا ذر ، أتدري فيم انتطحتا " ؟ قلت : لا . قال : لكن الله يدري وسيقضي بينهما . قال أبو ذر : لقد تركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علما .
[ ص: 349 ]
قال
أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله - تعالى ذكره - أخبر أن كل دابة وطائر محشور إليه . وجائز أن يكون معنيا بذلك حشر القيامة ، وجائز أن يكون معنيا به حشر الموت ، وجائز أن يكون معنيا به الحشران جميعا ، ولا دلالة في ظاهر التنزيل ، ولا في خبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أي ذلك المراد بقوله : "
ثم إلى ربهم يحشرون " إذ كان " الحشر " في كلام العرب الجمع ، ومن ذلك قول الله - تعالى ذكره - :
والطير محشورة كل له أواب [ سورة ص : 19 ] ، يعني : مجموعة . فإذا كان الجمع هو " الحشر " وكان الله - تعالى ذكره - جامعا خلقه إليه يوم القيامة ، وجامعهم بالموت ، كان أصوب القول في ذلك أن يعم بمعنى الآية ما عمه الله بظاهرها وأن يقال : كل دابة وكل طائر محشور إلى الله بعد الفناء وبعد بعث القيامة ، إذ كان الله - تعالى ذكره - قد عم بقوله : "
ثم إلى ربهم يحشرون " ولم يخصص به حشرا دون حشر .
فإن قال قائل : فما وجه قوله : "
ولا طائر يطير بجناحيه " ؟ وهل يطير الطائر إلا بجناحيه ؟ فما في الخبر عن طيرانه بالجناحين من الفائدة ؟
قيل : قد قدمنا القول فيما مضى أن الله - تعالى ذكره - أنزل هذا الكتاب بلسان قوم ، وبلغاتهم وما يتعارفونه بينهم ويستعملونه في منطقهم خاطبهم . فإذ كان من كلامهم إذا أرادوا المبالغة في الكلام أن يقولوا : " كلمت فلانا بفمي " و " مشيت إليه برجلي " و " ضربته بيدي " خاطبهم تعالى بنظير ما يتعارفونه في كلامهم ، ويستعملونه في خطابهم ، ومن ذلك قوله - تعالى ذكره - : (
إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة أنثى ) [ سورة ص : 23 ] .