صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ( 44 ) )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : " فلما نسوا ما ذكروا به " فلما تركوا العمل بما أمرناهم به على ألسن رسلنا ، كالذي : -

13226 - حدثنا المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " فلما نسوا ما ذكروا به " يعني : تركوا ما ذكروا به .

13227 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج ، عن [ ص: 358 ] ابن جريج قوله : " نسوا ما ذكروا به " قال : ما دعاهم الله إليه ورسله ، أبوه وردوه عليهم .

" فتحنا عليهم أبواب كل شيء " يقول : بدلنا مكان البأساء الرخاء والسعة في العيش ، ومكان الضراء الصحة والسلامة في الأبدان والأجسام ، استدراجا منا لهم ، كالذي : -

13228 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال حدثني عيسى وحدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله - تعالى ذكره - : " فتحنا عليهم أبواب كل شيء " قال : رخاء الدنيا ويسرها على القرون الأولى .

13229 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " فتحنا عليهم أبواب كل شيء " قال : يعني الرخاء وسعة الرزق .

13230 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط . عن السدي قوله : " فتحنا عليهم أبواب كل شيء " يقول : من الرزق .

فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : " فتحنا عليهم أبواب كل شيء " وقد علمت أن باب الرحمة وباب التوبة [ لم يفتحا لهم ] ، ولم تفتح لهم أبواب أخر غيرهما كثيرة ؟

قيل : إن معنى ذلك على غير الوجه الذي ظننت من معناه ، وإنما معنى ذلك : فتحنا عليهم ، استدراجا منا لهم ، أبواب كل ما كنا سددنا عليهم بابه ، عند أخذنا إياهم بالبأساء والضراء ليتضرعوا ، إذ لم يتضرعوا وتركوا أمر الله تعالى [ ص: 359 ] ذكره ، لأن آخر هذا الكلام مردود على أوله . وذلك كما قال - تعالى ذكره - في موضع آخر من كتابه : وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون ، [ سورة الأعراف : 94 - 95 ] ، ففتح الله على القوم الذين ذكر في هذه الآية [ أنهم نسوا ما ] ذكرهم ، بقوله : " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء " هو تبديله لهم مكان السيئة التي كانوا فيها في حال امتحانه إياهم ، من ضيق العيش إلى الرخاء والسعة ، ومن الضر في الأجسام إلى الصحة والعافية ، وهو " فتح أبواب كل شيء " كان أغلق بابه عليهم ، مما جرى ذكره قبل قوله : " فتحنا عليهم أبواب كل شيء " فرد قوله : " فتحنا عليهم أبواب كل شيء " عليه .

ويعني تعالى بقوله : " حتى إذا فرحوا بما أوتوا " يقول : حتى إذا فرح هؤلاء المكذبون رسلهم بفتحنا عليهم أبواب السعة في المعيشة ، والصحة في الأجسام ، كالذي : -

13231 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " حتى إذا فرحوا بما أوتوا " من الرزق .

13232 - حدثنا الحارث قال : حدثنا القاسم بن سلام قال سمعت عبد الرحمن بن مهدي يحدث ، عن حماد بن زيد قال : كان رجل يقول : رحم الله رجلا تلا هذه الآية ، ثم فكر فيها ماذا أريد بها : " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة " .

13233 - حدثني الحارث قال : حدثنا القاسم قال : حدثنا ابن أبي رجاء رجل من أهل الشعر ، عن عبد الله بن المبارك ، عن محمد بن النضر الحارثي في [ ص: 360 ] قوله : " أخذناهم بغتة " قال : أمهلوا عشرين سنة .

ويعني - تعالى ذكره - بقوله : " أخذناهم بغتة " أتيناهم بالعذاب فجأة ، وهم غارون لا يشعرون أن ذلك كائن ، ولا هو بهم حال ، كما : -

13234 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة " قال : أعجب ما كانت إليهم ، وأغرها لهم .

13235 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي " أخذناهم بغتة " يقول : أخذهم العذاب بغتة .

13236 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " أخذناهم بغتة " قال : فجأة آمنين .

وأما قوله : " فإذا هم مبلسون " فإنهم هالكون ، منقطعة حججهم ، نادمون على ما سلف منهم من تكذيبهم رسلهم ، كالذي : -

13237 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : [ ص: 361 ] حدثنا أسباط ، عن السدي : " فإذا هم مبلسون " قال : فإذا هم مهلكون ، متغير حالهم .

13238 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا شيخ ، عن مجاهد : " فإذا هم مبلسون " قال : الاكتئاب .

13239 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد ، في قوله : " فإذا هم مبلسون " قال : " المبلس " الذي قد نزل به الشر الذي لا يدفعه . والمبلس أشد من المستكين ، وقرأ : فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ، [ سورة المؤمنون : 76 ] . وكان أول مرة فيه معاتبة وبقية . وقرأ قول الله : " أخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون " " فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا " حتى بلغ " وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون " ثم جاء أمر ليس فيه بقية . وقرأ : " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون " فجاء أمر ليس فيه بقية . وكان الأول ، لو أنهم تضرعوا كشف عنهم .

13240 - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال : حدثنا بقية بن الوليد ، عن أبي شريح ضبارة بن مالك ، عن أبي الصلت ، عن حرملة أبي عبد الرحمن ، عن عقبة بن مسلم ، عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا رأيت الله يعطي عبده في دنياه ، إنما هو استدراج . ثم تلا هذه الآية : " فلما نسوا ما ذكروا به " إلى قوله : " والحمد لله رب العالمين " .

13241 - وحدثت بهذا الحديث عن محمد بن حرب ، عن ابن لهيعة ، عن عقبة [ ص: 362 ] بن مسلم ، عن عقبة بن عامر : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : وإذا رأيت الله - تعالى ذكره - يعطي العباد ما يسألون على معاصيهم إياه ، فإنما ذلك استدراج منه لهم ! ثم تلا " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء " الآية .

وأصل " الإبلاس " في كلام العرب عند بعضهم : الحزن على الشيء والندم عليه وعند بعضهم : انقطاع الحجة ، والسكوت عند انقطاع الحجة وعند [ ص: 363 ] بعضهم : الخشوع وقالوا : هو المخذول المتروك ، ومنه قول العجاج :


يا صاح هل تعرف رسما مكرسا ؟ قال : نعم ! أعرفه وأبلسا



فتأويل قوله : " وأبلسا " عند الذين زعموا أن " الإبلاس " انقطاع الحجة والسكوت عنده ، بمعنى : أنه لم يحر جوابا .

وتأوله الآخرون بمعنى الخشوع ، وترك أهله إياه مقيما بمكانه .

والآخرون بمعنى الحزن والندم .

يقال منه : " أبلس الرجل إبلاسا " ومنه قيل : لإبليس " إبليس " .

التالي السابق


الخدمات العلمية